التجزيئية والوحدوية وأثرها على التضامن العالمي مع فلسطين

 
النضال التحرري بين القطرية والقومية والعالمية

إن الشعب الفلسطيني لا يكل ولا يمل ولن يهدأ ولن يرتاح حتى ينال حريته وحقوقه. فمنذ اليوم الأول، الذي شعر فيه الفلسطينيون بالظلم نتيجة وعد بلفور المشؤوم في الثاني من نوفمبر 1917، ومروراً بكل الحروب والنكبات والمجازر والمحن التي ألمت به حتى يومنا هذا، بقي الشعب الفلسطيني صامداً مرابطاً ومواجهاً لكل المؤامرات الاستعمارية والاحتلالية التي هدفت إلى إبادته وطمس هويته وتشريده من أرضه.

وقد تعلم الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده وعلى مرّ السنين أن لا يعتمد كثيراً على غيره. فقد قاد النضال من أجل التحرر بإمكانياته المتواضعة التي كانت تزيد وتنقص حسب ظروف المرحلة، ولم يعتمد يوماً بالأساس إلا على قوته الذاتية واستعداد أبنائه للتضحية بالغالي والنفيس من أجل فلسطين.

بيد أن أحداً لا يستطيع أن ينكر البعد العربي والإسلامي للقضية الفلسطينية. فلطالما وقف العرب والمسلمون إلى جانب إخوانهم الفلسطينيين عن طريق توفير الدعم السياسي والمالي للشعب الفلسطيني ومؤسساته في داخل فلسطين وخارجها. لكن كل المال والجهد العربي والإسلامي لم يكن كفيلاً بإنهاء احتلال فلسطين وإرجاع لاجئيها إلى بيوتهم وأراضيهم التي تم تشريدهم منها.

وقد عرف الصهاينة ومن والاهم من الغرب المستعمر أن قوة العرب تكمن في وحدتهم، وأن الطريق الوحيد إلى استعمارهم يكمن في تفرقهم وتشتتهم. فقامت إسرائيل في دك الإسفين الأول في وحدة العرب حين قامت بتوقيع اتفاق سلام منفرد مع مصر عام 1978، ومن ثم اتفاق أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية عام 1993، وبعدها اتفاق سلام منفرد مع الاردن عام 1994. فكانت تصيد دولة عربية تلو الأخرى، وبدأت بعدها علاقات تطبيعية مع المغرب وموريتانيا و قطر والبحرين وغيرهم، رغم انها ما زالت دولة احتلالية تسيطر على الأقصى وكامل تراب فلسطين وتذيق الفلسطينيين أشد أنواع العذاب في سجونها وعلى الحواجز الاحتلالية المنتشرة على أراضي الضفة الغربية.  

إلا أن شيئا حدث في القرن الواحد والعشرين ولم تنتبه له القوى الصهيونية والاستعمارية، وهو التغير الذي طرأ على أدوات الصراع من خلال ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات. فبالرغم من كافة الجهود الحثيثة من إسرائيل والغرب لإبقاء العرب والمسلمين متفرقين متشرذمين حتى يستمروا في السيطرة عليهم وعلى مواردهم، جاءت الفضائيات والاتصالات والإنترنت لتحول دون ذلك. بل نكاد نجزم أن تعطش العرب للوحدة، ووجود لغة وتراث وتاريخ وثقافة واحدة قد ساعد لأن تلعب ثورة المعلومات وتكنولوجيا الاتصالات دوراً رائعا في توحيد العرب أمام شاشات الفضائيات وصفحات الإنترنت العربية المختلفة؛ بل وفي توحيد خطابهم السياسي والإعلامي. فأصبح المواطن العربي يتابع كل ما هو عربي على الفضائيات المختلفة، الإخبارية منها أو الترفيهية أو الرياضية أو غيرها، وأصبحت مصدره الاول في استقاء المعلومة بعد أن كان مرهوناً للمصادر الاجنبية.

وبينما كان معظم العرب مضطرين أن يتابعوا الحرب الأمريكية على العراق التي بدأت في أغسطس عام 1990 على قناة "السي إن إن" لأنها كانت تقريباً المصدر الرئيسي الوحيد الذي بث الاحداث مباشرة من موقع الحدث، كان معظم العرب في الحرب الصهيونية الأخيرة على قطاع غزة الشهر الماضي يتابعون الحرب من خلال الفضائيات العربية المختلفة. لقد أدرك العرب، برغم اختلافاتهم، أنهم بحاجة إلى الرواية العريبة للأحداث العالمية وخاصة للأحداث التي تخص العرب وتحديداً القضية الفلسطينية. فلم تعد الرواية الغربية للأحداث والحروب موثوق بها من قبل العرب، كما كان في السابق.

بل جاءت الإنترنت، ونشاط الأجيال العربية الجديدة عليها، لتشكل ضربة قوية للمؤامرات الصهيونية والغربية. فلا رقيب ولا حسيب ولا تنظير ولا كذب ولا تلفيق للأحداث وتفسيراتها. ولم يعد تمرير الكذب سهلاً هذه الأيام في عصر العولمة والانفتاح، وكل شيء أصبح مفضوح فورياً إما على الفضائيات أو في ذات اللحظة على الإنترنت. ولم تعد إسرائيل تستطيع أن تواجه العرب مجتمعين على شاشات الفضائيات وعلى صفحات الإنترنت. فبينما كان ذلك ممكناً لإسرائيل في عصور الانغلاق والسيطرة على الإعلام العربي الرسمي من خلال تآمرها مع الحكام وأبواقها الإعلامية، تغير الحال اليوم وأصبح كل فرد عربي نشيط فضائية بذاتها على الانترنت. ولا توجد قوة استعمارية ولا احتلالية في العالم تستطيع أن تصد الامتداد التكنولوجي الثوري الذي ما زال يتنامى ويتعاظم مع تطور التكنولوجيا ذاتها.

وقد تعلمت الأجيال العربية الجديدة المتعطشة للعمل على القضايا العربية وخاصة المتألمة من أجل فلسطين وتحررها، أن الجهود بحاجة إلى تضافر وتكامل حتى تؤتي ثمارها. فالمسيرات السلمية التضامنية التي جالت معظم الدول العربية والإسلامية بعد وقت قصير جداً فقط من بدء الهجمات الصهيونية الهمجية على قطاع غزة كانت أكبر دليل على وعي عربي جديد باتجاه العمل الوحدوي والجماعي على قضية مصيرية مثل القضية الفلسطينية.

وقد بدأت الأجيال العربية الشابة بتحقيق العديد من المكاسب وتسجيل العديد من النقاط على العدو الصهيوني في فترة قصيرة من العمل الجماعي المتراكم. فعلى سبيل المثال لا الحصر، كان للأعداد الضخمة من البريد الإلكتروني المناصر للقضية الفلسطينية من الشباب العربي من مختلف الأقطار العربية والتي تم إرسالها لصانعي القرار في الدول الغربية والامم المتحدة أثراً كبيرا وضغطا هائلاً لا يمكن تجاهله بسهولة. كما شكلت مسيرات الشارع العربي المتضامنة مع الشعب الفلسطيني ضغطاً كبيرا على الحكام العرب باتجاه تصليب مواقفهم لمصلحة الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية برغم الضغوطات الغربية الضخمة عليهم.

وما أن ذاق الشعب العربي حلاوة العمل العربي المشترك، حتى بدأ يبني على ذلك التوجه في العديد من القضايا التي تهم المواطن العربي، وعلى رأسها كما هو دائماً القضية الفلسطينية وتحرير فلسطين. وقد أعطى ذلك زخماً قوياً للشعب الفلسطيني الذي لطالما شعر أنه وحده في الميدان مع الغول الصهيوني المدعوم أمريكياً وأوروبيا. وبدأ الفلسطينيون يعزفون مع إخوانهم العرب سيمفونية جديدة لم يتعود عليها القادة الصهاينة. هذه المعزوفة تبدأ في فلسطين، كل فلسطين، وتخرج لتلاقي الحضن العربي لتنطلق بعدها مدوية في أرجاء العالم وتسمع صرخات شعب تواق للحرية والاستقلال.

لقد بات العرب اليوم في انتظار أي رسالة سياسية يقوم الفلسطينيون بارسالها لهم ليلتقطوها ومن ثم يقوموا بإرسالها للعالم بكافة اللغات والوسائل المتاحة حتى تحقق أكبر المكاسب الممكنة للقضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني القابع تحت ظلم الصهاينة. وليس غريباً اليوم ما نراه من نشاط دؤوب حول مقاطعة الكيان الصهيوني ومحاصرته دولياً عقاباً له على احتلاله لفلسطين وعدوانه الهمجي المستمر على الشعب الفلسطيني الاعزل. فقد قامت العديد من حملات المقاطعة من قبل شبان وشابات عرب في عدد من بلدان العالم الغربي ابتداءً من أوروبا وأمريكا وانتهاء باستراليا وجنوب إفريقيا. واستطاع الشباب العرب المغتربين، وبعد جهد جهيد، أن يكسبوا معهم مناصرين أجانب من هذه الدول لحملة مقاطعة إسرائيل، حتى أنه من المتوقع أن تزداد هذه الحملات شراسة وضراوة بحيث تؤذي إسرائيل سياسياً واقتصادياً وحتى ثقافيا.  فحديثاً رفضت إحدى موانىء دولة جنوب إفريقيا تنزيل حمولة لبضائع إسرائيلية، وبدأت قبل عدة أيام أيضاً كلية هامشير كأول كلية أمريكية بمقاطعة أي شركة لها علاقة بالاحتلال الاسرائيلي. كما بدأت عدد من الجامعات البريطانية حملة مقاطعة للجامعات والمعاهد الإسرائيلية، وبعد ان كانت حملات مقاطعة البضائع الإسرائيلية مقتصرة على بضائع المستوطنات فقط توسعت لتشمل جميع البضائع الإسرائيلية.

وتعاظم العمل العربي الجماهيري المشترك في صد المخططات الصهيونية والغربية الداعمة له من خلال الحشد من أجل مقاطعة المبادرات والمؤتمرات السياسية الشرق أوسطية التي يشترك فيها الكيان الصهيوني. فتم فضح مؤتمر الاديان الذي صافح فيه شيخ الأزهر مجرم الحرب الصهيوني بيرس، وتم التسليط كذلك على مؤتمر دافوس حيث ترك رئيس الوزراء التركي أردوغان المنصة اعتراضاً على الكلمة الوقحة لرئيس الدولة الإسرائيلي بعد أن قام بتوبيخه بشكل علني على شاشات الفضائيات.

وتزداد الثقة في العمل العربي الجماعي وإمكانية تحقيق مكاسب معقولة بالإمكانيات المتاحة كل يوم مع تزايد النتائج المحققة على المستوى العربي والدولي. وقد رأينا تغيراً ملموساً في خطاب الرئيس الامريكي الجديد أوباما باتجاه العرب والمسلمين.  إلا أن الطريق طويلة وشائكة، ولا نستطيع أن نركن على ما تم تحقيقه حتى الآن وننام عليه. فالتحديات أمام الأمة العربية كبيرة كبر الجبال. وتتمثل هذه التحديات في التغيير المطلوب عمله على المستوى القطري والقومي العربي، ابتداء من إحداث تحولات ديمقراطية داخل الأقطار العربية ونحو تكامل عربي مشترك على شكل وحدة أو اتحاد عربي، وكذلك في التحديات الماثلة في مواجهة المشروع الصهيوني ومنبته الاستعماري في الغرب.

إن السعي العربي نحو التحرر من الاستعمار الصهيوني والغربي حق لا يمكن التنازل عنه، بل وواجب ومطلب شرعي تسنده كل الشعوب الحرة التي تتمتع بأبسط قواعد ومفاهيم الإنسانية. وقد قرر الإنسان العربي في القرن الواحد والعشرين أنه ليس أقل من غيره. فهو ليس أقل من الامريكي الذي يسرح ويمرح دون سؤال في خمسين ولاية أمريكية، ولا أقل من الأوروبي الذي يتحرك بحرية وبدون جواز سفر في 36 دولة أوروبية. فلماذا لا يحصل الإنسان العربي على أبسط حقوقه مثل حقه في التعليم والتطبيب المجاني؟ وكذلك على حقه في السفر والحركة، وحقه في التعبير عن رأيه في نظام ديمقراطي!  

لقد تخطى النضال التحرري اليوم كل الحدود القطرية وحتى القومية، وأصبح العالم ساحة حرة يلعب فيها اللاعبون. فعندما ترتكب إسرائيل جرائم الحرب في عدوانها على غزة، يقوم شافيز في قارة أخرى بطرد السفير الاسرائيلي من فنزويلا، ويتحرك مناصرو العالم لنصرة الشعب الفلسطيني، ولا ينحصر ذلك فقط في العرب أو المسلمين. لذلك فالأجدر في الشعوب العربية اليوم أن تثق في المستقبل وتحضر له جيداً، لأن كل فرد عربي يستطيع اليوم التغيير في محيطه بل وأوسع من محيطه بكثير. وقد بدأت الأمور تتغير لصالح الشعوب العربية وقضاياها العادلة، لكنها ما زالت في بداياتها.

------------------

 حازم القواسمي: ناشط سياسي، مؤسس منتدى فلسطين الإلكتروني ورئيس جمعية الرواد الشباب.