"من وين بقدر أجيبلو أبو؟ من وين بقدر أجيبلو إم؟ قوللي!" هذه هي كلمات صبحي السموني اليائسة لمراسل الجزيرة في غزة. لقد فقد صبحي السموني 17 فردا من عائلته، بينهم والدا حفيده البالغ من العمر سبعة أعوام. المريع حقا، أنه حتى في غضون كتابتي لهذا المقال، كانت جثامين عائلة السموني لا تزال تُستخرج من تحت الأنقاض، أي، بعد 15 يوما من قصف قوات الاحتلال الإسرائيلية لمنزلي العائلة. حينئذ، حجز الجيش الإسرائيلي حوالي 120 فردا في بيت واحد لمدة 12 ساعة قبل أن يقصفوه على من فيه.تحاكي كلمات صبحي هذه الواقع المؤلم لجميع فلسطينيي غزة: وحيدون، متروكون، مطاردون، ويعاملون بوحشية، بالإضافة الى كونهم يتامى تماما مثل حفيد صبحي. 22 يوما من أعمال القتل الجماعي الوحشي، طالت أكثر من   1300 شهيد فلسطيني، حوالي 85 % منهم مدنيين، بينهم 434 طفلا، و104 نساء، و16 طبيب، وأربعة صحفيين، وخمسة أجانب و105 عجوزاً.
ماذا عسانا فاعلين لتعزية رجل كتب عليه أن يدفن أفراد عائلته جميعا، زوجته، أبنائه، بناته، وأحفاده؟ سأكون ممتنا لو أخبرتمونا، ونحن سننقلها إلى العم صبحي، ففاجعته جعلت من كلمات عزائها أقل معنى.
 

 
فكروا أيضا بكلمات ستقولونها لرشيد محمد، 70 عاما، الذي تم اغتيال نجله سمير البالغ من العمر 44 عاما برصاصة غادرة في القلب على مرأى زوجته وأطفاله. لقد رفض جيش الاحتلال الإسرائيلي السماح لسيارات الإسعاف بنقل جثته لمدة أحد عشر يوما، ولهذا، كان على أسرته أن تنتظر وقف العدوان حتى تستطيع دفنه.

لقد كان على رشيد أن يمر بهذه التجربة المُوجعة في النظر إلى جثة ابنه المتعفنة، ولمسها، وتقبيلها ومن ثم دفنها. أخبروا تلك العائلة كيف نستطيع تفسير هذا الواقع المؤلم؟ قولوا شيئا لكي ينام الأطفال، أو للتخفيف من كرب أبيه، ولنشرح لزوجته لماذا يجب أن يُخطف زوجها منها؟.

من الممكن أنكم تفضلون الحديث إلى أميرة قرم، 14 عاما، حيث تم قصف منزلها في مدينة غزة بقنابل المدفعية والفوسفور. قنابل حرقت حتى الموت ثلاثة من أفراد أسرتها: أباها، وأخاها علاء البالغ من العمر 12 عاما، وأختها عصمت البالغة من العمر 11 عاما. زحفت أميرة لوحدها على ركبتيها، مجروحة ومذعورة، لمسافة 500 مترا لمنزل قريب فارغ حيث هجره أصحابه مع بدء العدوان الإسرائيلي. بقيت هناك لأربعة أيام، تعتاش على مياه الشرب، وتستمع لآلة القتل الإسرائيلية من حولها. خائفة من البكاء من الوجع خوفا من أن يسمعها جنود الاحتلال.

وعندما عاد صاحب المنزل لأخذ ملابس لعائلته، وجد أميرة خائرة القوى وقريبة من الموت. وهي تقبع اليوم للعلاج في مستشفى الشفاء المزدحم والفقير الى الموارد اللازمة.

يمكنكم أيضا محاولة تعزية محمد السموني البالغ من العمر 10 أعوام، والذي وُجد مرتميا بجانب جثامين والدته وأقربائه، خمسة أيام بعد مقتلهم. سيخبركم بما أخبر الجميع. أن شقيقه قد أفاق فجأة بعد فترة سبات طويلة، وأخبره بأنه جائع، وطلب منه حبة بندورة لكي يأكلها، وحينئذ مات. هل ثمة أطفال يبلغون العاشرة من عمرهم في العالم ممن يُسألون عن حبة بندورة لكي يأكلوها ومن ثم يموتون؟ هل هنالك ثمة أطفال يبلغون العاشرة من عمرهم ممن يُطلب منهم حمل هذه التجربة معهم لبقية حياتهم؟ طبعا لا. إن هذا "الامتياز" محفوظ فقط للأطفال الفلسطينيين، لأنهم ولدوا ببساطة على الأرض التي تريدها إسرائيل لنفسها. ولكن هؤلاء الأطفال المصدومين الذين سينكرون ما تريده إسرائيل، لأن بقائهم اللا متناهي هو تحدي دولة الابارتهايد الحقيقي. هم نفس الأطفال الذين سيرثون فلسطين بكل تأكيد وثقة، فهذا مسقط رأسهم وأي عدوان لن يستطيع تغيير الحقيقة... ليس اليوم... وأبدا.

ومن خلال ذلك، فقد كنا موضع حديث وزيرة خارجية إسرائيل تسيبي ليفني، فهي عنيدة في دفاعها أمام العالم عن أكثر الجيوش "أخلاقية". تقول: "نحن لا نستهدف مدنيين"، تكذب ليفني، "نحن لا نريد أن يترك الفلسطينيون غزة، نحن نريدهم التحرك داخل غزة نفسها!". ويقول رئيس الحكومة الإسرائيلية إيهود أولمرت بحق فلسطينيي غزة أيضا: "نحن لسنا أعداؤكم، حماس هي عدوكم".

أميرة، محمد رشيد، صبحي، وأكثر من 40,000 عائلة تم هدم بيوتها يدركون عكس ذلك. هؤلاء الناس الذين يندفعون بعجلة إلى المقابر بعد قصفها ويجدون أجزاء جثث أقربائهم مقطعة ومكشوفة يدركون عكس ذلك. يدركون أنهم مستهدفون بشكل متعمد بسبب كونهم فلسطينيين. أما بقية "البروبوغاندا" فهي معدة لإرضاء ضمير هؤلاء الذي تلطخت أيديهم بالدم الفلسطيني، ممن هم في داخل إسرائيل، وممن هم خارجها.

لنحو 22 يوما وليال مظلمة، تُرك الفلسطينيين في غزة لوحدهم في مواجهة أحد أقوى جيوش العالم. جيش يمتلك المئات من الرؤوس النووية، وآلاف المجندين السعداء المزودين بدبابات "الميركافا"، طائرات الإف 16، ومروحيات لأباتشي، البوارج الحربية، وقنابل الفسفور. 22 ليلة قليلة النوم، 528 ساعات من القصف المتواصل وإطلاق الرصاص المتواصل. في كل لحظة تتوقع أن تكون أنت الضحية القادمة.

خلال هذه الأيام، عندما امتلأت ثلاجات الموتى بالجثث، وكافحت المستشفيات من أجل معالجة الجرحى، أصدرت الأنظمة العربية عشرات البيانات المنددة، وعقدت مؤتمرا صحفيا هامشيا تلو آخر. بل أنهم عقدوا قمتين، الأولى عقدت بعد 19 يوما كاملا من بدء العدوان على غزة، والثانية في اليوم اللاحق لليوم الذي أعلنت فيه إسرائيل عن وقف إطلاق النار من جانب واحد.

لقد كان الموقف العربي الرسمي تجاه الفلسطينيين منذ العام 1948، باستثناء الحقبة القومية التقدمية (1954-1970) بمثابة خلطة مُميتة مركبة من الجبن والنفاق. لقد كان الفشل الجماعي الأخير متمثلا في الفشل بكسر الحصار الإسرائيلي على غزة الذي يضربها منذ أكثر من سنتين، وعدم العمل على دعم الفلسطينيين القابعين تحت نير  العدوان الإسرائيلي الوحشي وهو ما يجب مسائلتهم عليه.

يجب أن تطالب الشعوب العربية جامعة الدول العربية الضعيفة، بالإجابة على أسئلتهم المتعلقة تلك الخلطة، وعلى لماذا لم يكن هنالك تضامن أخوي مع الغزيين خلال العدوان الإسرائيلي؟. ولم يكن هنالك وضوح وبينات "عروبية" في تفاهاتهم. بل أن بعضهم قد وجد الفرصة مواتية من اجل لوم الفلسطينيين على وضعهم الذين وجدوا أنفسهم فيه، بدلا من المطالبة بوقف إسرائيل لعدوانها الوحشي.

في غزة اليوم، نحن نتساءل كيف من الممكن ترجمة تعابير التضامن معنا في شوارع العواصم العربية الى أفعال في مناخ تغيب عنه الديمقراطية. نحن نتساءل ما إذا كان المواطنين العرب تحت الأنظمة الاستبدادية باستطاعتهم تغيير هذا النظام بطريقة لا عنفيه. إننا نعذب أنفسنا ونحن نحاول تبيان الدلالات والمعاني المتوفرة حاليا لتحول سياسي ديمقراطي. الى جانب المجزرة المستمرة في غزة، وبناء نظام الأبارتهايد في فلسطين (في كل فلسطين التاريخية) فإننا ندرك إنه من أجل البقاء، نحن بحاجة الى التضامن والدعم من أشقائنا العرب. لقد رأينا كيف وقفت الشعوب العربية الى جانبنا على مدار 22 يوما ولكننا لم نر قادتهم يقفون خلفهم.

رئيس أساقفة جنوب أفريقيا، ديزموند توتو قال: "اذا كنت محايدا في حالات عدم العدالة، فإنك اخترت جانب المعتدي". الأمم المتحدة، الإتحاد الأوروبي، جامعة الدول العربية، والمجتمع الدولي بقوا جميعا صامتين بوجه الأعمال الوحشية المرتكبة من قبل نظام الأبارتهايد في إسرائيل، وعليه، فإنهم اختاروا جانب إسرائيل. لقد عجزت مئات جثث النساء والأطفال من إقناعهم بالعمل والتحرك. إنه ما يدركه كل فلسطيني اليوم، أينما كان، في قطاع غزة، أو في الضفة الغربية او داخل الخط الأخضر، أو في مخيمات اللاجئين في الشتات.

لهذا، بقينا مع خيار واحد، خيار لا ينتظر مجلس الأمن الدولي، والقمم العربية، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، الى الاجتماع. إنه خيار قوة الشعب، إنها القوة الوحيدة القادرة على إبطال الخلل الكبير في موازين القوى في الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني.

لقد وُوجه نظام الأبارتهايد المُرعب في جنوب أفريقيا بحملة بارعة للمقاطعة، وسحب الاستثمارات منه وفرض العقوبات عليه، حيث انطلقت في العام 1958 وحققت قفزة نوعية في العام 1960، في أعقاب مجزرة شاربي فيل. ومن الجدير بالذكر، أن هذه الحملة قد أدت أخيرا الى انهيار نظام الفصل العنصري الأبارتهايد "الابيض" في العام 1994 واقامة الدولة الديمقراطية متعددة العرقيات. وبشكل مشابه، أطلق النداء الفلسطيني لمقاطعة إسرائيل، وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها في العام 2005. وكما حدث مع شاربي فيل في العام 1960، فإن غزة 2009 لا يمكن تجاهلها في هذا السياق: إنها تتطلب ردا من جميع الذين يؤمنون بالإنسانية المشتركة للجميع. لقد حان الوقت لمقاطعة نظام الأبارتهايد في إسرائيل، وسحب الاستثمارات منه، وفرض العقوبات عليه. إن هذه الحملة هي أداة أساسية لضمان خلق دولة ديمقراطية علمانية على كامل تراب فلسطين التاريخية.

إنها الجواب العملي لأسئلة العم صبحي، والطريق لمنح حفيده مستقبلا، حياة كريمة أساسها حفظ الكرامة الإنسانية والمساواة، والعدل، حياة سلام وعدل؛ لأنه مثل بقية أطفال العالم لا يستحق أقل من ذلك.

-----------------

د. حيدر عيد: أستاذ الأدب الانكليزي في جامعة الأقصى- غزة، وهو محلل وناشط سياسي