نبات الصبار يدرك ما لا يدركه الصهاينة

بقلم: تال دور*

دُعيت في السنوات الأخيرة للمشاركة في ندوات سياسية لأتحدث عن نشاطي السياسي والاجتماعي، وذلك لتحليل ماهية المجتمع الإسرائيلي. لقد كان السؤال الذي تكرر: "كيف يعقل أن لا يرى الإسرائيليون الحقيقة؟". وفي جميع المرات التي سُئلت فيها هذا السؤال، حاولت دوما أن أشرح التركيبة المعقدة للمجتمع الإسرائيلي والهيكلية التي تقف وراء تجاهل الاحتلال. أعتقد أن السؤال الأهم والأكثر جوهرية هو: ما هي الأدوات التي يقدمها المجتمع الإسرائيلي لتحليل الواقع؟ فالكثير من الإسرائيليين لا يعترفون بالاحتلال، ولا يستخدمون هذه الكلمة وغير مستعدين لتحمل مسؤولياتهم كمحتلين. وأنا لست واثقة من أن إنكار الإسرائيليين للاحتلال والطابع الاستعماري (الكولونيالي) الموجود على الأرض ناتجين عن عدم معرفة. ليس لديّ أدنى شك بأن سبل الفصل أو ما يُسمى بـ "الجدران المادية والنفسية" تمكّن الإسرائيليون من العيش بفقاعة تحفظهم من قساوة النظر إلى أنفسهم كمحتلين؛ لكن حتى بداخل هذه الفقاعة، يرى الإسرائيليون الواقع ولكنهم يحللونه بطرق عنصرية، عنيفة وعسكرية. و بالطبع ذكورية.

أنا "تسباريت"
- "هل ولدتِ بجنوب أفريقيا؟
- لا، أنا ولدتُ في حيفا.
- أنتِ "تسباريت"، إذن، هذا جميل".

ولدتُ في حيفا، والداي من مهاجري جنوب أفريقيا. ولقّبت منذ صغري بـ "تسباريت"، قيلت لي بلهجة انغلوسكسونية خفيفة. كالصبّار إذن، يكون الإسرائيليون بهذه التسمية لذيذي الطعم من الداخل ولكنهم شائكون وخشنون من الخارج. والصلابة والخشونة الخارجية ناتجة من دافع: "حماية أنفسنا من أعدائنا، أعدائنا العرب".

الصبّار، الذي هو جزء من المنظر "الإسرائيلي"، أصبح بذلك رمزا "طبيعيا" بالنسبة لغالبية الإسرائيليين. انه في الواقع نموذجا للإنكار والاحتكار والعنف الموجه تجاه الشعب الفلسطيني. إن لقاء الإسرائيليين اليومي مع الصبّار لا يثير لديهم أية أسئلة حول وجود كيان عربي في فلسطين.

والخطاب الصهيوني السائد يتجاهل وينكر أعمال الهجوم، المجازر، تدمير القرى الفلسطينية وطرد أهاليها. إن منظر نبات الصبّار اليومي لا يثير مثل هذه الأسئلة وإنما يمحوها. وهكذا فإن الاستخدام اليومي للمصطلح "تسبار" او "تسبارة" قد ابتدع حالة من "المألوف البديهي" (common sense)*** حيث إنكار العنصرية و أعمال العنف المرتكبة تجاه الشعب الفلسطيني من ناحية، واحتكار التاريخ وشرعنة العنف من ناحية أخرى.

يشير نبات الصبّار إلى وجود قرية فلسطينية، وغالبا ما استخدم بهدف تقسيم المساحات الزراعية وملكية الأراضي. وحتى يومنا هذا، لا يزال الصبّار موجودا على الرغم من الهدم والاستيطان المستمر فوق أشلاء القرى الفلسطينية، وبالرغم من محاولات الهدم ومحو كل ذكر للوجود العربي وجذوره في فلسطين، حيث تصطدم القوات الصهيونية دوما بنبات قوي وصامد أمام محتليه.

إن احتكار نبات الصبّار، كجزء من المألوف البديهي الاجتماعي الصهيوني، يخلق شعورا بالراحة والهدوء أمام تاريخ عنيف جدا. "التسبار" الذي ترعرع في فلسطين، ورأى نبات "الصبّار" يوميا، وتنزه برفقته وأكل ثماره، يصبح الصبّار نفسه. في حياته اليومية، يتمكّن الإسرائيلي بذلك من التواصل مع أرض فلسطين، إذ يشعر بأن جذور نبات الصبار هي جذوره.

مع شعور الإسرائيليين، التسباريين، بجذورهم "الصبّارية"، تحاول الهيمنة (الهجمنة) الصهيونية التعامل مع مشاكل المهاجرين اليهود بفلسطين ومعضلة الانتماء لهذه الأرض. إن خلق الوعي "التسباري" هذا، قد ساهم بشكل كبير في ترسيخ حلقة الصمت والمألوف البديهي، وأكثر من ذلك، المفهوم الذي أعطي للـ"تسبار" لا يمكّن الإسرائيلي من الشعور بالانتماء للأرض وجذوره في فلسطين فقط، وإنما يساعده على تجاهل صورته كمحتل.

وكونه، أي الصبار، لذيذ الطعم من الداخل وخشن من الخارج، فهذا يعطي الإمكانية للإسرائيليين بالنظر إلى عنفهم كأنه ذنب "أعدائهم". هذا ليس ذنب "التسبار" وإنما بسبب "الأشرار" الذين يريدون أكل هذه الفاكهة، أي أن هذا يفيد بأن "التسباريين" ليسو بمسؤولين عن عنفهم، إنما هم "الأعداء العرب". نذكر جميعا مقولة غولدا مئير الشهيرة: "لن أسامح العرب على ما فعلناه بسببهم". ها نحن، فيما يتعلق برمز "التسبار"، لسنا فقط أمام ديناميكية عدم تحمل المسؤولية والعنف، وإنما إعطاء تفسيرات عنصرية وأكاذيب من أجل التعامل مع الواقع من حولنا.

"ماذا تعلمتِ اليوم في المدرسة؟"

"التسبار" الإسرائيلي ليس فقط إسرائيلي وإنما اشكنازي بالضرورة. كما وأن كل رموزه ومعانيه تدل على أنه ملح الأرض، المثل الأعلى، انه في الواقع شخصية الشاب الاشكنازي، محتل الأرض. وكونه احد منتجات الهيمنة (الهجمنة)، فإن مفهوم "التسبّار" يشير في الحقيقة إلى صورة الحاكم، القاهر والمهيمن. في كتب التاريخ والجغرافيا حسب المنهاج الرسمي الإسرائيلي، لا يوجد هناك أي ذكر عن تاريخ الأرض التي نعيش عليها ومن هم الناس الذين عملوا بها، وعاشوا فيها لسنوات عديدة.

فنحن لا ندرس عن النكبة الفلسطينية، وإنما ندرس عن انتصار "القلائل أمام الأكثرية". حسب هذه الرواية فإن الأرض كانت فارغة، جدباء ونحن جئنا لإبعاد الجدب والخراب عنها. وأكثر من ذلك، فإن التسلسل التاريخي الذي يدرّسه جهاز التعليم الإسرائيلي لتلاميذه هو التسلسل التاريخي حسب التوراة الدينية من جهة، ورواية الاشكنازي الأوروبي من جهة أخرى. والصهيونية منذ بدايتها وحتى اليوم تصر على التنصل من اليهودية الدينية، ومع ذلك فإنها تستخدم كتاب التوراة ككتاب تاريخي. هذا الاستخدام هو تحايل أكيد. ولا يبدأ التحايل وينتهي بالاستخدام، فاستخدام الكتاب المقدس كان لهدف كولونيالي رديء، ولذلك يستمر التحايل لأماكن أكثر عمقا.

أماكن ليس من السهل الإخلال بتوازنها و تحديها، و كأنها ذات الوطن الذي لا يمكن التنكر له، وكأنها ذات التاريخ المنقوش على الصخر وغير القابل للطعن. إلى جانب ذلك، فلا ذكر لحياة وتطور اليهود القادمين من الدول العربية والشرق. حسب هذا التدريس، فإن التاريخ قد ولد ونما في أوروبا. هذا يعني أن بناء الرواية الصهيونية لا تلغي "الآخر" فقط، وأعني من هو ليس اشكنازي رجولي، وإنما لا تهتم به وتتجاهله بروايتها. الآخر العربي، سواء كان يهوديا أو مسيحيا أو مسلما، غير موجود. فهو لم يكتب التاريخ، ولا هي كتبته!

ومثلما أن جهاز التعليم الرسمي هو جهاز لاستنساخ المألوف البديهي في السياق الاجتماعي، فإن المعرفة وطريقة التعليم يخدمان ويعززان الهيمنة، هذا ينطبق أيضا على التعليم غير الرسمي وطريقة توصيل المعرفة للأولاد والكبار في خضم الحياة اليومية. لنتفق أولا أن التعليم لا يحدث على المستوى الرسمي فقط ، وإنما يتعداه إلى الحياة اليومية من خلال الرموز و الاستعارات، في هذه الحالة سيكون بامكاننا، من خلال التطبيقات العملية و الممارسات اليومية، فحص المألوف البديهي الصهيوني.

يخضع هذا الأخير لسيطرة المضطهِد، القاهر، وهو حسب تعريف أنطونيو غرامشي: "الهيمنة" أو "الهجمنة" (Hegemony)، الهيمنة الإسرائيلية. ومثلما رأينا بمثال الصبّار، فإننا نتعامل مع تأثيرات الهيمنة كمفهومة ضمنا. لا وجود لأسئلة أو انتقادات، وطبعا لا توجد أي محاولة للطعن فيها. كل محاولة كهذه للمس بالمألوف البديهي ستسبب وبدرجات متفاوتة العنف والاعتداء من الجانب الظالم والحاكم، وهذا منوط بثمن اجتماعي وسياسي في وقت ترفض فيه الأكثرية الموجودة دفعه.

وهذا يعني، أن ماهية الآخر هي بالضرورة عدوة لهذه الهيمنة. بناءً على ما سبق، دعونا نتساءل من هو الآخر حسب مفهوم الهيمنة الصهيونية الإسرائيلية؟ العدو المركزي للهيمنة الاشكنازية الصهيونية هو العربي الفلسطيني، هذا المتجذر في أرض فلسطين، و هو عينه الذي يمكنه رواية قصة فلسطين في السنوات الواقعة ما بين خراب الهيكل الثاني وحتى " الهجرة" اليهودية لفلسطين في أواخر القرن التاسع عشر. هذه السنوات غير موجودة على الإطلاق في قائمة المراجع التربوية الإسرائيلية. هذا هو الفلسطيني الذي زرع الصبّار (من نوع الكاكتوس المكسيكي) في أرضه الزراعية في سنة 1700.

ولكن هناك أيضا أعداء داخليين يهددون الهيمنة من الداخل وغالبيتهم من اؤلئك الذين يقودون الخطاب المؤسس لنضال "شرقي"، و تحديدا الخطاب النسوي الشرقي. هذا الخطاب يعكس للصهيونية السياسية شخصيتها الاشكنازية بالضرورة. إن هذا الخطاب النسوي الشرقي هو الذي يعمل وبشكل واضح ضد المألوف البديهي الاجتماعي الصهيوني، لا يروي هذا الخطاب التاريخ غير المروي فحسب، وإنما يصر على ابتداع وسائل أخرى لتحليل الواقع، وسائل غير عنيفة، وسائل لمقاومة الاحتلال، إنها وسائل قادرة على تحمل المسؤولية. وهنا، علينا ألا نتجاهل تعقيد المجموعة اليهودية، وهرمية الهوية، والنوع الاجتماعي أو الجندر (Gender) في المجتمع الإسرائيلي. تجاهل هذا بإمكانه أن يخدم الهيمنة وبالتالي يمكّنها من تثبيت جذورها العنيفة في الأرض.

خلاصة:

في الرحلة السنوية خلال المرحلة الثانوية سافرنا إلى الشمال، إلى الجليل، وعندما كنا نشاهد المنظر الرائع باتجاه لبنان سألنا المرشد: "من يقول لي، كيف نعرف أين تمر الحدود بين إسرائيل ولبنان؟". أذكر أني كنت مهتمة جدا لمعرفة الإجابة، حاولت أن انظر بشكل مهني على المنظر الذي أمامي وأكون أول من تجيب بصواب. وبعد مرور خمس دقائق من الصمت قال المرشد: "هذا سهل، أنظروا إلى أرضنا بالمقارنة مع أرضهم: أرضنا خضراء ومزدهرة وأرضهم جدباء.

إنهم لا يحبون أرضهم مثلنا وهم لا يعرفون كيف يعملون في الأرض مثلنا. هكذا تعرفون الحدود". هذه القصة حفرت بذاكرتي حتى اليوم. في تلك الأيام، لم يكن لدي الإدراك السياسي المنفتح، ولم أكن أملك الوسائل لتحليل توجه المرشد. ولكن مع ذلك، فإن تفسير المرشد قد أحدث في داخلي شرخا، هذا الشرخ لم يلتئم ، وإنما أسس لطرح أسئلة.

إن تفسير المرشد ليس كاذبا من الناحية السياسية والزراعية فقط، وإنما عنصري ومتكبر. إن الرسائل اليومية في التعليم الإسرائيلي بأننا "نحن" أفضل، ومهذبون أكثر "منهم" موجودة في كل شرائح المجتمع؛ في التعليم الرسمي والتعليم غير الرسمي، وفي الدعايات وبرامج التلفزيون، وطبعا في الرحلات في أرجاء "الطبيعة". هذا ليس فقط بأننا أفضل، كما ولدينا حق العيش وهم لا يحق لهم ذلك. لنا الحق بان نكون آمنين وهم لا. لنا الحق في كل شيء وهم لا.

ولهذا، لا شيء يدعو إلى المفاجأة بأن الإسرائيليين "لا يرون" الواقع من حولهم. الدمج ما بين تجاهل وجود الكيان الفلسطيني والعربي، بالإضافة إلى التعالي الاشكنازي العنصري والمجتمع العسكري الذكوري، ينتج واقعا أدواته الاعتيادية لتحليل المعطيات الواقعية هي أدوات كاذبة، عنيفة وعنصرية. من هنا لا نستطيع القول بأن "الإسرائيليين لا يرون الحقيقة"، والأكثر من ذلك أنه لمن الأمر الخطير بأن نصادق على ما يقومون بفعله.

علينا أن نفهم التركيبة المعقدة التي توصل لهذه الديناميكية، وعلينا جميعا المقاومة. كما وأن هذا الأمر لا يعفينا من تحمل المسؤولية. حيث تبدأ المسؤولية ولا تنتهي عند مجرد فهم الوحدة الكاملة للقمع والتي تستخدمها هذه الهيمنة. يمكن للفهم بأن يقاوم ويخلق دوائر وآليات تضامنية والتي بإمكانها مقاومة هذا الجهاز القامع. لا مجال هنا للمقارنة بين درجات القمع، وإنما يجب التوضيح بأن القوة القامعة تستخدم أساليب عدة أمام "أعدائها" من اجل المحافظة على قوتها، وتضامن هؤلاء المظلومين هي الطريق لمقاومة هذه الهيمنة.

في هذه الأيام، نحي ذكرى مرور عام على الاجتياح الإسرائيلي والمذابح الظالمة في غزة والتي بدأت في أواخر العام 2008. هذه المذبحة التي حصلت على تشجيع ودعم كبيرين من غالبية الجمهور الإسرائيلي والصهيوني في العالم. إنه ليس بالأمر المفاجئ بأن الجمهور الذي يعيش تحت عملية شديدة من إسقاط القيم (Indoctrination) بشكل دائم عليه، يدعم مثل هذه الأعمال، إنما ننتظر من هذا الجمهور أن يعرف محيطه و يسأل أسئلة نقدية حول العنف الذي يتحمل أساسا المسؤولية عنه.

إن الصبّار موجود في فلسطين منذ 200-300 عام، وقد تكون صدفة بأن رمز الإسرائيلي- الصهيوني هو نبات جذوره الأصلية ليست بفلسطين. وسواء كان ذلك صدفة أم لا، فإن "الإسرائيليين" لن يكونوا أبدا "الصبّاريين" ("تسباريم")، لأن الصبّار هو المهاجر الذي استقبل على أيدي وبإرادة سكان فلسطين وكان مساهما ببناء الحياة على هذه الأرض، أما الصهيوني فقد أخذ الأرض بالقوة وأنكر سكانها. لقد أدرك نبات الصبّار ما ترفض غالبية الجمهور الصهيوني إدراكه. فنبات الصبّار يعيش حياته في الشرق الأوسط، أما "التسبار" الإسرائيلي فيعيش كمستوطن بفلسطين، ومن أجل أن يقبله سكان الأرض الفلسطينيين، على الإسرائيليين "الصبّاريين" أن يحرروا أنفسهم من شخصية المستوطن، أي الشخصية الاستعمارية.

_________________
لقراءة إضافية:

1. كيدمان نوغا. 2008 "على قارعة الطريق وهوامش الوعي- "ثني القرى العربية التي مسحت في 1948 عن الحوار الاسرائيلي". وأيضا:
2. Bardenstein Carol, 1998, “Threads of Memory and Discourses of Rootedness: of Trees, Oranges and the Prickly-Pear Cactus in Israel/Palestine”. Edebiyat- Middle Eastern Literatures.
3. نعمان يونيت، 2007، " امتحان الصبارة للجيل الثالث: بجدارة الذاكرة". كيشت لأفكار جدول الأعمال اليومي الشرقي للمجتمع الاسرائلي. كتب تشرين ثان.
4. شالوم شطريت سامي، 2007، " المشكلة الصهيونية- الاشكنازية: الانفصالية في التعليم مثالا". كيشيت، لأفكار- جدول أعمال يومي شرقي للمجتمع الاسرائلي. كتب تشرين ثان.
------------------------------------
* تال دور: كاتبة وباحثة إسرائيلية، عضو مؤسس في جمعية (زوخروت-ذاكرات).
** هي كلمة عبرية؛ "تسبار" للمذكر و"تسباريت" للمؤنث، وتعني الصبّار، وكمصطلح يعني الأبناء الذين ولدوا في إسرائيل لوالدين مهاجرين).
*** يشار إلى أن هناك ترجمات أخرى مختلفة تم اقتراحها للمصطلح الانجليزي (Common Sense)، نذكر على سبيل المثال: الحس المشترك، العرف العام، المفهوم ضمنا، المتفق عليه ضمنا.