الأهمية المركزية للعمل الثقافي:تهيئة المناخ للكفاح المتواصل ضد البؤس

بقلم: فيجاي براشاد*

"ما أن يتغير الأساس الاقتصادي حتى يطرأ على البنيات الفوقية الواسعة تحول أكثر بطئا أو سريع جدا، وعند دراسة مثل هذه التحولات ينبغي علينا دائما أن نميز بين التحول المادي في أوضاع الإنتاج الاقتصادية الميسور تقريره بمثل دقة العلم الطبيعي، وبين الأشكال التشريعية، السياسية، الدينية، الجمالية والفلسفية، وبكلمة مختصرة، الأشكال الإيديولوجية التي يدرك فيها الناس هذا التضارب ويقاومونه حتى النهاية". (كارل ماركس، مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي، 1859).

 

كان أنصار حركات التحرر الوطني في الماضي يذهبون إلى الناس في المناطق الريفية أو في المدن الصغيرة، وكانوا يحملون رسالتهم التحررية على أكف أيديهم. وفي بعض الأحيان، كان الأنصار يحضرون مع البنادق، ولكن غالبا ما كان الأمر غير ذلك، فهناك معلم المدرسة الذي يسير عبر الحقول، أو الفدائي الذي يجلس في المقهى. وكل ما حملوه كان جريدة أو منشور. ولكن هذه الطريقة في عمل أنصار الحركات التحررية لا يمكن أن تكون مجدية وحدها على الدوام. فعلى الأرجح أن الجمهور كان أميا، سواء كان ذلك في غينيا بيساو أو اندونيسيا، كوبا أو مصر. وكان على الأنصار أن يقوموا بقراءة الأدب لمجموعات صغيرة من الأنصار والمؤيدين، يجلسون حول النار، التي اسمها اللاتيني يعني التركيز. فقد كانت النار بؤرة الناس، وكان الأدب هو الذي يشعلهم لتركيز مظالمهم وتطلعاتهم في صلب حركات تحررهم الوطني، وهي محطتهم نحو المستقبل.

وحملت الصحف والمنشورات أخبار الكفاح، ولكنها كانت أيضا وثائق هامة تحتوي على تحليل للصراع، وهي ما يتوقعه المرء، مثلما نسمع خطابا من احد القادة هذه الأيام. وفي الهوامش، حملت صحف التحرر الوطني قصائد ومقتطفات من مسرحيات، وقصص وأخبار الكوادر وتجاربهم. وسواء نظر المرء في صحيفة المجاهد (صحيفة جبهة التحرير الوطني الجزائرية)، أو في صحيفة "كو غاي فونج" (صحيفة جبهة التحرير الوطني الفيتنامية)، فإن المرء يستطيع أن يلاحظ إبداعات الخيال الأدبي إلى جانب الدروس التعليمية. حيت لا يمكن أن يوجد الرأس بدون القلب، ولا يمكن وضع تصورات لثورة الغد بدون النظر في قفزات الخيال التي كانت ضرورية للبدء بمسيرة الثورة، فقد كانت الثقافة هي الفضاء ليس لنقل الرسالة وحسب (كما هي الحال عندما يحضر الأنصار في هيئة ممثلي مسرح متنقل، وكانوا يدمجون بين الأشكال التقليدية مع الكلمات المعاصرة). وقد كانت الثقافة أيضا هي المجال التي يتم تصور المستقبل من خلالها.

وقد حافظت دول التحرر الوطني على الثقافة في مركز الأشياء، وهيمن التعليم على حاضر العمل، فلا معنى لمحاولة بناء أمة جديدة إذا ظل السكان أميون. ولكن كيف يتعلمون؟ فهل ينبغي لهم ببساطة أن يقلدوا السيد الاستعماري؟، أم العودة إلى الأيديولوجيا الإقطاعية التي كانت سائدة ما قبل العهد الاستعماري، أم يجب على دولة التحرر الوطني أن تجد نظاما تعليميا جديدا، بمناهج تعليمية جديدة وقيم أخلاقية جديدة؟ وقد كان الأخير هو الجواب الواضح على كل هذه التساؤلات، ولكن الأسلوب ظل صعبا، فقد كان من الضروري تغيير وجهات نظر العالم بأسرها، وكان يجب تنقية الكتب من الأفكار العنصرية. ولكن أيضا من المشهد المادي (فكان يجب إبعاد تماثيل المستعمر الذي يعتلي صهوة جواد من الميدان المركزي وإدخالها إلى المتاحف). وفيما بعد؛ قامت محطات الإذاعة، وفي وقت لاحق، محطات التلفزيون ببث برامج مفيدة للناس، هذا على الرغم، إذا كنا منصفين، بأنها قامت بكيل المديح الممل للقيادة. وقد جاءت المعلومات حول الزراعة إلى جانب النقاشات لما كان يحدث في العالم الذي كان لا يزال خاضعا للاستعمار، والتي كانت أشياء متضاربة أو متنافرة ومن الصعب وضعها جنبا إلى جنب؛ وقد غنت جوقة من الأطفال في إذاعة عموم الهند، العمر الطويل لنيلسون مانديلا، عاش نيلسون مانديلا، وذلك كنوع من الحيلة لبثه ضمن برنامج عن أهمية زراعة البقوليات لتزويد التربية بالنيتروجين. وكل ذلك كان ثقافة: ثقافة التضامن، ثقافة العمل، وثقافة الحياة اليومية. وكان ينبغي تأسيسها على مبدأ جديد، وهو الغرض الرئيس لحركة التحرر الوطني.

وكان يتوجب النظر للأمة على أنها ببساطة امة واحدة، ولكن في ذلك العالم الذي كان مضطهَدا سابقا (وهو العالم الثالث). ولدخول ذلك العالم الواسع، كان لا بد من الغوص في مخيلته، وكان ينبغي ترجمة الكتب، ليس الكتب التقنية فقط، بل الأعمال الإبداعية للناس من دول التحرر الوطني الأخرى. ويذكر أن مجلة الـ"لوتس" قد صدرت في بيروت باللغات الانجليزية، الفرنسية والعربية، وتم تحريرها في نفس الوقت من قبل الشاعر الباكستاني المحبوب فايز أحمد فايز. وقد كانت مجلة اللوتس هي مجلة العالم الأفرو-آسيوي، ونشرت أعمال الفائزين بجائزة اللوتس للكتاب الأفارقة والآسيويين، وأشخاص مثل أليكس لاجوما (جنوب أفريقيا)، تشينوا آشيبي (نيجيريا)، عثمان سيمبين (السينغال) نغوغي وا ثينوغو (كينيا)، اميلكار كابرال (PAIGC)، اوغستينو نيتو (انغولا)، ماسيلينو دو سانتو (موزامبيق)، مالك حداد (الجزائر)، محمود درويش (فلسطين) وهلم جرا. وقد انطلق المكتب الدائم للكتاب الأفرو-آسيويين في أواخر الخمسينات من القرن الماضي في القاهرة في "دار الأدباء". وكان الهدف هو ترسيخ قاعدة صلبة لأولئك الذين ينتجون أدب المقاومة، فمن أجل ممارسة بناء أمة في العالم الثالث كان ينبغي بناء ثقافة مقاومة.

وعندما انتهى مشروع "العالم الثالث" في ثمانينات القرن الماضي، توقف معه إنتاج ثقافة المقاومة. وقد تداخلت التناقضات الطبقية الداخلية مع الطريقة التي عالجت فيها البلدان الاستعمارية أزمات الديون والتي دفع ثمنها لتجربة العالم الثالث في الاقتصاد الموجه والتضامن. والآن، جاءت الليبرالية الجديدة، وهي في النتيجة استعادة لسلطة الطبقة الرأسمالية، سواء تم الاستيلاء على هذه السلطة من قبل منظمات العمال في بلدان رئيسية (المركز) أو من قبل حركات التحرر الوطني في دول المحيط. وقد وجدت وسائل الإعلام نفسها وقد أصبحت ملكية خاصة، وهكذا جعلها مالكوها الجدد تعمل على الاحتفال بالحريات الجديدة لليبرالية الجديدة. وهذه الحريات الجديدة تتضمن الشهادة بالعيش بدون أي التزام تجاه الآخرين – وقد دخلت كلمة "إنجوي" enjoy (بمعنى تمتع) ضمن مفردات لغات عديدة في العالم، مثلما تقوم شركات الإعلانات بالقول لسكان الهند وجنوب أفريقيا، اندونيسيا وليبيا، بأن يقوموا بتحقيق احترام الذات من خلال شراء سلع جديدة وأفضل. وقد تراجع أو ذبل الفضاء الثقافي الداعي للتضامن قبل أن يتم الانقضاض عليه من قبل الليبرالية الجديدة. وقد أصبح مستوى اختياره منحصرا في رفوف السوبر ماركت، ولكن رغبات واختيارات الناس العاديين ليست في متناول أيديهم في أغلب الأوقات، ولكننا نعلم الآن، بأن تمكنهم من شراء ما يرغبون فيه يمكن أن يكون أعلى إنجازاتهم.

وأمام هذا المأزق، لا تزال الثقافة هي الساحة المركزية للصراع، والحركات السياسية التي تتجنب الخوض في المجال الثقافي تتخلى أو تبتعد عن المكان الذي يأتي إلية البشر العاديون للتعرف على هذه الحركات التحررية، ولمعرفة ماذا تستطيع هذه أن تقوم به، وماذا تريد القيام به في هذا العالم. فالخيال والإبداع عنصران مهمان جدا للسياسة، لأنه بدون تصورات الخيال عن المستقبل فإننا نستسلم للحاضر (كما قالت رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت تاتشر، "لا يوجد بديل"، وبالتأكيد، إذا ذبل الخيال، فلن يكون أمامنا شيء). وعليه، إن الشعر، النثر، الأغاني،، والمسرح ، الفنانين الراديكاليين المدافعين عن الحقيقة، يستطيعون رفع مستوى وعي الناس الذين قد يكونون في الواقع لم يسبق لهم أن فكروا في هذا الجانب أو ذاك من علاقاتهم مع الناس الآخرين. وبالطبع، ليس بالفن بحد ذاته يتغير العالم، ولكن له دور مركزي باعتباره منارة للتغيير.

قبل بضع سنوات، كتبت عن "جانام ماتيا مانش" Jana Natya Manch (مجموعة المسرح الشعبي) الموجودة في شمال الهند، حيث تقوم المجموعة بأداء أعمال مسرحية مسيسة جدا في الشارع، ولكنها ليست مسرحيات تعليمية. وهم أشبه بالمسرح الثوري الفيتنامي: تلميحي، ايحائي، مضحك، قادر على الإثارة أكثر من قدرته على تقديم الدروس التعليمية. وتفهم مجموعة مسرح جانا، بكلمات الفيلسوف الشيوعي لويس آلتوسير، أن الفن "لا يستطيع تحديد الوسائل التي تجعل من الممكن معالجة هذه العواقب المختلفة" للواقع. ولكن الفن ينير الطريق، وتقوم "المنظمات الكفاحية" بالتقاط المهمة، لأنها تتحرك انطلاقا من نوع آخر من أنواع المعرفة، من علم المجتمع الذي يمتلك نظرية حول الآليات التي تنتج الآثار الاجتماعية التي تم تصويرها بواسطة الفن. وبالنسبة لرفاق جانام، هذه النظرية هي الماركسية، والمنظمة الكفاحية هي النقابات العمالية والحزب الشيوعي. وبالنسبة لآخرين، قد تكون المنظمة الكفاحية هي مجموعة أو حركة تحرر وطني والنظرية عبارة عن أيديولوجيات أخرى. والنقطة المهمة هي أن العمل الثقافي معقد ولا يجوز اختزاله إلى عمل سياسي، فهو أصلا يقوم بعمل سياسي بطريقته اللطيفة. والسياسات الثقافية سوف تسمح لنا بأن نركز اهتمامنا على بناء ثقة الجماهير في جدوى الكفاح ضد البؤس الحالي، ومن ثم تكون مهمة منظمات كفاحية واثقة من نفسها أن تحمل هذا الوعي الجديد إلى الأمام، من أجل عالم أفضل.

-----------
* فيجاي براشاد: بروفسور مختص في تاريخ جنوب آسيا، في الدراسات الدولية، كاتب ماركسي وله أكثر من عشرة كتب.