حركات التضامن: نضوج تجارب وانحسار في المدى


بقلم:أمير مخول
من دروس النضال الفلسطيني، كما كل نضال عادل في العالم، أن إحداث حراك عالمي تضامني هو إلى حد كبير انعكاس لنضال الشعب المقموع صاحب الحق. كون الشعب الفلسطيني ضحية وصاحب قضية عادلة ويعاني من غبن تاريخي؛ كلها أمور تدعه يكسب التعاطف. لكنها وان كانت شرطا مسبقا لكسب التضامن إلا أنها ليست كافية.

كيف نفسر حالة المد والجزر في حركة التضامن العالمية؟ وهل هي منفصلة عن النضال الفلسطيني ونضال ذوي الشأن المباشرين أم مرتبطة جوهريا به؟ هل هناك تفاعل فلسطيني مع هذه الحركات؟ وهل نتضامن مع قضايا الشعوب الأخرى كما نتوقع تضامنهم؟ ومن المسؤول  فلسطينيا عن تغييب البعد العربي للقضية الفلسطينية،  ولا أتحدث عن تضامن عربي بل عن القضية الفلسطينية بوصفها قضية عربية أيضا؟

وقبل محاولة الإجابة على هذه التساؤلات المذكورة، وهناك الكثير غيرها،  بودي  التطرق إلى حقيقة أن العالم؛ واقصد شعوب العالم وقواها التحررية تضامنت منذ عشرات السنين مع الفلسطينيين كشعب ضحية ومناضل وكقضية عادلة ومشروع تحرري واضح المعالم ومستند إلى الحق التاريخي. لم تتضامن ولا تتضامن حركات التضامن مع جهة فلسطينية، أو مع جزء من القضية؛ بل تضامنت مع الشعب الفلسطيني. وللحقيقة أيضا، لم يكن السلام هو منطلق المتضامنين بل كانت العدالة والاعتراف بجدارة القضية الفلسطينية كمسؤولية عالمية.

وهناك معادلة ودرس هامين انه ومنذ تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية كإطار لحركة التحرر الوطني الفلسطيني، فان  التضامن الأوسع عالميا كان عندما كانت م ت ف تقاوم على أساس الثوابت التاريخية الفلسطينية؛ وكلما جرى تراجع عن الثوابت، تراجع التضامن العالمي لان المشروع الفلسطيني أصبح أقل وضوحا، ولأن التراجع جاء على حساب الحق الفلسطيني والعدالة لصالح موازين القوى.

بنظرة سريعة إلى التاريخ الحديث، وبالذات إلى فترة السبعينيات من القرن الماضي، تضامنت قوى الحرية والتقدم في العالم مع الشعب الفلسطيني في وقت كان النضال الفلسطيني الأساسي هو المقاومة المسلحة، في حين وبعد مرحلة اوسلو؛ حيث المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية وبرعاية أمريكية ودعم دولي رسمي ودعم عربي رسمي شبه إجماعي، ورغم هذا فان حركة التضامن تقلصت وانحسر دورها ووزنها عالميا. مع التأكيد انه كانت هناك استثناءات في دورها تعيدنا إلى جوهر المعادلة؛ والمقصود معادلة الربط بين طبيعة النضال الفلسطيني ودور حركة التضامن.

ومن هذه الاستثناءات في السنوات الأخيرة كانت الانتفاضة الأولى؛ حيث المقاومة الشعبية، وتلاها احد الدروس الهامة في الاجتياح الإسرائيلي للضفة الغربية عام 2002؛ حيث وصل التضامن العالمي والحراك العالمي الشعبي قمته عندما واجه مخيم جنين المحدود عدديا والمحصور جغرافيا آلة الحرب الإسرائيلية بكل جبروتها التدميري القاتل. وهذا التفاعل لم يحصل عندما اجتاحت قوات الاحتلال في ذات الحملة مدينة رام الله والتي سقطت فيها الأجهزة الأمنية للسلطة الفلسطينية خلال ساعات معدودة،، دون أية مقاومة رسمية. وفي ذات الحملة، عاد التضامن عندما حوصر الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في مقر المقاطعة في رام الله وشكّل صموده حالة معنوية لفتت أنظار العالم وحرّكته.

وفي العام 2006، حصل تعاظم في التضامن العالمي الشعبي في أعقاب انتخابات المجلس التشريعي في الضفة والقطاع؛ أي مناطق نفوذ السلطة الفلسطينية. وهذا المد قد حصل ليس انشغالا في انتخابات تشريعية ضمن سلطة عديمة السيادة، بل إن المد الشعبي العالمي كان نتاج رمزية ما جرى وتفضيل جماهير الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع لنهج المقاومة على نهج التفاوض العبثي مع إسرائيل والمراهنة على الفرج الأمريكي الإسرائيلي. في حين أن دول العالم رسميا كانت معادية لنهج المقاومة، ووضعته في خانة الإرهاب وحصرت الإرهاب في السلوك الفلسطيني وحررت دولة الإرهاب من مسؤولية إرهابها.

وعلى صعيد مختلف في العام 2001، حيث انعقد مؤتمر ديربان الدولي ضد العنصرية في جنوب أفريقيا، وحيث تم طرح القضية الفلسطينية بكل مركباتها (اللاجئون وفلسطينيو ال48 وفلسطينيو الضفة والقطاع) كقضية واحدة، بخلاف نهج اوسلو التجزيئي ونقيضا له. في مؤتمر ديربان حيث طُرح الحق الفلسطيني وجوهر الصراع الفلسطيني مع المشروع الصهيوني بكل وضوح، وطرح جوهر إسرائيل ككيان عنصري كولونيالي، والصهيونية كمشروع عنصري استعماري بكل جلاء، تفاعلت القضية الفلسطينية بالعربية ومع قضايا شعوب العالم؛ وهزمت إسرائيل هزيمة معنوية هائلة.

هذه الأمثلة هي غيض من فيض؛ لكن كيف نفسر هذه التحولات؟ بصفتي متابعا للتفاعل ما بين النضال الفلسطيني وبين النضال العالمي، وكم لعب دورا قياديا في المنظمات التي قادت هذه العملية، فانه لا يحق أدبيا للفلسطيني لوم حركات التضامن على انحسار دورها، أو لوم من تضامنوا عالميا ثم صمتوا. والمشكلة في أساسها هي فلسطينية وتنعكس على دور حركات التضامن.

احد أهم معوقات قيام وتوسع حركة التضامن العالمية هو غياب المشروع الفلسطيني وحتى تغييب الحق الفلسطيني بما فيه فلسطينيا. ولو أخذنا الحملة الرائعة المبدعة والأكثر تأثيرا في السنوات الأخيرة ألا وهي قوارب فك الحصار وحركة كسر الحصار عن غزة، فلم تكن مواجهتها مع إسرائيل إلا محفزا على التضامن والمقاومة، في حين قوبلت رسميا بوصفها "مسرحية سخيفة"!! ولن تكون شهادة فخر للمجتمع المدني الفلسطيني انه صمت تجاه تجني الموقف الفلسطيني الرسمي المنساق بدوره في المشروع الأمريكي الإسرائيلي. ولا بد من التعامل النقدي مع تعامل أجزاء جدية  ضمن المجتمع المدني الفلسطيني تعاملا اقصائيا مع التيارات الدينية وبالذات مع حركة المقاومة الإسلامية حماس.

كما علينا الاعتراف بأننا كفلسطينيين وكشعب ضحية ومنذ أواخر السبعينيات لم نتضامن مع قضايا الشعوب الأخرى مع العلم أن محورية القضية الفلسطينية ليس مبررا لإلغاء تفاعل شعبنا مع معاناة الشعوب الأخرى. والقضية الفلسطينية ليست القضية الوحيدة، ولا يحق للفلسطيني أن يضعها عالميا فوق القضايا أو في تعارض مع أولويات الشعوب الأخرى أو على حسابها، بل جزء منها.

ضمن غياب المشروع التحرري الفلسطيني، وكلمة "تحرري" أصبحت غير مرغوبة أو متطرفة وفق معاجم التسوية الجديدة الذي صاغته الإدارة الأمريكية وإسرائيل والاتحاد الأوروبي، فقد أصبح المعوّق الفلسطيني يحول دون اتساع حركة التضامن بنيويا. وأصبحت حركات التضامن باتخاذها أي موقف تضامني تحاسب وفق الصراع الفلسطيني الحزبي ووفق الموقف من المشروع الأمريكي القسري.

فالمشروع الأمريكي الإسرائيلي الأوروبي قائم على فرض فك الربط الفلسطيني  بين القضية الفلسطينية وبعدها العربي التحرري، وضمن مخطط تجزئة العالم العربي والقضاء على بنية الأمة العربية، وفي تطبيع إسرائيل ووجودها في المنطقة العربية، وفي فك الارتباط بين مركبات القضية الفلسطينية، وإبقاء المفوض عن السلطة الفلسطينية رهينة لعلاقات القوة مع إسرائيل وفي ظل سقف مشروع اوسلو التصوفي. وكل تضامن شعبي دولي مع الشعب الفلسطيني يصبح نقيضا لهذا المخطط.

ولا يغيب أيضا هنا أن هناك، وضمن عولمة أنماط التضامن والتفاعل بين الشعوب، المسعى الدولي الرسمي المتمثل في استبدال التضامن مع قضية شعب معين أو مجموعة معينة إلى نمط من الخصخصة ووضع التفاعل هذا على أساس موضوعات تقفز عن أولويات الإنسان بالقياس إلى واقعه المعاش. ومن هذه الموضوعات مثلا فان التفاعل العالمي يتطلب من فلسطيني من غزة المحاصرة؛ حيث لا ماء ولا غذاء ولا كهرباء ولا ابسط مقومات الكرامة الإنسانية، أن ينشغل في هذه الظروف بالانحباس الحراري أو باتفاقية كيوتو مثلا. ولماذا؟ لان العالم كله منشغل بها بمن فيه المجتمع المدني العالمي.

وضمن أنماط العولمة هذه تغيب قضايا الشعوب عن مكانها وزمانها لتصبح موضوعات عامة. ولتحل مكان الصراع والنضال العادل محاور: "حوار الثقافات"، و"حوار الأديان"، وما يمكن تسميته "صناعة السلام والاعتراف المتبادل"، ونقل محاور الصراعات من جوهرها مع القوى المهيمنة أو المحتلة أو الطاغية ومن جذور الصراع وجوهره إلى موضوع الأداء لدى الضحية وداخل مركباتها وتحميلها مسؤولية وضعها وتحميل سلوكها وزر استمرار القمع والاحتلال والحصار. ما كان ليكون هذا لولا وجود تساوق فلسطيني اتخذ له مسميات لم مختلفة ومنها "الاعتدال" و "الواقعية" وحتى "العلمانية".

ومع هذا فان حركة الشعوب في طبيعتها هي حركة مستدامة تتجاوز القيادات والمؤسسات.  ومن تجاربنا والانجازات التي تراكمت أن أهم عامل قوة في القضية الفلسطينية هو عدالتها وعدالتها هذه لن تظهر إلا بالصورة العامة لا بأجزائها. والمقصود هنا الخطاب المتجدد الذي نجحنا بتطويره في المجتمع المدني الفلسطيني في الوطن والشتات وبعض الحركات السياسية وهو الربط بين كل مركبات القضية الفلسطينية لا حصرها في جزء من كل.

والمقصود هنا طرح القضية الفلسطينية كقضية تحرر وطني ببعده القومي لشعب شرد عن وطنه وسلب وطنه ودمرت بيوته، وللتذكير فقط فان ذلك حدث في العام 1948 وما سبقه منذ بدايات المشروع الصهيوني الاستعماري ولم يبدأ في العام 1967. اللاجئون الفلسطينيون وفلسطينيو الشتات وفلسطينيو ال48 وفلسطينيو الضفة والقطاع هم الشعب الفلسطيني مجتمعون، وهم القضية الفلسطينية، والمسعى الدولي وحتى العربي والفلسطيني لحصر القضية الفلسطينية في معالجة إسقاطات احتلال العام 1967 وفي وضع ذلك في تناقض موهوم مع إسقاطات النكبة، وفرض المشروع الصهيوني المسمى الدولة اليهودية ودولة اليهود لشرعنة منع إحقاق حق العودة، والنيل من وجود فلسطينيي ال48 في وطنهم؛ هذه السياقات هي أساس عدالة القضية الفلسطينية وأساس الحق والنضال الفلسطيني.

في العقد الأخير نجحنا في إعادة صياغة هذا الخطاب التكاملي والذي يشكل جانبه الآخر هو التعامل مع إسرائيل ككيان كولونيالي عنصري ولا يمكن أن يكون غير ذلك. ونجحت أطراف في المجتمع المدني الفلسطيني والعربي والدولي في محورة التعامل مع جوهر إسرائيل المذكور، والذي لا يمكن رؤيته بكل تجلياته دون الجمع بين كل مركبات القضية الفلسطينية.

كما نجحنا في هذه الحقبة وضمن الشراكة مع حركات تضامن طليعية تنظر إلى كل الصورة ولا تحصرها بما يسمى "الخط الأخضر"، ولا تحصرها بجدار الفصل العنصري؛ بل تتعامل مع الجوهر وتزور فلسطين التاريخية كلها وتتضامن وتتفاعل مع كل أجزائها، وترى جوهر إسرائيل الاستعماري العنصري من جانبي الخط الأخضر وان إسرائيل لم تصبح أكثر عنصرية أو أكثر كولونيالية بعد احتلال العام 1967؛ بل واصلت الكشف عن جوهرها، هذه الحركات التضامنية الطليعية المثابرة أصبحت قاعدة ارتكاز لدور جديد وجيل جديد من حركة التضامن الدولي.

ورغم البؤس القيادي الفلسطيني وتغييب المشروع التحرري الفلسطيني فان حركات التضامن وان تراجعت عدديا فان هذا الجيل الجديد من حركات التضامن بدأ يربط في سلوكه بين مركبات القضية الفلسطينية، ومن هذه الحركات من بدأ يطرح سؤال الشرعية بالنسبة لإسرائيل، وطورت استراتيجيات المقاطعة لإسرائيل كنظام، وعدم حصر ذلك، كما في السابق، في ممارسات إسرائيل والمشروع الاستيطاني في الضفة والقطاع في العشرين سنة السابقة. والنموذج الآخر لحركات التضامن اليوم والتي تعتبر الأكثر فاعلية وتأثيرا وحراكا؛ والمقصود نموذج حركة كسر الحصار على غزة بتفاعلها الشعبي الفلسطيني والشعبي الدولي وببعدها الإنساني، وكذلك إلى نموذج آخر من المقاومة الشعبية وهو المعركة المستدامة على منطقة بلعين ونعلين والتفاعل الفلسطيني الدولي الشعبي وفي كلا الحالتين الأخيرتين استخدام ذكي للطاقات المحدودة بشريا لكن بإرادة حرة للإعلام وإمكانيات الاتصال والتي تعاظم من دورها.

في العام الستين للنكبة أعاد شعبنا ومن فوق حالة البؤس القيادي الاعتبار إلى حد ما لجوهر القضية الفلسطينية. وبلورت النكبة خطاب الحق الفلسطيني المتكامل وسلطت الضوء على جوهر إسرائيل.  وتفاعلت فيها طاقات هائلة من الشعب الفلسطيني وهي الأساس للتضامن العالمي مع الحق الفلسطيني.

مهما كانت حالة التراجع الكمي وانحسار التفاعل العالمي فان نضوج حركات التضامن المرئي حاليا هو تطور نوعي هام، وهو أساس لتحرك أوسع. لكن المعادلة هي ذاتها: لا يكفي أن تكون ضحية تعاني الظلم والقهر فما يحرك العالم هو أولا حركة الشعب الفلسطيني الكفاحية، وقواه الطليعية مطالبة بالانطلاق. قوى الشعب الفلسطيني لا تنضب ومدى التضامن لا حدود له إذا الشعب الفلسطيني أراد...

-------------------------------
 امير مخول: هو المدير العام لاتحاد الجمعيات العربية (اتجاه) – فلسطين48