بقلم: د. مصطفى البرغوثي*

لم تعد النكبة التي تحل ذكراها هذه الايام محددة بزمن معين او بقعة جغرافية بعينها من ارض فلسطين، وان كانت البداية قد حملها لنا عام 1948 بكل ما فيها من آلام ومعاناة، لان المشروع الاستيطاني الصهيوني لم يتوقف عند ذلك التاريخ، بل استمر واتسع من النكبة الى النكسة ومن النكسة الى يومنا هذا.

 

هنا مثلما باتت الارض الفلسطينية مهددة بالنهب والمصادرة لغرض الاستيطان والجدار العنصري والطرق الاستيطانية العنصرية، فان الوجود الفلسطيني على ارضنا التاريخية بات هو الاخر مهددا أكثر من أي وقت مضى، رغم قناعاتنا الراسخة بأن ترحيلنا أو رحيلنا ليسا واردين في حسابات شعبنا بعد كل ما حل به.

لقد عملت الحركة الصهيونيّة منذ عشرينيات القرن الماضي على ضرب الوجود الفلسطيني بدءا من المجازر التي رافقت النكبة، مرورا بالنكسة، وما بينهما من تهجير قسري لشعبنا في اصقاع الأرض، وليس انتهاء بما يجري اليوم من مصادرة للأراضي، وهدم للمنازل، وتهويد للقدس والمقدسات، وترويع لشعبنا، حتى وصلت الوقاحة الاسرائيلية الى حد تشريع قانون بشان التواجد الفلسطيني في الضفة الغربية بغرض تفريغ الارض ومنع التواصل بين ابناء الشعب الواحد في الضفة وغزة والقدس والداخل.

وامام القوة العسكرية والغطرسة الاسرائلية يمتلك شعبنا الفلسطيني ما هو اقوى من كل ذلك، وهو المقاومة الشعبية الباسلة التي باتت تقلق الاحتلال بعد ان اتسعت وامتدت الى مختلف الاراضي المحتلة، رغم ما تواجهه من قمع وغطرسة اسرائيلية.

غير ان مقتل الفلسطينيين اليوم يكمن في بقاء الانقسام مترنحا في الأراضي الفلسطينية، والتناحر على سلطة تحت الاحتلال، وهو ما تستغله اسرائيل لتمرير مشاريعها الاستيطانية ونحن منشغلون في قضايا ثانوية تبعدنا عن الهدف الرئيس، وهو التحرر من الاحتلال والخلاص منه بعد تلك السنوات العجاف من عمر الاحتلال الاطول في التاريخ الحديث، وبعد سنوات زادت عن اثنين وستين عاما من نكبة وتهجير الشعب الفلسطيني.

وحتى نواجه السعي الاسرائيلي للانقضاض على مشروعنا الوطني الذي يمر بمرحلة حساسة ودقيقة وخطيرة، فلا بد من تبني استراتيجية وطنية نادينا بها في حركة المبادرة الوطنية الفلسطينية مرارا وتكرارا، إستراتيجية تجمع بين المقاومة الشعبية وحركة التضامن الدولي ودعم الصمود الوطني واستعادة الوحدة الوطنية وانهاء الانقسام، لان موطن القوّة الأول لنا هو وحدتنا.

وفي هذا العام تحل الذكرى الثانية والستون للنكبة في وقت تتزاحم فيه المخططات الاسرائيلية الرامية الى تزييف التاريخ والجغرافيا الفلسطينية، والالتفاف على الحقوق الوطنية الفلسطينية غير القابلة للتصرف، وفي مقدمتها حق العودة للاجئين الفلسطينيين الى ديارهم الاصلية التي هجروا منها طبقا للقرار الاممي رقم 194، وحقنا في القدس عاصمة دولتنا المنشودة، وحقنا في أرضنا ومياهنا، ليبقى مشهد التهجير ماثلا في كل لحظة من حياة شعبنا.

إن دفاعنا عن حقوقنا الوطنية في التحرر من الاحتلال، وتحقيق الاستقلال، وتأمين عودة اللاجئين، وتحرير أسرانا، وكنس الاستيطان والاحتلال، يحتاج إلى نضال وطني مشترك ضد نظام الفصل العنصري الإسرائيلي الأسوأ في تاريخ البشرية كنتيجة يجب ان تسبق باستعادة وحدتنا وهي الضمانة الاولى لولوج الحرية.

واذا كنا نعاني من ظلم الجغرافيا التي باعدت بين ابناء الشعب الواحد في الضفة وغزة والقدس والداخل والشتات وفي مخيمات اللجوء، فان هذا يجب ان يشكل حافزا لتضافر الجهود والنضال ووحدة تاريخنا ومستقبلنا وهويتنا.

وقد سجل شعبنا الفلسطيني على مدى اثنتين وستين سنة أروع صور التضحية والإصرار على نيل الحرية والاستقلال والعودة وتقرير مصيره، رغم الآلام الكبيرة والتضحيات الجسام التي تكبدها على مر تلك السنوات وعانى فيها من التشرد واللجوء والابعاد والغربة والاغتراب، حيث واجه شعبنا وما زال يواجه الصلف الاسرائيلي والتنكر لحقوقه التاريخية عبر الثبات على ارضه والتغلب على الآثار المدمرة للنكبة، ليصنع من الألم أملا، ومن الجرح بلسما، فتتقاطع المباضع مع المعاول مع الاقلام والدفاتر ومع سواعد المناضلين في ملحمة البقاء فوق ارض البقاء.

إن كل يوم من ايام شعبنا الممزوجة بشتى صنوف العذاب والمعاناة والتهجير والحرمان من الارض سيبقى شاهدا على توالي ايام النكبة التي لم تتوقف عند عام 48، مثلما أن حق العودة لن يسقط بالتقادم ولا بفناء الأجيال، فقد اسقط شعبنا بصموده وايمانه بعدالة قضيتنا تلك المقولة الاسرائيلية المزعومة: "الكبار سيموتون والصغار سينسون"، فتوارثت الأجيال ذاك الحق المقدس ونهلت من نبع النضال الذي لا ينضب، ودافعت عن عروبة فلسطين الوطن والارض والانسان والمقدسات والهواء والماء والحدود والشجر والحجر التي تحكي حكاية البدايات في ارض البدايات والنهايات.

وفيما طالت ايام الانتظار، انتظار العودة إلى الأرض التي اخرج منها شعبنا عنوة عبر القتل والجرائم، فان المجتمع الدولي عليه تحمل مسؤولياته التي تقاعس عن القيام بها على مدى اثنين وستين عاما، لإعادة الحقوق المسلوبة الى شعبنا، وتطبيق قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة خاصة القرار 194، لإنهاء الاحتلال العنصري، ومحاسبة إسرائيل قانونيا وأخلاقيا عما اقترفته من جرائم يندى لها الجبين بحق شعبنا الذي عمد ارضه بالدماء، وتحمل القهر والظلم والتشريد، لتبقى قضية فلسطين هي قضية الانسانية جمعاء، وقضية العدالة والحق مقابل الباطل الاسرائيلي.

------------------
* د. مصطفى البرغوثي: الأمين العام لحركة المبادرة الوطنية الفلسطينية، عضو المجلس التشريعي الفلسطيني