بقلم: وليد العوض*

تجيء الذكرى الثانية والستون للنكبة الكبرى التي حلت بشعبنا الفلسطيني عام 1948 وحولت غالبيته للاجئين في أنحاء شتى من العالم، ومازالت لحظاتها تعتصر القلوب وآثارها تدمي الجسد الفلسطيني رغم مضى ستة عقود وعامين من الزمن على وقوعها. نستذكرها كل يوم تلمع لحظاتها بألم في ذاكرة الأجداد والآباء الذين ينقلون فصولها المؤلمة من جيل إلى جيل، وفي كل مناسبة لإحيائها يؤكد شعبنا الفلسطيني أنه لم ولن يستسلم للوقائع التي فرضتها إسرائيل كنتاج لتلك النكبة، وفي كل يوم يعبر عن عزمه وتصميمه على مواصلة مسيرته الكفاحية؛ حتى يتمكن من تحقيق أهدافه في الحرية والعودة والاستقلال. 

وقد تمكن شعبنا الفلسطيني خلال رحلة كفاحه الممتدة منذ عقود خلت من إسقاط العشرات من مشاريع التوطين، ونجح في إبراز هويته الوطنية والتي كرستها انطلاقة الثورة الفلسطينية وشكلت حينها ذروة التحدي الفلسطيني في مواجهة النكبة وآثارها. وبالاستناد لوحدته الوطنية وللتضحيات الكبيرة التي قدمها شعبنا، استطاع عبر ممثله الشرعي والوحيد، كسب التأييد لحقوقه الوطنية المشروعة وفي مقدمتها حقه في العودة.

وبالاستناد لذلك أيضا تنامى دور منظمة التحرير الفلسطينية وتعززت مكانتها وحظيت باعتراف عربي وعالمي تكرس في الجمعية العامة للأمم المتحدة والمحافل الدولية الأخرى. وخلال العقود الطويلة من النضال الوطني كافح شعبنا بكل عزة وشموخ، تحمل الجوع والعرق، الدم والدموع، التشرد والشتات، عانى المجازر بكل صنوفها، لكنه لم يخنع أو يركع. واصل كفاحه مصمما على نيل حريته واستقلاله والعيش بحرية وكرامة، ومن اجل هذا قدم مئات الآلاف من الشهداء والجرحى والأسرى والمشردين. وعلى درب التضحيات، واصل العطاء من اجل نيل حقوقه وعودة لاجئيه الذين شردوا من ديارهم عام 1948 مستندا لقرارات الشرعية الدولية وعلى رأسها القرار 194 القاضي بحق عودة اللاجئين إلى ديارهم.

اليوم، ونحن نحي ذكرى النكبة، أرى من واجبي القول أن تلك الانجازات لم تحقق دون ثمن. لقد كان ثمنها غاليا كما أسلفت، ترويه شواهد قبور الشهداء الذين سقطوا دفاعا عن الشعب والوطن، وتحكيه معاناة الجرحى المطرزة أجسادهم برصاص وشظايا معارك الدفاع عن الحقوق، وتقرأ ملامحه على جباه وظهور الآلاف من الأسرى: المحررين منهم ومن لازالوا خلف القضبان. انجازات عظيمة ترويها الثكالى في كل قرية ومدينة ومخيم داخل الوطن وفي الشتات، أنهار من الدماء ، بحور من الدموع، أيام وسنين بل وعقود من المعاناة من الحل والترحال في السهول والجبال، دفعها شعبنا لتحقيق كل هذه الانجازات التي ما كان لها أن تتحقق لولا وحدة شعبنا. اليوم وبعد 62 عاما من النكبة أجدني مضطرا للقول أن هذه الانجازات مهددة بالتبديد والضياع بكل ما للكلمة من معنى، ولو حصل ذلك - لا قدر الله - فإن تداعياته ستكون اكبر بكثير من تداعيات نكبة عام 1948.

إن ما يدفعني لهذا القول يلاحظه دون شك كل متتبع ومراقب للأحداث والتطورات، وتزايد المخاطر والتحديات؛ حيث تتواصل سياسة عدوان الاستيطان الإسرائيلي وقد شارفت على الانتهاء من بناء جدار الفصل العنصري، وباتت مسألة تقطيع أوصال الضفة الغربية وتحويلها إلى معازل أمرا واقعا تسعى حكومة التطرف بزعامة نتنياهو لتكريسه. كما تستمر وتتواصل عملية إقامة حزام استيطاني يهدف لعزل القدس عن الأراضي المحتلة عام 1967. ويتزامن ذلك كله مع الحصار الظالم المفروض على قطاع غزة، والتلويح باستمراره بتوجيه مزيد من الضربات لسكانه. إلى جانب ذلك، تأتي عملية إطلاق المفاوضات غير المباشرة مع الجانب الإسرائيلي دون توفر الضمانات لوقف الاستيطان وتحديد الإطار المرجعي لهذه المفاوضات، الأمر الذي يمكن حكومة نتنياهو من استغلال هذه المفاوضات، واتخاذها غطاء لاستمرار العدوان والاستيطان.

أما الخطر الأكبر الذي يزيد من حدة هذه المخاطر ويعبد الطريق أمامها فتتمثل باستمرار حالة الانقسام التي تعصف بالوضع الداخلي الفلسطيني، وتهدد المشروع الوطني الفلسطيني كما تهدد مكانة قضيتنا الوطنية ومجمل المنجزات التي حققها شعبنا، مما يفتح الطريق لنكبة جديدة غير التي صنعها الأعداء عام 1948، مع مفارقة مؤلمة تكون فيها المساهمة الفلسطينية هي الأبرز. ويتمثل الخطر بإصرار أعمى على تمسك أصحاب الانقسام ودعاته بمواقفهم؛ حيث يصرون على تجاهل تلك المخاطر رغم وضوحها وضوح الشمس، مما يطرح تساؤلا مشروعا لمصلحة من استمرار هذا الانقسام؟ والى متى تستمر سياسة الهروب للأمام من استحقاقات إنهائه، بما فيها استمرار التردد والمماطلة في التوقيع على الورقة المصرية رغم ما يمكن أن يقال فيها من ملاحظات، لكنها دون شك أفضل بكثير من بقاء هذا الوضع الكارثي على ما هو عليه وما يحمله من مخاطر جمة؟ إن التوقيع على الورقة المصرية على يوفر المدخل المناسب للبدء بإنهاء الانقسام ودرء المخاطر المترتبة على استمراره ووصولا لمصالحة حقيقية تقوم على مبدأ الشراكة في تحمل الأعباء وتغليب المصلحة الوطنية العليا وتضمن مواجهة المخاطر والتحديات.

إن المصلحة الوطنية تتطلب الإسراع في مغادرة هذه الحالة المؤلمة من الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية، بهذا فقط يمكن قطع الطريق على المخاطر الكبيرة التي تهدد منجزات شعبنا وتساعده على الاستمرار في النضال من أجل تحقيق حق العودة، وتمنع في نقس الوقت وقوع نكبة جديدة تكون اشد إيلاما مما سبق، هذا هو الطريق الذي يعيد الأمل المفقود للمواطن الرازح بين مطرقة الاحتلال وسندان الانقسام.

--------------------------
*وليد العوض، عضو المكتب السياسي لحزب الشعب الفلسطيني.