أولويات بحثية: التدريب على جمع وتسجيل التاريخ الشعبي الشفوي

بقلم: بروفسور روزماري صايغ*

أخبرني احد الأشخاص في مخيم برج البراجنة في أوائل السبعينيات بأن "تاريخنا غير معروف"، وبعد ثلاثة عقود، وعلى الرغم من الكم الهائل من الدراسات، فإن هذه العبارة لا زالت صحيحة في الأساس؛ حيث يشكو المعلمون في فلسطين المحتلة بأن الأطفال يترعرعون هذه الأيام بدون أية معرفة بتاريخ فلسطين، والوضع ليس بأفضل حالا في دول الشتات، حيث أنظمة التعليم الوطنية في الدول المضيفة تستثني فلسطين، وفقط يوجد بضع منظمات غير حكومية وكتاب أفراد يكافحون من أجل سد هذه الفجوة.

إذا كان المراد هو كتابة القصص والروايات الحديثة من تاريخ الشعب الفلسطيني، فإن المؤلف سيواجه المشكلة المتعلقة بتفاوت المعرفة وتجزؤها فيما بين التجمعات والجاليات الفلسطينية التي تشكلت بعد عام 1948؛ فهناك مناطق معينة كان يتم تغطيتها نسبيا (كمثال: الضفة الغربية، غزة، لبنان وداخل مناطق 1948)، وفي حين ظهرت دراسات حول الفلسطينيين في مصر (العابد) وأوروبا (شبلاق)، ولكن لا يعرف إلا القليل عن تاريخ الفلسطينيين في العراق، سوريا، ليبيا، دول الخليج، وشرق أوروبا... الخ. ويمكن للباحث أن يجد وفرة من المصادر في هذه الأيام: المجلات والدوريات الأكاديمية المتخصصة، سجلات منظمة التحرير الفلسطينية وقادة معينين من قيادات المقاومة؛ كتب إحياء ذكرى قرى مدمرة بعينها، مواقع انترنت حول النكبة؛ عدد من التواريخ والقصص المتعلقة بمخيمات محددة؛ ومجموعة هائلة من الأرشيفات، قصاصات من التاريخ تم جمعها واستخدامها في أفلام. ومع ذلك، يمكن للمرء أن يقرأ كل ذلك فيما لم يكن أدنى فكرة عن كيف قاوم الفلسطينيون العاديون المشتتون الاضطهاد، الهجمات العسكرية، الإفقار، وتشتيت العائلات واليأس.

بعد التشتت، فإن العامل الرئيس الذي ساهم في تفتيت عملية إنتاج التاريخ الفلسطيني ونشره هو غياب سياسة ثقافية لدى الحركة الوطنية الفلسطينية. وهذا الوضع ألقى بعبء تسجيل قصص المجتمع الفلسطيني على عاتق منظمات فلسطينية غير حكومية؛ مثل مركز بديل في بيت لحم؛ و"شمل" ، والمؤسسة الفلسطينية للتبادل الثقافي في رام الـله؛ والمركز العربي لمصادر الفنون الشعبية في لبنان، شبكة التاريخ الشفوي الفلسطيني في الأردن؛ إلى جانب العديد من الباحثين الأفراد. وقد كافحت هذه القوى المحدودة بأدواتها المتوفرة لبناء "مكتبات للتجربة الفلسطينية" من أجل مؤرخي المستقبل.

وعلى الجانب الايجابي؛ فإن هذا الغياب لسياسة ثقافية "رسمية" قد ترك مساحة مفتوحة للمجتمع الإقليمي والمحلي، للعائلات وللقصص الفردية لتكون أكثر ثراء وأكثر شمولا. وفي هذا الصدد؛ فإن أعمال التاريخ الشفوي بإمكانها سد الفجوة من خلال قدرتها على الوصول إلى جميع المستويات الاجتماعية. في عام 2001؛ قامت مؤسسة "شمل" في رام الـله بوضع برنامج تدريب لجمع وتسجيل التاريخ الشفوي، والذي كان من المقرر تطبيقه في الأرض الفلسطينية المحتلة والبلدان "المضيفة" الرئيسية، وللأسف وقع البرنامج ضحية إعادة احتلال الضفة الغربية من قبل إسرائيل في آذار 2002. ومن الواضح أن إعادة إحياء وتجديد هذه الخطة هي من الأولويات الوطنية في مجال الأبحاث. وثمة حاجة لاستمرار التشبيك للربط والتنسيق بين المنفذين، من أجل توسيع نظرتهم ونطاق عملهم وتعزيز خبراتهم، فضلا عن تداول عناوين للنقاش وبحث مناهج العمل. ويمكن للتركيز على المقاومة اليومية أن يعطي تماسكا موضوعيا لهذه الجهود.

-------------------------
* بروفسور روزماري صايغ: باحثة خبيرة في علم الانثروبولوجيا، لها العديد من المؤلفات في مجال التاريخ الشفوي الفلسطيني، مقيمة في لبنان.