بقلم: أريئيلا أزولاي*

إن الدولة - كالمواطنة- لا يمكن أن تكون ملكية شخصية للأفراد. وبعد سنوات طويلة من تعامل المواطنين اليهود مع الدولة كخاصتهم، صار من الصعب عليهم تخيل واقع آخر سوى أنها خاصتهم وحدهم. أنتم وحدكم، أيها الفلسطينيات والفلسطينيون من يستطيع تبديد الضباب وحالة التعمية الناشئة عن التعامل على هذا النحو مع هذه الدولة، من خلال قوة مطلبكم بأن تعود الدولة إلى وظيفتها الأساسية- كإطار ينظم الحياة العامة لكل المحكومين فيها.

أنتن أيتها الفلسطينيات، وأنتم أيها الفلسطينيون وحدكم - من خلال إصراركم على أن تكونوا جزءا فاعلا ضمن فئة المحكومين على يد الدولة، يمكن أن تعيدوا هذه الدولة إلى حجمها ودورها المناسب والمنشود، كإطار محايد يبنى بالمشاركة على يد المحكومين ومن أجلهم.

هذا لن يكون بالمفاوضات بين الأطراف، ولا بالشروط على مراحل؛ هذا يكون بعودة من أبعد أو أستثني من المحكومين عن دائرة الفعل والسيطرة؛ هذا يكون بممارسة المواطنة ضمن السيادة والحكم، وبالمشاركة السياسية الحقيقية، والتي هي الآن مغيبة.

 

 

أيها الفلسطينيون والفلسطينيات، لقد رجعت في خيالي وتوجهت إليكم، وإلى أخوانكم وأخواتكم الذين يعيشون هنا أو خلف الخط الأخضر، منذ أن طردوكم، فأنتم تظهرون في أحلامنا كل ليلة. قشعريرة تهز الجسد، وصدمة تحل علينا بسبب ذاكرة التهجير العنيفة. منذ ليلة تهجيركم، تراودنا فقط الكوابيس. أي طعم لتهجيركم وأنتم لا تزالون تعيشون في أجسادنا، وفي روحنا- نحن أبناء وبنات من طردوكم؟! أي طعم، وقد حُكم علينا بأن نكذب على أولادنا، أو نروي لهم حقيقة ما كان، ولنقول لهم بأن الآخرين من حولهم يكذبون عليهم عندما يروون لهم الرواية ومن ثم نجعلهم يكرهون محيطهم ومجتمعهم الذي يكذب عليهم؟!

عودوا. إرجعوا للعيش معنا مرة أخرى. فنحن بحاجة لكم! إن 750 ألف فلسطيني ونسلهم يمكنهم تغيير حياتنا هنا. لقد مللنا مشاهدة وجوه بعضنا بعضا! وجوه من يشبهوننا. من الواضح لنا بأننا لا نستطيع العيش وحدنا. نحن بحاجة إلى الآخر، ولا يوجد آخر أقرب منكم إلينا. تعالوا! تعالوا لنعيش هنا سويا!

هنا، كلما أفتح عيني ولا أجدكم تقفون أمامي تجتاحني ثورة غضب. كيف لا، وأبناء جلدتي ودولتي من اليهود يتراكضون هنا وهنا ويواصلون تحضيراتهم لعيدهم، وليتخيلوا- مرة واحدة على الأقل في السنة وهم يلبسون ثياب العيد البيضاء- دولتهم كدولة يهودية؟ في هذه الدولة المتخيلة على يدهم لا تظلون "غير محسوبين"؛ بل تبدون شفافين- إنكم تظهرون بقوة هذي الحدود، الجدران، والحواجز وان لم تكونوا مكشوفين. في أيام الأسبوع العادية، عندما تظهرون ضمن المشهد - على الأقل قسم منكم- فإنهم ينكرون وجودكم المدني تجنبا للاعتراف بكم كجزء من الكيان السياسي للدولة. في خيالي، والذي يتواصل كل ليلة اغرق فيها في الأحلام، أجدني أرفع صوتي، محاولة أن أقول لهم مرارا وتكرارا: أن الدولة ليست ملكيتهم الخاصة وأنها ليست لهم. لم يحاول أغلبهم حتى الإصغاء، بل نحّوني جانبا وواصلوا طريقهم. لم يعد هناك أمر لم أقله، على ما يبدو، ولكن صوتي ظل خافتا وغير مسموع. وعندما نتحدث عن الحياة السياسية في الدولة، فإن وجودكم يظل في أغلب الوقت شفافا.

منذ زمن بعيد، قبل أن نجد، أنا وأمثالي، سبيل النجاة من كذب "دولتنا"، فإنكم لم تتوقفوا أبدا عن قول المفهوم ضمنا، مطالبين بأن تكونوا. ولكن في الواقع الذي أنتجه العنف الذي حصل بين الأعوام 1947-1950، والذي حولكم فيه النظام الجديد إلى أقلية وأجبركم على السكوت، فإن مطالبتكم بأن تكونوا جزءا فاعلا، لكم ولإخوانكم الذين طردوا إلى ما وراء حدود الدولة التي قامت وليبقوا منفيين خارج حدودها التي توسعت في العام 1967؛ قد صورت هذه المطالبة وكأنها قادمة من "الطرف الثاني"، وتحمل التهديد دائما والجشع دائما. لقد تم تأطير هذه المطالبة على هذا النحو لدرجة أنها لم تدخل لسنوات طويلة إلى آذان الإسرائيليين اليهود، كحق أساسي وطبيعي لهؤلاء الذين فصلوا عن الكل الذي كان هنا في العام 1947، وليخلقوا بدورهم من هذا التهجير كلا آخر خارج حدود الدولة. منذ ذلك الحين، قدمت كل هذه الأمور باعتبارها قادمة من "الخارج"، لتكرس موضعتنا كمنتمين "للداخل". إن تحطيم هذا الجدار بين "الداخل" و "الخارج" ليس أقل أهمية من تحطيم ذاك الجدار، المرئي للعيان، والذي بني بشرور وغباء. إن كل الكلمات والشرح الذين قيل، وكتب بحقه لن يجدي نفعا مع هؤلاء الذين لا يستطيعون تخيل واقع لا تكون فيه هذه الجدران جزءا من المشهد.

في كل سنة، وبعد أيام قليلة على خلع إخواني وأخواتي اليهود لثياب العيد البهية والمكوية وإزالتها من شرفات بيوتهم، يلاحظون هؤلاء بأنكم لا تزالون هنا، تواصلون المطالبة بحقكم، وإخوانكم لا يزالون هنا، وأولئك، وراء حدود الدولة، لا يزالون يعيشون في غيتوات تسببت في إقامتها دولة إسرائيل. ولكن حتى في ذلك الوقت، فإن وجودكم لا يظهر كوجود سياسي في عيون (اليهود الإسرائيليين) الذين لا يحسب لهم النظام حسابا. كل سنة، أتوقع بأنه ربما يكفون عن الحديث الذي ترضعهم إياه الدولة، ويصغون إلى منطق الحديث البسيط والمدني الذي يذكرهم بأنه يمكنهم أن يتخيلوا حياة أخرى، عادلة ومتساوية مع الآخرين. بدلا من تعزيز الكذب، وإنتاج المزيد من الغبن وحبس الحقيقية، من الممكن أن نطلب المسامحة، وقد نحصل على المغفرة، ولكن لا بد أن نعترف بالغبن، لنعوض ونصلح ما يمكن قبل فوات الأوان.

مما لا شك فيه أن العدالة تقتضي بأن تكونوا، أن تكونوا جزءا فاعلا، وأن تكونوا جزءا من الكل. إن إسماع ذلك بصوت جهور ومطالبتكم هؤلاء الذين لا يفهمون معنى حقكم والذي طالما سمعوه بصيغ مختلفة، فإنكم تصنعون لنا معروفا. بكم وحدكم ربما سيتكون هنا مشهد مدني حقيقي يعيش فيه اليهود والفلسطينيون بما يمكنهم من أن يطوروا حياة مدنية كاملة.

من خلال عودتكم، وبأن تكونوا جزء من الكل السياسي، وبأن تكونوا مواطنين كاملي الحقوق في الدولة هو بالتأكيد مستقبلنا- ولا مستقبل إلا المستقبل المشترك.

-----------------------------
* د. اريئلا ازولاي: مدرسة الثقافة المرئية والفلسفة السياسية جامعة بار ايلان.