بقلم د. مازن قمصية*

لقد بني المشروع الصهيوني على الأسطورة المزدوجة التي تحتويها مقولة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، ولخلق هذه الأسطورة كان لا بد من الفصل الملموس للسكان الفلسطينيين الأصليين عن أرضهم، والقيام بإقناع أعضاء جماعة دينية بأنها "أمة" لها الحق في الاستيلاء على هذه الأرض. ولهذا، وجدت عملية اقتلاع الشعب الفلسطيني تعبيرا لها في التطهير العرقي من أجل السيطرة على "أكبر مساحة من الأرض بأقل عدد من السكان".

والنكبة باعتبارها كارثة بالنسبة لنا، لم تكن حدثا تاريخيا يتعلق بعملية الاقتلاع التي حدثت خلال سنوات 1947 – 1949 فحسب، إنما هي عملية حية ظلت مستمرة وتمثل تحديا وجوديا لجميع الفلسطينيين، وبالتالي، لم يكن مفاجئا أن يواجه المشروع الصهيوني عقبة كأداء أمام تحقيق غاياته الشريرة؛ وتمثلت هذه العقبة في قدرة الشعب الأصلي على التكيف السريع، وفي مقاومته التي يبدو أنها تبرز في الوقت المناسب ومع استمرار نموه السكاني، وفي مثل هذه العجالة، من الصعب تلخيص تاريخ زاخر امتد على مدى 130 عاما، وعليه، نجد أنفسنا ملزمين أن نكون انتقائيين في تسليط الضوء على الدروس الأساسية.

 

حاولت الحركة الصهيونية خلال القرن التاسع عشر استخدام مواردها المالية الهامة من أجل شراء أراضي لأغراض الاستيطان الاستعماري، وقد تم استخدام الرشاوى من أجل تسهيل نقل وثائق ملكية بعض الأراضي، كما تم استخدام طرق أخرى جرى تنفيذها من خلال الدوائر الفاسدة والمتداعية للإمبراطورية العثمانية، وفيما بعد تم استخدام ما يسمى بقانون أملاك الغائبين وغيره من القوانين والأوامر العسكرية الإسرائيلية. وبينما كانت قطع الأراضي التي تمت السيطرة عليها مبكرا صغيرة نسبيا، إلا أنها كانت تعني: أ) رأس جسر للاستعمار، و ب) أجبار الفلاحين الفلسطينيين الذين فلحوا هذه الأرض لأجيال متعاقبة على الخروج من هذه الأراضي، الأمر الذي شكل التلميح الأول لما هو آت. وبالتالي ليس مستغربا أن تشهد ثمانينيات القرن التاسع عشر أول التظاهرات، الالتماسات وغيرها من أشكال المقاومة الشعبية. وقد كانت هناك فئتان من المجتمع الفلسطيني هما الأكثر انخراطا في المقاومة؛ وهما الفلاحون والنخبة المثقفة، حيث كانوا قادرين على إدراك وفهم الغايات الصهيونية المتمثلة في تحويل فلسطين إلى دولة يهودية. ونجد من بين مثقفي النخبة ممثلين فلسطينيين في البرلمان العثماني مثل روحي الخالدي وحافظ عبد الهادي. كما كانت لدى هذه الحركة رغبة في الاستقلال على أساس القومية العربية الواسعة (وليس الصيغة القطرية/الوطنية المحلية). وقد نجحت هذه الحركة فعليا في إقناع السلطان العثماني لوضع حد للممارسات الإدارية السلبية مرتين على الأقل مع نهاية القرن التاسع عشر. كما سمحت الإصلاحات الليبرالية لعام 1907 بإصدار النشرات وعدد من الصحف، مثل الكرمل وفلسطين اللتين لعبتا دورا هاما في توعية الجماهير وتعزيز المقاومة الشعبية.

وكان فشل الحركة الصهيونية في الحصول على المزيد من دعم الحكام العثمانيين قد دفعها إلى اللجوء إلى القوى الأوروبية، وتطلعت الحركة الصهيونية على وجه الخصوص لبناء دعم القوى الكبرى: بريطانيا وفرنسا آنذاك، وقامت ببناء مجموعات ضاغطة (لوبي) وممارسة ضغوط استغرقت أكثر من ثلاثة عشر عاما للحصول على إعلان "جول" الفرنسي ومن ثم وعد بلفور البريطاني في عام 1917. عرف الفلسطينيون بهذه الوعود أثناء الحرب العالمية، تلك الحرب التي أعادت تشكيل العالم العربي بأسره. وبعد أن وضعت الحرب أوزارها على المستوى العالمي؛ تسارعت المقاومة الفلسطينية للاحتلال البريطاني ولمحاولاته الرامية لإقامة "وطن قومي يهودي". ودفع القمع الوحشي واسع النطاق الذي مارسته السلطات البريطانية في عشرينيات القرن الماضي بعض السكان الفلسطينيين المحليين إلى استخدام المقاومة المسلحة، وكانت هذه المقاومة المسلحة محدودة وهامة في نفس الوقت، وحدثت بعد أربعة عقود من المقاومة السلمية الصرفة. ومع ذلك، تواصلت وتسارعت المقاومة الشعبية المدنية فعليا؛ ففي 11 آذار من عام 1920؛ انطلقت العديد من المظاهرات السلمية في المدن الفلسطينية الرئيسية بالتزامن مع تأسيس قوات "الهاغاناه" السرية (المكونات الأولى للجيش الإسرائيلي). وكانت الهبة الشعبية في سنوات 1920 – 1921، هي أول حركة جماهيرية واضحة من أجل التحرير، وقد تبعها سلسلة من الانتفاضات تخللتها فترات من الهدوء النسبي (بالرغم من المقاومة المستمرة بأشكال مختلفة بما في ذلك الصمود. وامتدت الفترات الفاصلة بين هذه الانتفاضات عادة ما بين 8 – 15 سنة، أو ارتبطت أكثر بالظروف الجيوسياسية، فقد حدثت انتفاضات في سنوات 1920 – 1921، 1929، 1936، 1955 – 1956، 1971 – 1972، 1982 – 1984، 1987 – 1990، 2000 – 2005).

ويمكن تعلم الدروس من هذه الانتفاضات، فعلى سبيل المثال، كانت انتفاضة 1936 ناجحة بدرجة عالية عندما حققت المقاومة الشعبية مع بعض المقاومة المسلحة المحدودة نجاحات هامة خلال الشهور الثمانية الأولى، حيث اشتملت على أطول إضراب في التاريخ الفلسطيني (وربما العالمي)، وقد تم إضعاف هذه الانتفاضة من خلال عدد من العوامل: 1) القمع واسع النطاق، بما في ذلك تدمير مناطق واسعة في البلدات الفلسطينية مثل يافا، من قبل سلطات الاحتلال البريطاني، وذلك كشكل من أشكال العقاب الجماعي؛ 2) قيام الأنظمة العربية المتعاونة مع بريطانيا بدفع الفلسطينيين لـ"الثقة" في السلطات البريطانية؛ 3) قيام القيادة السياسية الفلسطينية بالوقوف ضد الانتفاضة في البداية، ثم انتقدت قيادتها، ومن ثم المتاجرة على حسابها.

وكانت "نكسة" عام 1967 عبارة عن حرب عدوانية خرقت اتفاقيات دولية وخطوط وقف إطلاق النار، وتركت إسرائيل مسيطرة على صحراء سيناء، قطاع غزة، الضفة الغربية وهضبة الجولان؛ حيث غيرت حرب عام 1967 الخارطة الجيوسياسية في نواح مهمة. وتمثل جزء من المشكلة بالنسبة لإسرائيل هي أنه على عكس ما جرى عام 1948، لم تشهد حرب عام 1967 رحيل جماعي للفلسطينيين (مما يعني أن التطهير العرقي لا يمكن تكراره)، وهكذا ظهرت إسرائيل باعتبارها سلطة احتلال مفروضة على ملايين الفلسطينيين، وتلقت القضية الفلسطينية زخما جديدا من جراء القمع الإسرائيلي؛ وذلك من خلال عودة التواصل بين الفلسطينيين في جميع أنحاء فلسطين التاريخية، ومن خلال تعزيز القيادة الفلسطينية بعد اتضاح الفشل والهزيمة التي منيت بها الأنظمة العربية. وقد تطورت عملية الاعتماد على الذات وإن ببطء، وحققت الأثر الأكثر أهمية في التنمية المؤسسية في سنوات السبعينات (بما في ذلك الجامعات الفلسطينية). كما انضم المثقفون إلى بقية قطاعات المجتمع الفلسطيني في عملية تطوير أشكال مختلفة للمقاومة الشعبية.

بدأت هذه الأشكال بالظهور من خلال احتجاجات عفوية بسيطة ورفض الفلسطينيين الامتثال لأوامر الاحتلال، وتم سحق هذه الجهود بلا هوادة، ورغم ذلك تواصلت وتسارعت. ففي عام 1970؛ اندلعت مظاهرات في غزة أثارت خشية الجيش الإسرائيلي بسبب عدد المشاركين، وأصبح هدم البيوت، القصف العنيف، وقتل المدنيين الأبرياء هي العلامة المميزة في تعامل الجيش الإسرائيلي، وقادت هذه الفظائع إلى ردود ومحاولات يائسة من قبل بعض الفلسطينيين للعمل على لفت أنظار العالم لمحنتهم، وتصاعد العنف الفلسطيني في سنوات السبعينات متجها إلى تقليد أفعال معينة استخدمها المستعمرون في الفترة ما بين سنيّ الثلاثينات إلى الخمسينات.

وفرت انتفاضة أعوام 1935 – 1939 وانتفاضة 1987 ثروة كبيرة من الدروس والانجازات التي تعطينا الأمل في المستقبل، فقد تزامنت انتفاضة 1987 مع انعقاد مؤتمر القمة العربية في عمان (8-11 تشرين أول، 1987) حيث تم تهميش القضية الفلسطينية. وأفرزت "الثورة" الشعبية وغير المنظمة قيادتها من الميدان، ففي غضون شهر واحد؛ كان هناك العديد من الأشخاص الذين أصبحوا قيادات طبيعية للمقاومة، وهم الذين أصدروا البيان الأول ونداء العمل في الرابع من كانون ثاني 1988 تحت لواء "القيادة الموحدة للانتفاضة" التي أصبحت على درجة عالية من التنظيم والفعالية. وتضمن البيان الأول دعوة للإضراب والعصيان المدني في يومي 11-13 كانون ثاني، واشتملت البيانات المتعاقبة على مجموعة متنوعة من الفعاليات وتم تنفيذها بطريقة مهنية على الرغم من القمع الوحشي الإسرائيلي. وقد اشتملت الفعاليات على الدعوة لأيام إضراب، تشييد مواقع عامة لتخليد ذكرى ضحايا الاحتلال، رفض دفع الضرائب، تنمية الاعتماد على الذات من خلال الزراعة والاقتصاد المنزلي، الاستقالات الجماعية، رفض دفع الغرامات الظالمة المدنية والجنائية، إقامة الصلوات العامة، رفض الامتثال للأوامر العسكرية، رفع الأعلام الفلسطينية التي كانت محظورة آنذاك، وغيرها الكثير. ولكن مثل ثورة 1936؛ أدت المناورات السياسية من قبل أولئك المهتمين بالمواقع إلى التخلي ببطء عن الطبيعة الشعبية للنضال.

أدركت القيادة السياسية الإسرائيلية والدولية حقيقتين: الأولى، أن الانتفاضة يمكن أن تصبح أو أنها أصبحت طريقة للحياة في الأراضي الفلسطينية المحتلة؛ والثانية، أن منظمة التحرير الفلسطينية هي الجهة السياسية الرئيسية الوحيدة التي لديها القدرة المباشرة على وضع حد للانتفاضة. وهذا ما دفع الولايات المتحدة الأمريكية لبدء عملية مدريد. وعندما شعرت إسرائيل بالضغط النابع من وجود مفاوضين فلسطينيين مقتدرين، تم طبخ عملية أوسلو التي كانت عبارة عن التقاط لثمار قليلة وغير ناضجة مقابل إنهاء المقاومة والضغط الدولي على إسرائيل، قوى مشابهة لتلك التي قامت بإنهاء ثورة 1936، حيث قامت عملية أوسلو بإنهاء المقاومة الشعبية التي انتظمت في أواخر الثمانينات.

وشهدت سنوات أوسلو مضاعفة لأعداد المستوطنين الاستعماريين في الضفة الغربية وقطاع غزة، وشكلت غطاء لفرض قيود مشددة على حركة الفلسطينيين، ولعزل وتهويد القدس، وتجزئة ما تبقى من فلسطين. وتم تعبئة الشعب بأن باراك قد أعطى إنذارا لياسر عرفات للتوقيع على اتفاق نهائي من شأنه أن يبقي الفلسطينيين في معازل عنصرية كبيرة، ومن الممكن أن يشطب الحقوق الأساسية، مثل حق العودة للاجئين الفلسطينيين، أما القشة التي قصمت ظهر الفلسطينيين؛ فقد كانت زيارة شارون محاطا بألف جندي إسرائيلي إلى المسجد الأقصى المقدس بالنسبة للمسلمين في أيلول من عام 2000، حيث اندلعت انتفاضة الأقصى في 28 أيلول، والتي استمرت حتى عام 2006. واشتملت انتفاضة الأقصى على مشاركة معظم الفلسطينيين والمتضامنين الأجانب في المقاومة الشعبية، وعلى مجموعة صغيرة من الفلسطينيين الذين شاركوا في المقاومة المسلحة حيث واجهوا العنف الإسرائيلي الوحشي وأعمال القتل الجماعي؛ فقد استشهد أكثر من 4,000 فلسطيني. ولكن خلال هذه السنوات، بدت المقاومة الشعبية في حالة انتشار وتسارع، فصارت قرى صغيرة ونائية مشهورة في وسائل الإعلام وبين الفلسطينيين، وجعلت المتضامنين الأجانب يحجون إليها من أجل المشاركة في الكفاح الفلسطيني: بدرس، مسحة، الولجة، المعصرة، نعلين، بلعين، وعشرات القرى الأخرى. وتقود الاعتداءات الإسرائيلية المستمرة على الأحياء الفلسطينية في القدس إلى تشكيل المزيد من اللجان الشعبية الفاعلة في أحياء مثل الشيح جراح وسلوان.

خلاصة

المقاومة الفلسطينية بحكم التعريف هي رفض للظلم ومحاولة للحصول على الحرية وتخطيط مستقبلنا الحر، والحكام والمحتلون يحتفظون بهيكل السلطة التي تمكنهم من فرض برامجهم. ونحن فخورون بتاريخنا، تاريخ المقاومة المستحيلة التي امتدت 130 عاما حتى الآن. فبدون هذه المقاومة، كان يمكن لفلسطين أن تصبح دولة يهودية نقية وبتكلفة متدنية جدا للمحتلين، وبدلا عن ذلك، يوجد اليوم في فلسطين التاريخية أكثر من 5.5 مليون فلسطيني، والمشروع الصهيوني، الممول جيدا، العنيف، والمدعوم من القوى العظمى، قد فشل في تحقيق أهدافه المعلنة، وبينما دولته قوية عسكريا، إلا أنها فشلت أخلاقيا، معنويا وفي أساليب الإدارة، ونهايتها لا مفر منها. ففي الوقت الذي تشتمل على تناقضات داخلية وعلى ضعف، فإن مقاومتنا ستكون في نهاية المطاف هي العامل المحوري لإسقاط هذه الدولة، وفي وقت أقل بكثير مما يعتقد الكثيرون.

وفي هذه الأيام، هناك العديد من أنشطة المقاومة الشعبية في عشرات المواقع، وحتى في غزة المحاصرة؛ يتظاهر الناس الذين يواجهون خطر الموت فيما يسمى بالمناطق العازلة، وهي مناطق بعرض مئات الأمتار أعلنتها قوات الاحتلال الإسرائيلي بأنها أرض حرام، وهناك سفن كسرت الحصار على غزة، كما يوجد أسطول من السفن في طريقه إلى غزة خلال هذا الشهر. وقامت قوات الاحتلال الإسرائيلي بقتل أو تشويه المئات من المتظاهرين بمن فيهم متضامنين أجانب وحتى يهود إسرائيليين. ويواصل الفلسطينيون دفع ثمن باهظ من أجل الحفاظ على استمرار فعاليات المقاومة الشعبية. ولكن، ومنذ تأسيس المشروع الاستعماري الصهيوني، فقد ارتبط وجودنا على الدوام: بالنسبة لنا، من أجل نكون موجودين علينا أن نقاوم، وليس أمامنا أي خيار آخر.

----------------------------------
* د. مازن قمصية: كاتب وناشط فلسطيني، مؤلف كتاب "مشاركة أرض كنعان"، وله كتاب قادم على الطريق بعنوان: "المقاومة الشعبية في فلسطين: تاريخ من الأمل والتمكين".