هذا العدد خاص، ليس بمعنى انه يأتي في مناسبة خاصة، بل لأنه يتناول العودة الفعلية، وليس مجرد الحق في العودة، في آراء مجموعة من المفكرين، والكتاب والنشطاء الإسرائيليين. هو خاص لأنه يتناول تصورات وأفكارا عملية بشأن عودة اللاجئين والمهجرين الفلسطينيين على نحو يختلف جوهريا واستراتيجيا عن الخطاب الصهيوني المعهود، ولأنه يعارض الموقف الرسمي للحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ النكبة. هو خاص لأنه ليس تقليديا، فلا يعرض لأفكار صهيونية تقدمية أو يسارية كما يحلو للبعض تصنيف بعض دعاة السلام الإسرائيليين، فهو يقدم فكرا اسرائيليا ناشئا يتجرد من صهيونيته أو على الأقل يحاول ذلك بجدية. هو خاص أيضا ليس فقط لان جميع مقالاته كتبت جميعها من قبل إسرائيليين، بل لان مقالاته عميقة وجريئة واستفزازية.

المقالات عميقة، فهي مبنية على التسليم بحق العودة، وحتمية حصولها، وبالتالي تذهب إلى ما هو أعمق وابعد من ذلك؛ تذهب إلى كيفية تطبيق العودة. والتطبيق هنا يناقش ماهية الحل العادل والدائم، ولكن بلغة غير لغة الرباعية، وغير لغة المفاوضات المرعية من قبل الولايات المتحدة؛ يناقشها باقتراح آليات تحقيق الحقوق والعدالة. وهذا بالضرورة لا يستند إلى افتراض إمكانية إلغاء الآخر - ولو بعد حين- إنما ينهج باتجاه ترسيم إطار الدولة القادرة على تحقيق ذلك، فيناقش ماهية الحكومة- الدولة، وأسس القانون، ونمط العلاقات والبنى الاجتماعية – الاقتصادية وغيرها.

المقالات جريئة، فهي تتجاوز الخطاب السائد إسرائيليا، ودوليا وفلسطينيا أيضا. ضمن هذا السياق، لا تقف المقالات عند حدود ما يسمى "المقبول"، ولا عند حدود ما يسمى بواقعية "قبول الموجود" او التعاطي معه. الجرأة هنا تبدو في تصور واقع آخر تتوافر له وفيه شروط ومقومات الدولة القانونية الحديثة دون اعتبار للمقولات – المسلمات الرائجة. وأكثر من ذلك، الجرأة تظهر في تفنيد ماهية تلك المقولات – المسلمات والتي تنطوي على غيبيات، و/او مثالية حالمة، و/أو عنصرية مدمرة، و/أو قومية شوفينية. فكما تظهر الجرأة في فهم الواقع ورفضه، فإنها تظهر أيضا في الإيمان بإمكانية تغييره، وبتصور واقع آخر؛ حتى وان لم يرض صناع القرار المحليين والدوليين.

المقالات استفزازية، فهي تطرق آذان الإسرائيليين أنفسهم على نحو يغوص في حقيقة الخوف اليهودي- الإسرائيلي. فالخوف لا يبرر استعمار الآخر، وإنكار النكبة والتنكر للحقوق لن يجلب الأمن، والحل المفروض بقوة الدول العظمى وبفعل موازين القوى لن يجلب الاستقرار والأمان ولا السلام بأضعف صوره. الخوف موجود، ولكن القضاء عليه لا يكون بإدامة محركاته، بل بالبحث عن كيفية عدم تجديده وإعادة إنتاجه وهكذا دواليك. المقالات تستنفر الفلسطيني، لا بإنكار حقوقه، بل بإجباره على التفكير في الآخر الموجود فعلا لا وهما، والذي سيكون موجودا على نحو ما في المستقبل أيضا سواء في دولة واحدة أو في دولتين. كيف يمكن للعدوين أن يتآلفا في مجتمع واحد؟ سؤال إجابته لا تكون بعرض الكليشيهات الجاهزة عن الحقوق الأساسية للشعب الأصلي، والحقوق المكتسبة لليهود غير الصهاينة في إطار دولة أو دولتين. الحياة المشتركة عندما تكون خيارا تكون أكثر تعقيدا واستفزازا من فرض الحياة المشتركة بقوة المسيطر على المسيطر عليه. فالسلوك البشري بالضرورة يختلف في الحالة الثانية المفروضة قسرا، عن سلوك ذات الأشخاص عندما يكون خيارا حرا يجتمع فيه الضدان (العدوان سابقا) في وحدة المجتمع - الدولة.

لا يسعى مركز بديل من وراء هذا العدد إلى الترويج للكتاب الإسرائيليين، كما لا يراد من تخصيص محور العدد على التصورات والأفكار الإسرائيلية الناشئة بشأن العودة إيهام القارئ، أيا كان، أن التصورات والأفكار المعروضة في هذا العدد تشكل نمطا في المجتمع الإسرائيلي. غاية مركز بديل، التي ترتكز أساسا على أن العودة هي نقطة الارتكاز لأي سلام عادل ودائم بصرف النظر عن ماهية الحل السياسي (دولة أم دولتان)، هي الدفع باتجاه استنفار الطاقات الفكرية والعملية لطرق العودة، ليست كحق فهذا أمر غير قابل للنقاش، بل كواقع يلزم لتحقيقه تصور التحديات العملية التي ستنشأ بشأن الدولة، والحقوق الأخرى (الممتلكات، والتعويض)، والبنى، والعلاقات، ووجود الآخر...الخ.

بعيد النكبة كانت العودة مفترضة تلقائيا بتحرير فلسطين، ومفهوم التحرير ذاك كان يفترض عدم وجود الآخر، أو على الأقل، خضوعه لما سينشأ عن التحرير. وبتراجع مفهوم التحرير وبروز حل الدولتين، صارت العودة موضوع تفاوض تحقيقه ولو جزيئيا سيكون رهنا بإمكانية تحقيق "سلام" من نوع ما. ولكن في الحالتين: فرضية العودة كنتيجة تلقائية للتحرير، أو بفرضية "السلام"، لم يتم طرق كنه العودة. في الحالتين تم افتراض إمكانية الرجوع فيزيائيا، ولكن في الحالتين أيضا بقيت العودة مفهوما جامدا يتمنع الإسرائيليون عن مجرد تصوره، ويعزف الفلسطينيون عن مناقشة حيثياته، وشروطه وما يترتب عليه.

ولكي يصبح خطاب العودة أكثر من مجرد شعارات حالمة نرددها في المناسبات أو لتمنية النفس، لكي تصبح العودة برنامجا فلسطينيا فعليا - وهذا ما سيتم تناوله في عدد قادم- كان لا بد من طرح هذا العدد.

هيئة التحرير