قراءة في مشاريع توطين اللاجئين الفلسطينيين (رؤية تحليلية)

بقلم: تيسير محيسن*

يتأسس حق عودة اللاجئين الفلسطينيين، على ثلاث مرتكزات: (1) أن للفلسطينيين، حقوقاً طبيعية لا ينازعهم فيها أحد، تتمثل في حق العيش في طن حر والتمتع بالسيادة الكاملة عليه. (2) أن لهم، بوصفهم شعباً، حقوقاً محمية/مصونة قانونيا تؤكد حقوقهم الطبيعية وتدعمها، متضمنة في العرف الدولي، وعدد من الاتفاقيات والإعلانات الدولية، ومبادئ الأمم المتحدة وقرارات هيئاتها، وخصوصاً، قرار 194. (3) إرادة الشعب الفلسطيني وإصراره على حقه في العودة، ورفض أي حلول تنتقص من هذا الحق.

مقاربات الحل:

منذ نشأت هذه المشكلة، لم تتوقف محاولات حلها، باعتبارها أبرز قضايا الصراع وأكثرها حساسية. يمكن التمييز بين ثلاثة أنماط من السلوك والمواقف انطوت عليه هذه المحاولات:

أولاً: المقاربة الدولية

نظرياً، تمسكت هذه المقاربة بمرجعية قرارات الأمم المتحدة، غير أن المشاريع المقترحة مالت إلى تبني فكرة التوطين والتعويض أكثر من إتاحة فرص العودة. ويعد مشروع "ماك غي" (1949) أقدم مشاريع التوطين. وقد توالت المشاريع بعد ذلك، ويمكن إجمال المواقف والأفكار التي حملتها فيما يلي:
- اعتماد المقاربة الاقتصادية للتوطين والدمج في بلدان اللجوء. فلجنة "كلاب" أوصت بإيجاد برنامج للأشغال العامة. و"جون بلاندفورد" (1951) أوصى بتخصيص 250 مليون دولار لدمج اللاجئين. ومبعوث الرئيس الأميركي أيزنهاور إلى الشرق الأوسط (1953-1955) اقترح توطين اللاجئين في الضفة الشرقية للأردن تحت مسمى الإنماء الموحد.
- ممارسة الضغط أو الابتزاز أو الإغراء على الدول العربية لإجبارها على القبول بتوطين اللاجئين على أراضيها.

- لم تستثن بعض المشاريع إمكانية إعادة بضعة آلاف من اللاجئين إلى إسرائيل، شرط أن توافق إسرائيل، ويوافق العائدون على العيش في كنف الحكومات الإسرائيلية (جون فوستر دالاس 1955، كينيدي 1957)

- بعض المشاريع قامت على أساس مقايضة أو مساواة حق العودة بالتعويض، علاوة على مدخل التنمية الاقتصادية في حل المشكلة (دراسة هيوبرت همفري 1957، مشروع داغ همرشولد 1959، جوزيف جونسون 1962)

- اشتملت المشاريع اللاحقة للتوطين على تقديم تصورات تفصيلية وعملية تتعلق بالأعداد وأماكن التوطين وغير ذلك. المحامية الأمريكية "دونا آرزت" (1977) قدمت اقتراحاً بتوطين نحو 75 ألف فلسطيني. وتضمن مشروع "فانس" (1969) إنشاء صندوق دولي لتوطين (700) ألف في الأردن و (500) ألف في سوريا وتفريغ لبنان من اللاجئين، كما تدفع تعويضات لأصحاب الأملاك وفق الجداول التي وضعتها لجنة التقديرات عام 1950. كما تضمنت رؤية بيل كلينتون (2000) اقتراح توطين بعض اللاجئين في دولة فلسطينية جديدة وفي الأراضي التي ستنقل من إسرائيل.

- تميزت المشاريع المقدمة من وكالة غوث اللاجئين بالطابع العملي كما تجلى الأمر على سبيل المثال في مشروع سيناء، أو تحسين حياة اللاجئين من خلال إعطائهم قطع أرض وقروض لتوطينهم كما جاء ضمن خطة لعام 1959 التي كان هدفها توطين 60% من اللاجئين في الأردن وسوريا ولبنان.

- تأثرت المشاريع المقترحة بالسياقات التاريخية، فقد أظهرت بعض المقترحات الأمريكية أن أحد محددات الموقف الأميركي تجاه اللاجئين يكمن في مواجهة الخطر السوفييتي في المنطقة، فمشروع أيزنهاور (1957-1958) ربط بين التنمية الاقتصادية ومحاربة الشيوعية. كما أن دعوات التوطين في العراق تصاعدت إبان حصاره ومن ثم احتلاله عام 2003. كما اتسمت معظم المعالجات المقترحة قبل صعود الحركة الوطنية الفلسطينية بالطابع الإنساني.
- مثلت المشاريع الدولية المقترحة في اغلبها انحيازاً واضحاً لإسرائيل، علاوة على أن المجتمع الدولي لم يتخذ أية تدابير عملية للضغط على إسرائيل أو إجبارها لتطبيق قرارات الشرعية الدولية. ومع الحرج الذي تسبب به هذا الانحياز، لم تتردد بعض الجهات الدولية في محاولة إبراز هيئات تتحدث باسم اللاجئين بما يفكك قضيتهم ويضعفها أمام الرأي العام العالمي، ومن ذلك أيضاً محاولات وكالة الغوث تحويل قضية اللاجئين من قضية دولية إلى قضية تتحمل مسؤولياتها الحكومات المحلية، بما في ذلك السلطة الفلسطينية.

المقاربة الإسرائيلية:

أنكرت إسرائيل مسؤوليتها عن التسبب في نشأة مشكلة اللاجئين منذ البداية. وحملت مسؤولية المشكلة، وبالتالي حلها على الجانب العربي. يمكن استخلاص بعض الأفكار من جملة المشاريع المقترحة:
1- أجمعت المشاريع الإسرائيلية المقترحة على منع عودة اللاجئين، وعلى توطينهم في البلدان المضيفة لهم أو في بلدان أخرى ودائماً بتمويل دولي أو عربي. هذا ما خلصت إليه لجنة بن غوريون عام 1948، وكذلك مشروع ييغال ألون بعد عام 1967 الذي دعا إلى توطين اللاجئين في سيناء. كما اقترح أبا إيبان (1968) التوطين في أماكن اللجوء بمساعدة دولية وإقليمية.

2- بعض المشاريع غير الرسمية تضمنت بصورة أو بأخرى بعض "التنازلات" ويمكن تفسير الأمر برغبة إسرائيل بالحد من الضغط الدولي أو تجنب الحرج أو الخديعة في أحيان أخرى لاصطياد تنازلات بالمقابل من الطرف الفلسطيني أو الأطراف العربية. فقد تضمن مشروع ليفي أشكول (1965) اقتراحاً باستعداد إسرائيل للمساهمة المالية. واشتملت دراسة أعدها شلومو غازيت (1994) على اقتراح بعودة بعض لاجئي سنة 48 ونازحي 1967 إلى مناطق الحكم الذاتي.
3- دفعت أطراف إسرائيلية مختلفة بالعديد من الأفكار والمقترحات، والممارسات التي تنطوي على عنصرية شديدة، وتعكس درجة الخوف من بقاء مشكلة اللاجئين بلا حل، أو حلها بعودتهم إلى ديارهم التي شردوا منها. مارست إسرائيل ابتزاز الدول العربية بطرحها مشكلة يهود الدول العربية، والدعوة إلى الوطن البديل في الأردن، وهي فكرة طرحها بن غوريون وتضمنها مشروع ألون (1968) وتمسك بها شارون بهدف السيطرة على الضفة الغربية، وُشنت حرب 82 كمحاولة لتحقيق هذه الفكرة. ومن ذلك أيضاً السعي المحموم لإزالة المخيمات واستهدافها في كل الحروب.
4- من التكتيكات التي اتبعتها إسرائيل في مواجهة مشكلة اللاجئين: الضم الزاحف (دايان)، تشجيع الجذب الاقتصادي والرحيل الإرادي (العملية الليبية 1953-1958)، المساومات مع الأطراف الإقليمية والدولية (التوطين في العراق)، التأهيل والتذويب، المذابح (1982)، استدراج الطرف الفلسطيني لتقديم تنازلات بوهم تشجيع مبادرات السلام (جنيف 2002).

المقاربة العربية والفلسطينية:

اشتملت هذه المقاربة على التمسك بحق العودة ورفض أي شكل من أشكال التوطين وضرورة الكفاح من أجل التحرير والعودة حتى منتصف سبعينيات القرن العشرين. تبنى الفلسطينيون لاحقاً هدف إقامة الدولة المستقلة على حدود الرابع مع حزيران والتشديد على حقي تقرير المصير والعودة طبقاً لقرار 194. وكذلك فعلت الدول العربية باستثناء بعض الحالات التي وافقت فيها بعض الحكومات على مشاريع توطين بالتعاون مع وكالة الغوث وفي ظل الضغوط الممارسة عليها أو الإغراءات المقدمة إليها، مثل مشروع توطين سيناء (1955)، ومشروع الرمدان (1953)، ومشروع موسى العلمي ومشروع استغلال مياه الأردن (1955). حافظ المخيم على رمزيته ورفضت الحركة الوطنية الفلسطينية بمجملها أي محاولات لإزالة هذا الرمز، بما في ذلك مشاريع تحسين ظروف معيشة اللاجئين في المخيمات أو ربطها بالخدمات البلدية في المدن المجاورة.

مع انطلاق مسيرة التسوية، 1991، واصلت الغالبية العظمى من الفلسطينين والعرب التمسك بحق العودة ورفض التوطين، غير أن ثمة اتجاهات جديدة برزت في صفوف نخبهم وأنظمتهم الرسمية. اتجاه ولد ضعيفاً رأى إمكانية مقايضة حق العودة بالدولة المستقلة وبناء شرق أوسط جديد وإنهاء حالة الصراع مرة وإلى الأبد. الاتجاه الثاني كان أكثر خطورة وأوسع انتشاراً في صفوف النخب والقيادات عبر عنه بعبارة "حلول إبداعية متفق عليها" لمشكلة اللاجئين. واللافت أن معظم المشاريع المقترحة تأسيساً على هذه الفكرة، جاءت بالشراكة مع أطراف إسرائيلية رسمية وشبه رسمية ودائماً برعاية دولية. من ذلك وثيقة أبو مازن-بيلين (1995)، مشروع نسيبة–ايالون (2002)، وثيقة جنيف (2003)، وثيقة اكس آن بروفانس (2007). تضمنت هذه المشاريع، بصورة أو بأخرى، الأفكار التالية: تحسين شروط حياة اللاجئين حيث هم إلى حين، اعتراف إسرائيل بالمسؤولية عن مشكلة اللاجئين دون تحمل التبعات بالضرورة، العودة إلى أراضي الدولة الفلسطينية أو حمل جنسيتها والبقاء في الشتات كجاليات، عودة رمزية لإسرائيل على فترات زمنية متباعدة ومن خلال لم الشمل، التعويض المجزي مع التأهيل والتوطين، العودة إلى أراض تتخلى عنها إسرائيل ضمن تبادل الأراضي.

انطوت المقاربة العربية لمشكلة اللاجئين على تناقضات، فمن جهة التمسك بحق العودة ورفض التوطين، ومن جهة أخرى الاستعداد الدائم للمساومة والمقايضة وكذلك حرمان اللاجئين من أبسط حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية والمدنية بحجة رفض التوطين، الأمر الذي لا يقل خطراً عن التوطين، من حيث: خلق بيئة طاردة تجعل اللاجئ يؤثر الرحيل أو الانتقال والهجرة إلى أماكن أخرى في هذا العالم، إضعاف العزيمة النضالية بتحطيمه نفسياً وجعله يعيش حالة من الخوف المتواصل والعزوف عن الفعل الاجتماعي والسياسي والكفاحي الفاعل. وأخيراً، تعطي الذريعة للمؤسسات الدولية للتعامل مع قضية اللاجئين بوصفها قضية إنسانية وليست قضية سياسية.

مشروع توطين سيناء: دروس وعبر

قبلت الحكومة المصرية عام 1953 اقتراح توطين بعض لاجئي قطاع غزة في سيناء تحت ضغوط دولية تعرضت لها مصر آنذاك لتلافي وقوع حرب مع إسرائيل ليست مستعدة لها من ناحية، ولتجنب العمليات الانتقامية التي كانت تقوم بها إسرائيل ضد قطاع غزة، من ناحية ثانية. تضمن المشروع المقدم من وكالة غوث وتشغيل اللاجئين توطين حوالي 12 ألف أسرة على أراض يجري تحويلها إلى أراضي زراعية في شمال غرب سيناء، دون أن يتعارض هذا الأمر بالضرورة مع حق العودة، كما يشتمل المشروع على إمكانيات التوسع في المستقبل. يمكن القول أن مشروع توطين اللاجئين في سيناء يعد من بين أخطر وأبرز المشاريع، لأكثر من سبب: (1) جرى المشروع بموافقة الحكومة المصرية وبتعاونها تعاوناً تاماً مع وكالة الغوث. (2) قدم المشروع في زمن حرج، حيث لم تكن الثورة قد ثبتت أقدامها بعد، بما يعني عدم قدرتها على مواجهة إسرائيل عسكرياً. (3) المشروع الوحيد الذي يمكن وصفه بالمشروع المتكامل والمنظم وبدخوله حيز التنفيذ العملي. (4) بدا أن سلوك وكالة الغوث بوصفها آلية دولية ليست في منأى عن تأثير القوى النافذة في النظام العالمي حيث يمكن استغلالها في غير الهدف الذي أنشئت من أجله. (5) كشفت تداعيات المشروع وردود الفعل عليه وموقف الحكومة المصرية الذي استجاب لهبة مارس مدى غضب إسرائيل وحنقها من فشل المشروع، ما دفعها، من بين أسباب أخرى، للمشاركة في العدوان الثلاثي 1956. (6) أظهرت انتفاضة مارس 1955 مدى تمسك الفلسطينيين بحقهم وعدم التفريط به واستعدادهم للموت في سبيله، كما أظهرت أهمية وحدتهم في مواجهة التحديات والمخاطر والمؤامرات الخارجية. (6) المشروع وردود الأفعال عليه نبه القيادة المصرية الشابة إلى الخطر الذي تمثله إسرائيل ومدى التواطؤ الدولي معها، فاختار عدم الانحياز والاستفادة من الفرص التي تخلقها الحرب الباردة.

خلاصة

إذا كان الفلسطينيون، بالرغم من تمسكهم بحقهم، وتضحياتهم الجسيمة في سبيل تحقيقه، لم يتمكنوا من إعادة اللاجئين إلى ديارهم، فان إسرائيل بالمقابل لم تتمكن من شطب هذه القضية عن الأجندة الدولية، كما لم تنجح محاولاتها لإعادة توطينهم خارج ديارهم التي شردوا منها. ولعل الدروس المستلهمة من هبة مارس 1955، ومن غيرها تسلط الضوء على الوسائل الممكنة لإجهاض أي محاولة للانتقاص من هذا الحق عبر التوطين:

- آمن الفلسطينيون منذ اليوم التالي للنكبة، أن الرد عليها والتغلب على أثارها، لن يكون إلا باستعادة الأرض المغتصبة، وبعودة أولئك الذين اضطروا لتركها بالقوة. وإذا كان بعضهم، في مجرى الصراع وتطوره، رأى إمكانية قيام دولة مستقلة على جزء من أرض وطنهم ضمن الحدود التاريخية لها، غير أنهم جميعاً لم يسقطوا حق العودة باعتبار هذا الإسقاط، فيما لو حدث، يعني التسليم النهائي لإسرائيل بحقها في الوجود على حسابهم.
- من المتوقع، ضمن البيئة الإقليمية التي تتخلق في هذه الآونة، أن تعود مشكلة اللاجئين لتشكل مصدر القلق الرئيس لإسرائيل: فمن ناحية سقطت أوهام التسوية على النحو الذي ُروج له خلال عقدين، ومن ناحية ثانية تستعيد الشعوب العربية، مع سقوط أنظمتها المتخاذلة والمتواطئة، عافيتها وقدرتها على الحشد والتعبئة واستعادة وعيها الثوري، ما يجعل من فكرة الزحف المليوني باتجاه الحدود فكرة شديدة الواقعية وتنطوي على فرصة تاريخية لقلب موازين الصراع في المنطقة. لقد سقط رهان إسرائيل على إمكانية مقايضة حق العودة بتقرير المصير، ولذلك ستلجأ إلى محاولات تقويضهما معاً.

-------
* تيسير محسين: عضو المكتب السياسي لحزب الشعب الفلسطيني.