بقلم: حنين نعامنة وسهاد بشارة*

ليس خفيًّا على أحد أنّ الممتلكات الفلسطينية العامة والفردية كانت قد شكّلت قاعدة أساسية في بناء الاقتصاد الإسرائيلي، وخصوصًا في السنوات الأولى التي تلت النكبة، وذلك وفقًا للإحصاءات التي أعلنتها إسرائيل آنذاك. شملت هذه الأملاك التي بات أصحابها، في غالبيّتهم العظمى، لاجئين في الشتات، أراض شاسعة مزروعة ومبنيّة وحسابات بنوك وممتلكات منقولة وأخرى وقفيّة من جوامع ومقابر وغيرها. ووفقًا لمصادر إسرائيلية رسميّة فإنّه في الفترة ما بين الأعوام 1948-1953، تمّ تأجير نحو 244,564 عقارًا لأمد طويل، في الوسط المدينيّ، وبلغ المدخول منها نحو 11,453,543 ليرة إسرائيلية.

يُضاف إلى هذه المبالغ مدخولات المحاصيل الزراعية التي لم يتسنّ للاجئين الفلسطينيين تحصيلها، علاوةً على الخسارة الناتجة عن فقدان كمّ هائل من الأملاك المنقولة وغيرها. ويمكن استقاء هذه المعلومات من رسالة كان قد وجّهها "الوصيّ" على أملاك الغائبين إلى رئيس حكومة إسرائيل آنذاك، في تاريخ 24.3.1949، حيث يلخّص الأوّل بأنّ:
الأملاك المنقولة: تمّ جمعها في المدن والقرى المتروكة وإحضارها إلى مخازن، بعد تسجيلها وتقييمها من قبل مختصّين، حيث تمّ بيع الجزء الأكبر منها لـ"جيش الدفاع الإسرائيلي" ولمؤسّسات الحكومة وللوكالة اليهودية، إضافة إلى بيعها لأفراد.
[...]
تمّ نقل المصانع والمشاغل بغالبيّتها )مخارط وما شابه) إلى الصناعات العسكريّة – الأنواع الأخرى من المصانع المختلفة في مدن البلاد، المطاحن ومصانع الجليد وما شابه تم تفعيلها على يد هيئات تعاونيّة. وعلى يد أفراد.
الأراضي مؤجّرة لأمد طويل إلى مزارع وفلاحين على يد وزارة الزراعة – جزءٌ من البساتين يفلحه هذا القسم والجزء الآخر مؤجّر لأمد طويل على يد وزارة الزراعة لمزارع وأفراد.
هذا القسم فلح مساحات واسعة من كروم الزيتون 50000) دونم) وحقّق بذلك عددًا من الأهداف:
أ. وفّرنا 500 طنّ من الزيت لاقتصاد الدولة.
ب. زوّدنا الولايات المتحدة قسمًا من المنتج (150 طنًّا) مقابل فرق عسكرية.
ج. شغّلنا في العمل آلاف الفلاحين الذين اعتاشوا من العمل في قطف الزيتون.
د. تمّ احتلال قطاع اقتصاد هامّ وجرى دمجه في اقتصاد الدولة.
[...]
المدخول الناتج عن تصفية الأملاك المنقولة، التأجير، وعن القطاع الزراعي يتلخّص في نهاية شهر شباط بما يقارب3,3/4 ملايين ليرة إسرائيلية.. " (التشديد ليس في الأصل)

لكنّ النهب لم يقتصر على هذا الحدّ فحسب، ففي آب1951 ، أبلغ "الوصيّ على أملاك الغائبين"، في التقرير المالي للعام المنتهي بتاريخ 31.3.51، والذي كان قد قدّمه إلى وزير المالية، بأنّ "المدخولات الكبرى في بند الجباية على حساب غائبين يتلخّص بتحويل ما مجمله582,000 ليرة إسرائيليّة من ودائع الغائبين في بنك باركليز."

واعتُبر القانون الإسرائيليّ الوسيلة المركزية و"المُثلى" لمصادرة الحقوق الفلسطينيّة ونقلها بسبل "شرعيّة" لملكيّة يهودية؛ بدايةً لملكية دولة إسرائيل ولاحقًا لملكيّات فردية يهودية حصريّة. واشتملت المعادلات القانونية التي أعدّت لهذا الغرض على شقّين اثنين: أيديولوجي واقتصادي؛ الأوّل يشير إلى حتميّة يهودية أرض فلسطين إلى أبد الآبدين وحمايتها من "الغرباء"، والثاني – الاقتصادي – يقضي بإشباع الخزينة الإسرائيليّة وتعزيز اقتصادها، بحيث يكون كلّ شقّ امتدادًا للآخر ومكمّلاً له. بيد أنّه في الوقت الذي شابَ الحذر فيه نهج إسرائيل غداة النكبة، بالإفصاح علنًا عن مثل هذه المخططات واتخاذ خطوات "قانونية" مباشرة لتصفية حقوق اللاجئين الفلسطينيين في ممتلكاتهم، وذلك لإثبات شرعيّتها أمام المجتمع الدوليّ عبر تأكيدها عدم التخلي عن القانون الدوليّ كمرجعية في تعاملها مع هذه الممتلكات، فإننا نراها تدأب في السنوات الأخيرة على إجهار حتمية مشروعها الصهيوني في أرض فلسطين، عبر سلسلة من القوانين والإجراءات التي تبيح بيع هذه الممتلكات في الأسواق العقارية بحرّية، وهو ما يعني إحباط حقوق اللاجئين الفلسطينيين في ممتلكاتهم، وما إلى ذلك من إسقاطات على حقّ العودة. ويأتي هذا التحوّل – غير المفاجئ! – في ظلّ قاعدة سياسيّة فلسطينية رخوة مزعزعة القوام غير قادرة على مواجهة المخطّطات الإسرائيلية بتاتًا.

تتلخّص المرحلة الراهنة بقانونين اثنين، هما أبرز ما تمخّض عن هذه المرحلة من وسائل لمصادرة الحقوق الفلسطينية بالكامل. القانون الأوّل هو قانون مديرية أراضي إسرائيل (التعديل رقم 7) - 2009، والذي عُرف بقانون "الخصخصة"، وهو يتيح للحكومة الإسرائيلية بيع نحو 800 ألف دونم من الأراضي المسجّلة على اسمها، بما في ذلك تلك التي صادرت ملكيّتها من اللاجئين الفلسطينيين أو من الفلسطينيين الذين أصبحوا لاحقًا مواطنين أو مقيمين في دولة إسرائيل، في حين أنّ القانون الإسرائيلي سمح، على مدى العقود الستّة الماضية، بتأجير هذه الأراضي فقط مع إبقاء الملكية على اسم دولة إسرائيل. بيد أن هذا القانون الذي أثار حفيظة أطراف يهودية كثيرة لعدم تماشيه مع المبدأ الصهيونيّ القاضي بعدم بيع أرض الشعب اليهودي بتاتًا، وبذلك فقد كسر العقيدة الصهيونية الداعية إلى "حتمية الحقّ اليهودي في أرض فلسطين إلى أبد الآبدين"، وكذلك بسبب التخوّف من بيع الأراضي لفئات "أجنبية" غير يهودية، جعل دولة إسرائيل تلحقه بقانون ثانٍ يسدّ الثغرة التي فتحها قانون الخصخصة عبر الحدّ من قدرة كلّ من هو ليس "يهوديًّا" على شراء هذه الأراضي.

ففي يوم التاسع والعشرين من آذار في العام الجاري، سنّ "الكنيست" الإسرائيلي قانونًا يحظر على أيّ جهة (عامة أو خاصة) بيع أراضٍ أو تأجير عقارات لمدّة تزيد عن خمس سنوات، أو توريث أو إهداء حقوق في ملكيّات خاصة مسجّلة في إسرائيل، لـ"غرباء"؛ أي كل مَن هو ليس مقيمًا أو ومواطنًا في إسرائيل أو يهوديًّا تحقّ له "الهجرة" إلى إسرائيل وفقًا لقانون "العودة" الإسرائيلي. إلا أنّ القانون يحوي استثناء يتيح للدولة تسهيل البيع وفقًا لمعاملات تجري حسب قانون تشجيع الاستثمارات المالية (1959)، أو في حال تمّت الموافقة على البيع بعد التشاور مع وزيري الخارجية والأمن في هذا الصدد. ويجدر التنويه إلى أنّ حظر بيع الأراضي لـ"الغرباء"، كان ساريًا منذ الثمانينيّات على الأراضي المسجّلة على اسم دولة إسرائيل فقط، بينما يوسّع القانون الجديد رقعة هذا الحظر لتشمل الآن الملكيّات الخاصة أيضًا، سواء أكانت عربيةً أم يهودية، ولتشمل أيضًا نقل حقوق الملكيّة بالتوريث أو عبر إهدائها من قبل المالك لمَن يشاء.

يلخّص الاقتباس التالي المأخوذ من أقوال أحد المتقدّمين باقتراح القانون في جلسة لجنة الدستور والقانون والقضاء في "الكنيست" التي عُقدت في تاريخ 23.11.2010 لمناقشة نصّ القانون المقترح قبيل التصويت عليه، ماهية القانون الحالي وحصيلة نهج استعماريّ طال لأكثر من نصف قرن وهو لا يزال قائمًا:
سألنا أنفسنا كيف نضمن أنّ أراضي هذه البلاد، التي تمّ تخليص قسم منها في ذلك الحين بفضل هبات من الشعب اليهودي والقسم الآخر تمّ شراؤه على يد دولة إسرائيل؛ لن تقع في أيدٍ مُعادية عبر إجراءات فضفاضة، أو ربّما عبر طرق اقتناء أخرى تمكّنها من الاستيلاء على قطع كبيرة. فقد تكون هناك موجات شراء كثيفة، من شأنها نزع شوكة حقيقة أنّ هذه (الدولة) هي دولة الشعب اليهودي قبل كلّ شيء. الأراضي مخصّصة لهذا الغرض. كلّ الصراع بيننا هنا هو على الأراضي. هذا هو جوهر الصراع.

يستغلّ القانون الأخير الحالة "المدنيّة" للفلسطينيين أينما حلّوا لإقصائهم عن حقوقهم التاريخية في أراضيهم. فمن جهة، بات الفلسطينيون ممّن بقوا في فلسطين وأضحوا مقيمين أو مواطنين في "إسرائيل" لاحقًا، خاضعين لسلطة قانون أساسه عرقيّ/قوميّ يتيح بيع الأراضي الخاصة لليهود بشكل حصريّ، وبالتالي إلزامهم باعتناق الفكر الصهيونيّ فعلاً وممارسة. من الجهة الأخرى، يستغلّ القانون "إقامة" اللاجئين الفلسطينيين في أماكن الشتات لمساواتهم بكلّ حمَلة المواطنة الأجنبيّة ("الغرباء")، لنفيهم عن حقّهم التاريخي الشرعي في أراضيهم وممتلكاتهم وفي العودة إليها، وذلك بعد أن بقوا على مدى سنوات طويلة في عداد "الغائبين" وفقًا لقانون أملاك الغائبين الذي شكّل حجر الأساس لبُنَية المتاجرة بالحقوق الفلسطينية منذ البداية. وهكذا، يبقى ملايين اللاجئين الفلسطينيين في عهدة التشريد والفقر وانعدام الشروط الأساسيّة لحياة كريمة، حيث يمكثون في دول "استضافتهم" عراةً من كلّ متاع إلا القليل الذي استطاعوا تحميله على ظهورهم في طريقهم الطويلة إلى الشتات، تاركينَ قسرًا منازلهم ومصانعهم ومدارسهم وبنوكهم ومقابرهم ومشافيهم وكرومهم وحدائقهم، لتصبح سلعًا يتاجر بها الغرباء دون حسيب أو رقيب.

وتعود المخطّطات الداعية لتصفية حقوق الملكية الفلسطينية، مع اعتبار الرابط الوثيق للملكيّات بحقّ العودة، إلى السنوات الأولى التي تلت احتلال فلسطين، وذلك كما يستدلّ من تقرير كان قد قدّمه وزير المالية الإسرائيلي اَنذاك ليفي أشكول، في أيلول 1954، حول وضعية الأراضي في إسرائيل، وجاء فيه: "يجب تصفية ]وظيفة[ الوصيّ على أملاك الغائبين في أقرب وقت ممكن. الحقّ في وجوده يعود ]للحاجة[ في إنهاء ]شأن[ استبيان غياب ]المالكين[ عن الممتلكات وتسجيلها على اسم سلطة التطوير". استمرارًا لهذه التوصية، يسعى القانون الإسرائيلي، عبر هذه التشريعات، إلى إعادة تعريف الوضعية القانونية للأملاك الفلسطينية، متجاوزًا بذلك الالتزامات التي قدّمتها إسرائيل للمجتمع الدوليّ غداة النكبة، الأمر الذي يتنافى والقانون الدولي القاضي بعدم تغيير الوضعية القانونية للممتلكات التي يتمّ الاستيلاء عليها في أوقات الحرب، كما يتنافى أيضًا مع القرارات الصادرة عن الأمم المتّحدة بخصوص اللاجئين الفلسطينيين وممتلكاتهم حصريًّا، وعلى رأسها القرار 194 للهيئة العامة للأمم المتحدة منذ عام 1948.

المرحلة الراهنة تشكّل نقطة اللاعودة، فالمزادات العلنيّة التي تقيمها إسرائيل للمتاجرة بالأراضي الفلسطينيّة تستلزم تحوّلاً جذريًّا في سبل العمل التي تمّ اتخاذها حتى اليوم للحفاظ على حقّ العودة وحقوق اللاجئين في ممتلكاتهم وفي سبل التصدّي للتشريعات الإسرائيلية بما يخصّ أملاك اللاجئين الفلسطينيين، عبر أخذ القانون الدولي كقاعدة للمطالبة الفعلية بهذه الحقوق. بهذا الصدد، يجدر البدء بالتفكير بكيفيّة استغلال القرارات المنبثقة عن الهيئة العامة للأمم المتحدة، حيث تطالب "لجنة المصالحة من أجل فلسطين" – التي لا تزال قائمة ولو نظريًّا – بين الحين والآخر، بتقديم ملخّصات عن وضعية هذه الأملاك، وكان آخرها القرار الصادر في تاريخ 20.1.11. من جهة أخرى، يُعتبر النقص الشديد في المعلومات التي بحوزة الفلسطينيين حول ملكيّات الأراضي في فلسطين وحول مصائرها اللاحقة، الحلقة الأضعف في نضالنا من أجل حقّ العودة، وعليه يجب مطالبة الأمم المتحدة بالكشف عن تحقيقات "لجنة المصالحة من أجل فلسطين" بهذا الشأن، لأنّ هذه المعلومات هي حقّ لكلّ فلسطينيّ. كذلك، يجب تكثيف البحث عن المعلومات والمستندات المتعلّقة بأملاك اللاجئين الفلسطينيين في الأرشيفات الإسرائيلية، والعمل على تجميعها، لتكوّن هذه كلّها سويةً أدوات لمواجهة مصادرة حقّ العودة الفلسطيني.
-------------
* حنين نعامنة وسهاد بشارة: محاميتان في مركز عدالة الحقوقي في حيفا.
---------------------------------------------

1-Michael R. Fishbach (2003) "Records of Dispossession – Palestinian Refugee Property and the Arab-
Israeli Conflict", Columbia University Press, New York ص. 33.
2-يُنظر رسالة د. شافرير،" الوصيّ على أملاك الغائبين" إلى رئيس الحكومة،24.3.1949 ، أرشيف دولة إسرائيل، ملفّ 5440/1578
]عبري[.
3-يُنظر التقرير الماليّ للسنة المنتهية في 31 آذار 1951 ، ب. بورات،" الوصيّ على أملاك الغائبين"، 21.8.51 ، أرشيف دولة إسرائيل، ملفّ 5440/1582 ]عبري[.
4-تلك هي المناطق المبنية أو المعدّة للتطوير وفق مخطّطات هيكلية. من الجدير ذكره أنّ قانون الخصخصة ساري المفعول أيضًا على أراضي المستوطنات الإسرائيلية في شرق القدس وفي هضبة الجولان المحتلين عام1967 ، والتي يسري عليها القانون الإسرائيلي بحكم ضمّ هاتين المنطقتين غير القانوني إلى نطاق دولة إسرائيل.
5-قرار رقم 259 لمجلس دائرة أراضي اسرائيل في تاريخ 2/5/1982.

http://www.mmi.gov.il/MoatzaWeb/InterHachById.aspx?HachId=259&SearchWords= ]عبري[. القرار عُدّل لاحقًا عبر قرار رقم 342 في تاريخ 11/11/1986، قرار رقم 371 في تاريخ 16/2/1988، وقرار رقم 1111 في تاريخ 21/5/2007.