أثر التحولات والتغيرات السياسية في الوطن العربي على الساحة الفلسطينية الداخلية وبناء م. ت. ف

بقلم: احمد ابو غوش*

نظريا وتاريخيا، كان العرب يتشكلون كأمة لم يكتمل تكوينها تحت ضغط وفعل الحراب الاستعمارية. فالأقطار العربية الحالية هي نتاج تقسيم هندسه خبراء الاستعمار الأوروبي في القرن التاسع عشر للحيلولة دون قيام دولة عربية واحدة، لأن هذه الدولة- حسب مؤتمر خبراء الاستعمار الذي عقد سنة 1907 - من شأنها أن تؤثر على مصالح الدول الاستعمارية وتشكل خطرا على تواصلها مع مستعمراتها. ورغم التجزئة، والمحاولات النشطة من قبل الاستعمار والقوى التابعة له في الأقطار العربية، في ظل مرحلتي السيطرة والهيمنة الاستعماريتين، لخلق ثقافة وبنى سياسية واقتصادية واجتماعية؛ وبالتالي هويات قطرية، ظلت الأقطار العربية تتأثر بالتحولات والمتغيرات الجارية في الأقطار الأخرى. وظلت فلسطين، بسبب الاحلال الاستيطاني وتهجير شعبها وتشريده في الأقطار العربية أساسا، وخاصة المحيطة بفلسطين، عامل تأثير قومي، أو عبر قطري، وظل الفلسطينيون يتأثرون بكل تحول يجري في الأقطار العربية، خاصة ذات الدور المركزي منها، لتشتتهم في الأقطار العربية وعيشهم على أرضية علاقات إنتاجها، وتحت مظلة أنظمتها السياسية.

قد يبدو من نافل القول التأكيد هنا أن دول وشعوب وأمم العالم من شرقه إلى غربه، ومن شماله إلى جنوبه، تمارس تأثيرا متبادلا فعالا أو ثانويا على بعضها بسبب تحول العالم في هذه الأيام إلى قرية صغيرة. ولكن اشتراك الجماهير العربية باللغة والتاريخ والثقافة والمصالح المشتركة جعل للتأثير المتبادل فيها سمات ذات طابع متميز هي نفسها، تقريبا، سمات التأثير بين مكونات الأمة الواحدة. فهم يقرأون لنفس الكاتب، ويتأثرون بنفس مصادر الثقافة، ولهم نفس المصالح في ظل السيطرة الاستعمارية وما بعدها.

التحولات الجارية في الواقع العربي شأنها شأن أي تحول وفعل في بنى اجتماعية لأمة أو شعب، هي تحولات ذات صلة بالعمق التاريخي للتطورات الناجمة عن تفاعل بين عامل ذاتي قطري أو قومي وبين مكونات التأثيرات الموضوعية المتشكلة من عوامل موضوعية تخلق ظروفا موضوعية تحد من، أو تساعد على، إجراء التغيير والتطور. والتأثيرات العربية قد تكون فاعلة كعوامل ذاتية من خلال تدخلها في ما يحدث في الأقطار الأخرى، أو كعوامل موضوعية تخلق ظروفا موضوعية جديدة تسهل أو تعيق التحولات في الأقطار الأخرى. ومن راقب أحداث الحرب الأهلية في لبنان يمكنه أن يلاحظ أن أقطارا عربية كان لها تأثير مباشر من خلال قوى فاعلة في لبنان أو من خلال تأثيرها على، أو دعمها لقوى لبنانية فاعلة. وقد كان لسوريا دور رئيس في كل الأحداث والتحولات في لبنان.
للواقع الفلسطيني سمة خاصة، وبالذات قبل قيام السلطة الوطنية الفلسطينية، حيث كان، وما زال يتأثر بالمتغيرات في الأقطار العربية، وخاصة في الأقطار التي يتواجدون فيها بعمق أكبر، مثل تلك التي على تماس أكبر مع القضية الفلسطينية كدول الطوق. وبسبب انطلاقة الثورة الفلسطينية، بدأ الفلسطينيون يحصلون تدريجيا على استقلاليتهم التي ولدتها قدرتهم على خلق آليات فعل لصالح قضيتهم وحصولهم على اعتراف عربي ودولي بتمثيل أنفسهم عبر م ت ف. وفي كل الحالات، تأثر الفلسطينيون بطبيعة النظام القطري الذي تواجدت الثورة فيه كساحة مركزية لفعلها، في الأردن أولا وفي لبنان ثانيا. وبعد قيام السلطة الوطنية، ظل الفلسطينيون يتأثرون، وإن كان بشكل أقل من السابق، بما يحدث في الواقع العربي من متغيرات.

بناء على ما سبق، يمكن القول أن تأثير التحولات والمتغيرات بشكل عام على الواقع الفلسطيني يمكن أن يكون مباشرا وقويا، ويمكن أن يكون غير مباشر وأقل تأثيرا. ويمكن القول أن تحولات مهمة حدثت في الواقع الفلسطيني، وفي م ت ف بشكل خاص، متأثرة بالتحولات والمتغيرات الحادثة في الواقع العربي. فالتحول من نهج الثورة إلى نهج التفاوض لم يكن ممكنا بدون تأثير التحولات التي حدثت في مصر في ظل حكم أنور السادات وعقد اتفاقية كامب دافيد. وكذلك لم يكن مقدرا أن تعقد دول أخرى كالأردن اتفاقا سياسيا مع إسرائيل إلا بعد عقد م ت ف لاتفاق أوسلو.

بين عامي 1982 و 2011 حدثت متغيرات في الواقع الدولي والعربي أثرت على الشعب الفلسطيني، أبرزها:
1. الخروج من بيروت وانقسام قوى الشعب الفلسطيني بين نهجين، الأول مع استمرار الثورة والنضال، والثاني مع قبول مبدأ التفاوض مع الاحتلال. الأول لم يمارس نضاله بسبب منعه من قبل دول الطوق من ممارسة هذا النضال. والثاني كان ضعيفا بسبب الخلل في موازين القوى العربية والدولية لصالح إسرائيل وحليفتها المركزية أمريكا.

2. سقوط الاتحاد السوفييتي وسيادة نظام القطب الواحد أدى إلى تحولات مهمة في الواقع العربي وفي م ت ف أيضا. هذه التحولات كانت سياسية واقتصادية واجتماعية وقيمية أدت إلى تعاظم دور البرجوازيات التابعة في الأقطار العربية وتزايد عدد الأصوات الميئسة من الثورة والنضال والمنسجمة مع رؤية دول المركز في رسم معالم الواقع العربي.

3. ضعف التوجهات الثورية والتقدمية في الواقع العربي بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وفشل الأحزاب القومية والوطنية في خلق حالة ثورية، أدى إلى صعود النضال المرتكز على أيديولوجية دينية، فبرزت في الساحة الفلسطينية حركة حماس، وفي الساحة اللبنانية حزب الله.

4. تفاوض م ت ف مع إسرائيل أسفر عن اتفاق أوسلو بكل ما اعتراه من ضعف بسبب موازين القوى السائدة في الواقع الفلسطيني والعربي والدولي.

5. اعتبار النضال الوطني الفلسطيني إرهابا بسبب التحولات القيمية التي فرضتها الولايات المتحدة على العالم والوطن العربي بعد هجمات 11 سبتمبر.
قيام السلطة الوطنية الفلسطينية منقوصة السيادة وقمعها المتواصل من قبل الاحتلال، أورثها بسبب طبيعتها والشروط المفروضة عليها وضعف الدعم العربي الفعال لها، ضعفا مزمنا. وزاد الطين بله أن السلطة الوليدة وأدت أمها م ت ف، وعمها منذ البدايات إشكاليات تنموية وسوء إدارة وفساد. وانعكس ذلك على الحالة الجماهيرية، فصارت الجماهير، كما في كل الأقطار العربية، غارقة في هم العجز والفساد والتنمية التابعة.

التحولات السابقة وبالذات التحول في طبيعية الأنظمة العربية التي نمت فيها بشكل رئيسي البرجوازيات التابعة، وتبني هذه الأنظمة لسياسات تنموية مرتكزة على "وصايا" البنك الدولي وتفاهمات واشنطن القائمة على دعم اقتصاد السوق وتشجيع القطاع الخاص والانفتاح على التجارة الدولية، وسيادة الأنماط الثقافية الغربية وتشجيعها، مع ما رافق ذلك من تراكم في مديونية الأقطار العربية غير المنتجة للنفط، وتنامي التعليم، وضرب القطاعات الإنتاجية الوطنية، وتنامي نسبة البطالة، وترسخ الدكتاتوريات، وتعاظم الفساد بالتزاوج غير الشرعي بين الرأسمال التابع والسلطة، كل ذلك مهد لما نشاهده من ثورات. ساعد على ذلك التحولات السلبية التي عمقت من أزمة الأنظمة في الأقطار العربية، والأثر الايجابي المهم لهذه التحولات، وهو زيادة أعداد شرائح الطبقة الوسطى وتجذر القوى الشعبية وتبلورها بشكل أوضح، في ظل واقع أصبح التواصل فيه بين الأفراد والكتل الاجتماعية والسياسية سهلا.

لقد حدث التغيير بسلاسة نسبيا في مصر وتونس، وهو مستمر بصعوبة في اليمن وليبيا وسوريا، والعديد من الأقطار العربية مرشحة لهذا التغيير، فهل يحدث تحولات وتغيير في الواقع الفلسطيني؟
التغيير في مصر إن ظل يجري بوتيرته الحالية من شأنه أن يؤثر على كل الأقطار العربية وخاصة على الواقع الفلسطيني. فمصر بموقعها وقدراتها البشرية والمادية قادرة على خلق تأثير فعال في الواقع العربي. الدعوات اليوم إلى إقامة مجتمع ديموقراطي وإلى عدالة اجتماعية واجتثاث الفساد من شأنه أن يمكن الجماهير العربية من قرارها وقدراتها، ومن شأن ذلك أن يتسرب إلى قيم وثقافة كل الجماهير العربية. لقد تم إزالة الأنظمة الفاسدة والتابعة، وسيتوقف التأثير الإيجابي على مدى ما سيتحقق من بناء فعال في الأقطار العربية، وإذا أصبح التغيير شاملا، وسادت أنظمة ديموقراطية ليس مستبعدا أن تندفع الأقطار العربية نحو تنسيق أنجع، وصولا إلى أشكال من الوحدة. عندها ستصبح الأقطار العربية قادرة وستحقق أهداف الشعوب العربية في التحرر والتنمية والعدالة الاجتماعية.
على ضوء التحولات الملموسة حتى اللحظة سنشاهد في الواقع الفلسطيني تغييرا أوضح نحو الديموقراطية والتنمية الوطنية المستقلة وتصلبا في مواجهة الاحتلال، وإعادة بناء م ت ف وقدراتها ومؤسساتها بدعم من الأقطار العربية. وهذا يبشر بمستقبل فلسطيني وعربي مشرق.
-------------
* احمد أبو غوش: باحث وكاتب فلسطيني، له مؤلفات عديدة منها: السلطة الفلسطينية والتنمية المستحيلة (قيد النشر)، ملاحظات حول التطور العربي والمسألة القومية، وغيرها.