فلسطين (الدولة) في برنامج منظمة التحرير الفلسطينية

بقلم: عبد الفتاح القلقيلي (أبو نائل)*

شكّل القرن التاسع عشر قرن "الدولة الأمة"، حيث اتجهت احداث التاريخ ومسيرته لتجميع الأمة المنتشرة في عدة دول في دولة واحدة، وانقسام الامبراطوريات متعددة القوميات الى دول قومية... وتوحّد بذلك مصطلح "nation" ليعني الوطن والأمة معا. ففي بداية العقد الثاني من القرن العشرين، حاول العرب، رغم أن الأغلبية منهم مسلمون، الانفصال عن الامبراطورية العثمانية التركية المسلمة لتشكيل دولة عربيةالدولة الأمة، وتحالفوا من اجل ذلك مع الغرب المسيحي. لكن الحرب العالمية الاولى، رغم ذلك التحالف، لم تنتج الا تقسيم الوطن العربي إلى عدة دول.

ومعروف أن ذلك التقسيم لم يأخذ في الحسبان لا العوامل الاقتصادية ولا الجغرافية ولا التاريخية لتلك المناطق. كل ما أخذه "المبضع" الغربي في التقسيم كان تقاسم النفوذ بين الدول الغربية المنتصرة في تلك الحرب وخاصة بريطانيا وفرنسا، الدولتين الاعظم آنذاك. وقسمت اتفاقيتا سايكس-بيكو (1916) وسان ريمو (1920) المنطقة العربية الى دول بعضها مستقل وبعضها تحت الانتداب.

لم يقبل الوعي العربي هذه الاقسام دولاً، فَنحتَ لها الفكرُ السياسي العربي مصطلحا سياسيا جديدا غير مسبوق في الادبيات السياسية وهو "قطر"، فصارت المنطقة العربية اقطارا: سوريا، الاردن، لبنان، العراق.
وتميزت فلسطين عن الاقطار العربية الاخرى بأن نُحت لها مصطلح غير "الدولة" و"القطر"، لقد نُحت لها مصطلح "الكيان". والكيان ليس من شخوص القانون الدولي مثل الدولة والقطر؛ فهذا المفهوم غريب عن الحياة السياسية العامة، ولا سابق له في تاريخ الامم والشعوب (بما فيها العربية) التي كافحت لتحقيق استقلالها. لقد اطلقته الادبيات السياسية العربية على اسرائيل منذ قيامها وحتى مؤتمر مدريد (1991)، وذلك تعبيرا عن رفض الاعتراف بها كدولة. واطلقته على فلسطين كتعبير عن انه خطوة نحو الدولة على كل الارض الفلسطينية، فلا هو دولة منفصلة عن الاردن ولا دولة الى جانب اسرائيل. ولذلك اشار بعض الباحثين الفلسطينيين الى انه (اي الكيان) كان شعارا مبهما في اواخر خمسينيات القرن العشرين، وتحول الى تعبير سياسي اكثر وضوحا في الستينيات، وانتهى في السبعينيات موازيا لمفهوم الاستقلال الوطنياي الدولة. وكانت منظمة التحرير الفلسطينية هي الكيان المؤقت، والجهة الشرعية التي تسعى لاقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.
كانت الدولة الفلسطينية المبتغاة في اواخر الستينات دولة ديموقراطية علمانية تقوم على انقاض اسرائيل عسكريا وسياسيا وثقافيا، يعيش فيها اصحاب الاديان الثلاثة من الفلسطينيين دون تمييز. ثم في عام 1974 وفي مجلسها الوطني الثاني عشر، طرحت المنظمة في برنامجها ما سمي في حينه "برنامج السلطة الوطنية" او النقاط العشرة الداعي الى إقامة سلطة وطنية فلسطينية على اي ارض فلسطينية يتم تحريرها او ينسحب منها الاحتلال الاسرائيلي، كطوطئة لاقامة الدولة الفلسطينية الديموقراطية العلمانية على كامل التراب الفلسطيني (طبعا على انقاض اسرائيل).
وفي 15/11/1988 في المجلس الوطني الثامن عشر صدر "اعلان الاستقلال" وصارت الدولة الفلسطينية المقترحة دولة فلسطينية مستقلة لا على انقاض اسرائيل بل الى جانبها وتعيش معها بسلام (وربما بتعاون او تحالف)، طبعا دون تحديد حدودها: هل هي الحدود التي رسمها قرار التقسيم رقم 181 عام 1947، ام حدود 4 حزيران من عام 1967 أي الأراضي الفلسطينية المحتلة في الخامس من حزيران لذلك العام؟ وصار ياسر عرفات يلقب بكل ادبيات منظمة التحرير بـ"رئيس دولة فلسطين" اضافة للقبه رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية. وعندما دخلت منظمة التحرير في لعبة مؤتمر مدريد عام 1991، دخلت في البداية من خلال الوفد الاردني الفلسطيني المشترك ليوحي دخولها انها لا تصرّ على الدولة المستقلة، إنما قد ترضى بالكونفدرالية مع الاردن ذلك المشروع الذي تدعمه امريكا عبر كل اداراتها من ريغن الى اوباما.
وأخيرا بعد اتفاقية اوسلو عام 1993 امتزجت منظمة التحرير الفلسطينية بالحكم الذاتي الحالي في الضفة الغربية وقطاع غزة كخطوة اولى باتجاه اقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على الاراضي التي احتلت عام 1967 الى جانب دولة إسرائيل.
منذ الحرب العالمية الاولى دخلت المنطقة العربية في ما اصطلح عليه مرحلة "التحرر الوطني" حيث يخفّ الحديث عن الدولة بمفهومها الفلسفي والنظري، ويزداد الحديث عن مواصفاتها ودورها في تحديد الهوية وحمايتها. ولا بد ان تكون دولة ذات نهج وطني ومعادية للاستعمار، ولا تساوم على السيادة. وعندما تتّصف الدولة بهذه الصفات يتجاوز لها المفكرون والمنظرون العرب "الطابع الاستبدادي الشمولي لسلطتها، وخرقها للأعراف والقوانين ومصادرتها لحقوق الانسان... وحرية الرأي... وتشكيل الاحزاب، وقمعها الفظ للمعارضة". وظل الامر كذلك حتى نهاية العقد الاول من القرن الحالي حيث هب الشباب العربي مطالبين بمواصفات ديموقراطية للدولة متجاوزين الهرطقات العربية الرسمية بادعاء الممانعة او الايمان.
اما الفلسطينيون فموقفهم من الدولة مختلف ليس لأن نخبهم السياسية وشبابهم يختلفون عن مثيلاتهم في الوطن العربي، بل لأنهم لم يجربوا بعد دولتهم المستقلة، فصارت الدولة عندهم غاية وليست وسيلة، كما يقول علماء السياسة.
كانت منظمة التحرير الفلسطينية قد جاءت كمحصلة توافق، دون حوار مباشر، بين افكار وطموحات الفلسطينيين من جهة وأفكار ومصالح الدول العربية الرسمية من جهة اخرى. كان الوعي الفلسطيني قد تبلور باتجاه الكيانية القطرية مما جعل الكيان مطمحا ممكن التحقيق. وكانت الدول العربية قد استقر رأي معظمها على امرين: صعوبة مواجهة اسرائيل والانتصار عليها، وصعوبة اجراء تسوية معها. فكانت منظمة التحرير الفلسطينية هي الحل.

كان على هذه المؤسسة الجديدة (م.ت.ف.) ان تكسب تأييد الهيئة العربية العليا في المجال الشعبي الفلسطيني، والحكومة الاردنية في المجال الرسمي العربي، على اعتبار انهما الجهتان اللتان تهدد هذه المؤسسة شرعيتهما. فالهيئة العربية العليا هي الهيئة التي تدعي انها الممثل الشعبي الرسمي للفلسطينيين في كل اماكن تواجدهم. والحكومة الاردنية هي التي خولها مؤتمر اريحا تمثيل الفلسطينيين، وتزعم ان كل فلسطين جزء منها، وتضم فعليا الضفة الغربية وأكبر تجمع فلسطيني.
استطاعت المنظمة في البداية ان تكسب الاردن لدرجة ان الملك حسين لم يسمح لها بعقد مؤتمرها (المجلس الوطني) الاول في القدس فقط، بل قام جلالته بافتتاحه والقاء كلمة فيه. وكان رضى الاردن عن المنظمة ينحصر بثلاثة امور: الاول ان هذه المنظمة ستكون منافسة للهيئة العربية العليا المعادية والمنافسة للاردن، والثاني ان النظام الاردني هو من اختار ممثليه في هذا المؤتمر، والثالث تاكيد احمد الشقيري على ان الضفة الغربية اراض اردنية ولا تفكر المنظمة باي ولاية او وصاية على هذه الارض او على سكانها، كما انها لا تفكر ابدا بسلخ قطاع غزة عن مصر، ولا منطقة الحمة عن سوريا، إذ ينحصر برنامجها بتحرير الاراضي المحتلة.
اما فيما يخص الهيئة العربية العليا، فقد كان من الطبيعي ان تفشل منظمة التحرير بكسب ودها. فعلى اثر انتهاء اعمال المؤتمر الوطني الفلسطيني الاول في القدس واذاعة قراراته، اعتبرته الهيئة "مؤامرة صهيونية استعمارية تهدف الى تصفية القضية الفلسطينية... وهو اجتماع غير مشروع وباطل من اساسه، ولا يمثل الشعب الفلسطيني واهدافه بأي حال". وناشد بيان الهيئة الامة العربية ودولها للحيلولة دون فرض هذا "الكيان المصطنع" على الشعب العربي الفلسطيني. ووجه الحاج امين الحسيني رئيس الهيئة العربية العليا نداءً لمؤتمر القمة العربي الثاني الذي سيشارك فيه أحمد الشقيري لا كممثل لفلسطين، بل كرئيس للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية التي انتخبها المجلس الوطني الفلسطيني الاول. وطالب الحسيني مؤتمر القمة بعدم الاعتراف بمنظمة التحرير بسبب اسلوب قيامها، ولأن الاعتراف بها "يعتبر انتهاكا لحقوق الشعب الفلسطيني، وازدراءً لمطالبه ورغباته، وتسهيلا لمهمة تزييف ارادته، وتمهيد السبيل لتصفية قضيته" .
وعلى كل، يمكن تقسيم مراحل وعي منظمة التحرير لمفهوم الكيان الى اربع فترات، وذلك حسب الفواعل التي اثرت في ذلك الوعي او غيرت اتجاهه.
المرحلة الأولى، (مرحلة الميثاق القومي الفلسطيني) وهي منذ تأسيسها وحتى حرب حزيران 1967 حيث استولت اسرائيل على ما كان قد تبقى من ارض فلسطين (الضفة الغربية وقطاع غزة). والمرحلة الثانية، مرحلة الميثاق الوطني الفلسطيني، وهي من حرب حزيران 1967 حتى حرب اكتوبر 1973، حيث عَبَر جيشا سوريا ومصر خطوط "النكسة"، و مجرد "العبور" اعاد للعرب شيئا من الكرامة، واصبح بالامكان التعامل مع اسرائيل متجاوزين اللاءات الثلاث (لا مفاوضات ولا صلح ولا اعتراف مع اسرائيل) التي اطلقها مؤتمر القمة العربي الرابع في الخرطوم (29/8/1967 — 1/9/1967). والمرحلة الثالثة، ( مرحلة تجاهل الميثاق الوطني)، وهي من حرب اكتوبر 1973 وحتى مؤتمر مدريد ثم اتفاقية اوسلو 1993 حيث تواجهت دول الطوق (لبنان وسوريا والاردن) ومنهم الفلسطينيون مع اسرائيل على مقاعد المفاوضات وليس في ميادين القتال.
والمرحلة الرابعة، (مرحلة الغاء الميثاق الوطنيهي من اتفاقية اوسلو حتى الآن، حيث التقت اسرائيل مع منظمة التحرير الفلسطينية مباشرة حول طاولة المفاوضات وليس في ميادين القتال، وقد تبادلا الاعتراف وصار لمنظمة التحرير الفلسطينية حكما ذاتيا في غزة والضفة الغربية رغم بقاء الجنود الاسرائيليين على ابواب مكاتبها هناك.
وقد كان لمنظمة التحرير الفلسطينية وعي خاص لكل مرحلة فيما يخص القضايا السياسية وعلى رأسها مسألة الهوية والكيان. ففي مرحلة الميثاق القومي الفلسطيني كانت منظمة التحرير ترى ان الضفة الغربية جزء من الاردن. ورغم ان منظمة التحرير في تلك الفترة كانت المؤسسة الكيانية الفلسطينية التي تحظى بدعم شعبي واعتراف رسمي واسعين، إلا انه لم يصدر عنها ما يوحي بوضوح مفهوم الكيان الفلسطيني. ولعل من اسباب ضبابية مفهوم الكيان عند المنظمة آنذاك هي التنازلات الكيانية (في الضفة وغزة والحمة) لتجعل نفسها مقبولة لدى الانظمة العربية المعنية وخاصة الاردن. وفي المرحلة الثانية لم تصبح الضفة الغربية جزءا من الوطن الفلسطيني فقط؛ بل نظرت المنظمة للاردنيين من اصل فلسطيني بانهم جزء من شعبها الذين يشكلون الدولة الفلسطينية مثلهم مثل اللاجئين الفلسطينيين في الدول العربية الاخرى، ومثل الفلسطينيين الباقين في اسرائيل. وفي الثالثة حيث تجاهلت الميثاق الوطني الفلسطيني كمرجعية واعتمدت قرارات المجالس الوطنية الفلسطينية، بقي الاردنيون من اصل فلسطين جزءا من الشعب الفلسطيني، اما فلسطينيو الداخل (اسرائيل) فيجب ان يحافظ عليهم كمواطنين اسرائيليين ليكونوا عونا للمنظمة لانجاز دولة فلسطينية على ما احتل من أرض عام 1967. وفي الرابعة وهي مرحلة الغاء الميثاق الوطني الفلسطيني وتجاهل قرارات المجالس الوطنية السابقة كمرجعية، واعتماد قرارات "القيادة الفلسطينية" (وهذه هيئة غير رسمية، تتكون من اللجنة التنفيذية ورئاسة المجلس الوطني، والحكومة الفلسطينية ورئاسة المجلس التشريعي، والامناء العامين لكافة فصائل منظمة التحرير، وما تيسر من اعضاء اللجنة المركزية لحركة فتح). في هذه المرحلة لم تعد فلسطين هي كل الاراضي التي احتلت عام 1967، بل لا بد من تبادل الاراضي بما يحل مشكلة التجمعات السكانية اليهودية على هذه الارض، كما جرى استثناء فلسطينيي الاردن من قائمة الشعب الفلسطيني فوق ارض الكيان الفلسطيني.
وما زالت منظمة التحرير في هذه المرحلة، ولم تتغير سياستها او خطابها السياسي رغم تغيّر نبرة هذا الخطاب دون ان يمس هذا التغير روح الخطاب او اساسه.
اما ضجيج استحقاق ايلول فلن يكون اكثر من تشريع مسألة تبادل الاراضي على اساسين اثنين: الاول ان فلسطين هي فقط ما أحتل منها عام 1967، اما ما احتل سابقا فلم يعد فلسطين. والثاني ان التجمعات السكانية اليهودية المهمة على ارض فلسطين (حسب التعريف الجديد لفلسطين) هي واقع موضوعي لا بد من اخذه بعين الاعتبار (كما قال اوباما في رؤياه الاخيرة).
كانت منظمة التحرير الفلسطينية وما زالت منذ اوسلو تشير لنا الى الآفاق. والافق هو منطقة يُخيّل للرائي انها حيث تلتقي السماء بالارض، وكلما وصلها يجد ان هذا اللقاء كان وهما، وكلما وصله يتجدد الوهم في منطقة أخرى... وهكذا.
------
*عبد الفتاح القلقيلي (ابو نائل): كاتب وباحث فلسطيني، الأمين العام للمجلس الأعلى للتربية والثقافة والعلوم في م ت ف.