فلسطين (الدولة) في عصبة الأمم، وقرارات الأمم المتحدة قبل نشأة م.ت.ف(عرض تاريخي تحليلي)

بقلم: تيسير محيسن*

وفقاً للرئيس عباس، قد يضفي استحقاق أيلول/سبتمبر (انتزاع اعتراف دولي بحدود الدولة الفلسطينية، وقبول عضويتها في الأمم المتحدة) قيمة كبيرة للنضال الفلسطيني، تتمثل في تدويل النّزاع، وتغليب البعد القانوني على البعد السياسي، ومتابعة الإدعاء ضد إسرائيل لدى مؤسسات الأمم المتحدة، والتفاوض بين دولتين وليس مع شعب مهزوم.

في ظل فشل مشاريع التسوية، وعدم وضوح الخيارات والبدائل، يكون من المفيد مراجعة قرارات الهيئة الدولية تجاه القضية الفلسطينية، وتجاه مسألة الدولة على وجه الخصوص.

وعليه، تقدم هذه المقالة قراءة سريعة في أبرز وثيقتين صادرتين عن عصبة الأمم ومن ثم هيئة الأمم المتحدة. الوثيقة الأولى، وهي صك الانتداب 6 تموز/ يوليو 1921، والثانية، فهي نص قرار التقسيم 181 الصادر بتاريخ 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 1947.

شهدت فلسطين، في الفترة بين مطلع القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين، تطورات سياسية وإدارية واقتصادية واجتماعية، متداخلة ومتسارعة، بتأثير عوامل شتى، أعمق تأثيراً، مما شهدته طيلة القرون الثلاثة السابقة من الحكم العثماني. تشكل هذه التطورات مرتكزات أساسية لفهم الأحداث اللاحقة في فلسطين بما لها من خصوصية ومكانة متميزة.

هذا التطور الكبير في التشكيلة الاجتماعية الفلسطينية، كان يوازيه تطور آخر يشكل نقيضا له ألا وهو تأسيس الحركة الصهيونية رسمياً في عام 1897، وتبنيها هدف إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، والذي لقي دعما أوروبيا سرعان ما بدأ العمل المنظم على تنفيذه. فقد أصدر وزير خارجية بريطانيا آرثر جيمس بلفور تصريحه المعروف في 2 تشرين الثاني/نوفمبر 1917 الذي أيدت فيه بريطانيا إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.

يرى يزيد الصايغ، أن القضية الفلسطينية تأثرت بالتطورات البنيوية على المستويات المحلية والإقليمية والدولية. فزوال الإمبراطورية العثمانية وبسط السيطرة الانتدابية أديا إلى فتح الأبواب أمام الهجرة اليهودية وغلقها، من جهة أخرى، أمام إقامة الدولة العربية وإمكانية تقرير المصير أسوة بالأقطار العربية المجاورة. هذا وساهمت العوامل النسقية، ما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، في قيام إسرائيل، بينما حالت دون قيام كيانية فلسطينية.

وهكذا، رأت إسرائيل النور كدولة بفضل ثلاثة عوامل: (1) إرساء بنى الدولة في ظل سيطرة الانتداب البريطاني، بالتعاون معه وبرعايته، (2) استخدام القوة والعنف (3) تواطؤ العامل الدولي وانحيازه. في المقابل، بضعف عامل الدينامية الداخلية للمجتمع الفلسطيني، كعامل رابع، يمكن تفسير عدم قيام دولة فلسطينية. فالمجتمع الفلسطيني لم يصل إلى الدرجة نفسها التي وصل إليها مجتمع اليشوف، ولم يفرز بنية دولة، ولا مؤسسات تمثيلية، ولم يفلح في امتلاك قدرات عسكرية كافية. وبالرغم من أن المجتمع الفلسطيني لم يكن أقل تقدماً من مجتمعات الدول المجاورة، لكن ما كان ينقص الفلسطينيين هو القدرة على الحشد الاجتماعي والسياسي الكافيين للتغلب على التحديات.

صك الانتداب:

صادق مجلس عصبة الأمم على صك الانتداب في 24 تموز/ يوليو 1922، ووضع موضع التنفيذ في 29 أيلول/ سبتمبر 1923. تألف الصك من مقدمه و28 مادة. اختصت المواد 22،11،7،6،4،2 بإنشاء الوطن القومي اليهودي، أما المواد 17،21،3،1 فقد تناولت المصالح البريطانية وأعطت دولة الانتداب السلطة التامة في التشريع والإدارة.

امتنع صك الانتداب عن الإشارة صراحة إلى الفلسطينيين كشعب أو ذكر حقوقهم في تقرير المصير، بينما اشتمل على النص الكامل لوعد بلفور، وأكد التزام سلطة الانتداب رعاية مشروع إقامة وطن قومي لليهود ودعمه.

كان لصك الانتداب الأثر الكبير على الفلسطينيين؛ إذ أثر بشكل واضح على صيرورتهم الاجتماعية والسياسية والإدارية. فقد عانى الفلسطينيون في عهد الانتداب من التمييز على الصعيد الدستوري، وهو التمييز الذي حاول البريطانيون التستر عليه من خلال تصوير أنفسهم "وسطاء عادلين" بين جماعتين محليتين متساويتين نسبياً. وفي هذا السياق، يصف الخالدي الإطار الدستوري والقانوني المعقد والفريد الذي أدارت بريطانيا من خلاله احتلالها فلسطين بـ"القفص الحديديالذي شكل عائقا كبيرا لم ينجح الفلسطينيون من الإفلات منه وتجاوزه، والذي وقف حائلا أمام تحقيق طموحاتهم. كما لم تتعامل بريطانيا مع عرب فلسطين بصفتهم شعباً قائماً بذاته، وإنما حرمتهم من أي مدخل للمشاركة في حكومة الانتداب، وحالت دون تمكينهم من إقامة بنية شبيهة بالدولة، ومعترف بها دولياً.
علاوة على ذلك، لم يعترف البريطانيون بأية صفة تمثيلية للأطر الوطنية التي شكلها الفلسطينيون، ما لم تقبل هذه الأطر، وكشرط مسبق، بالسياسة البريطانية. وحتى عندما اقترحت حكومة الانتداب إقامة مجلس تشريعي، أو وكالة عربية، رهنت قيامهما بقبول العرب هذا الشرط المسبق.

ترتب على ذلك، أن وجد الفلسطينيون أنفسهم، خلافاً لما كان عليه الأمر في البلدان العربية المجاورة، بدون برلمان أو هيئة تمثيلية منتخبة، أو مجلس وزراء، وكان المندوب السامي هو المصدر الوحيد للسلطة. ويلحظ الخالدي مفارقة تمثلت في دور المؤسسات الإسلامية التي أنشأها البريطانيون، مثل المجلس الإسلامي الأعلى، ومنصب مفتي فلسطين الأكبر. فقد تمتعت هذه المؤسسات بدرجة معينة من الاستقلالية وبقدر لا بأس به من الإيرادات، غير أنها انسجمت، إلى حد كبير، مع الرؤية البريطانية لفلسطين بصفتها بلداً مكوناً من ثلاث طوائف دينية، واحدة منها فقط تتمتع بحقوق وطنية.

لم يتجاهل صك الانتداب واقع فلسطين التاريخي والقومي فحسب، وإنما تجاهل الأكثرية العربية الساحقة (90% من مجموع السكان). كما شكل الصك مخالفة لميثاق عصبة الأمم بحسب ما جاء في المادة (22) الذي جعل لرغبة السكان الأصليين المقام الأول في اختيار الدول المنتدبة، فالعرب، وهم السكان الأصليون والأغلبية الساحقة، لم يختاروا بريطانيا، بل إن المنظمة الصهيونية العالمية هي التي اختارتها.

قرار التقسيم:

اشتمل القرار، الصادر بتاريخ 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 1947، على مجموعة من المبادئ والآليات تحكم المرحلة الانتقالية بين إنهاء الانتداب البريطاني، وتثبيت الوضع النهائي عبر إنشاء دولتين، واحدة عربية على مساحة 43% تقريبا، وأخرى يهودية 56% تقريبا، مع وضع وصاية دولية على القدس. أما الآلية المقترحة فهي لجنة دولية تشرف على إنشاء مجلسي حكومة مؤقتين، وإنشاء أجهزة حكومية إدارية مركزية ومحلية، تجنيد ميليشيا مسلحة في كلا الدولتين، إجراء انتخابات الجمعية التأسيسية، ووضع مسودة دستور ديمقراطي، واختيار حكومة مؤقتة، وإنشاء مجلس اقتصادي مشترك.

من المبادئ التي تضمنها القرار، الانتخاب بالتصويت العام وبالاقتراع السري، التمثيل النسبي، تسوية الخلافات بالوسائل السلمية، الامتناع عن التهديد بالقوة أو استعمالها، ضمان الحقوق المتساوية في الشؤون الدينية والمدنية والاقتصادية، والتمتع بحقوق الإنسان وبالحريات الأساسية، المحافظة على حرية المرور والزيارة لجميع سكان ومواطني الدولة الأخرى في فلسطين ومدينة القدس، عدم المس بالحقوق القائمة المتعلقة بالأماكن المقدسة والأبنية والمواقع الدينية، عدم التمييز بين السكان بأي شكل من الأشكال، الحق في حماية القانون، احترام القانون العائلي، والأحوال الشخصية لمختلف الأقليات، وكذلك مصالحها الدينية ونظمها التربوية والتعليمية، عدم جواز نزع ملكية أي أرض إلا للمنفعة العامة. كما حدد القرار أهداف الاتحاد الاقتصادي الفلسطيني في ضمان الوحدة الجمركية والنظام النقدي، وإدارة الطرق والسكك الحديدية، ومرافق الاتصال، والإنماء الاقتصادي المشترك، وتمكين الدولتين من الوصول إلى المياه ومصادر الطاقة دون تمييز.

إذا كان قرار التقسيم في ظاهره ينطوي على مخطط عملي لقيام دولة مدنية، واحدة عربية وأخرى يهودية، مع مراعاة المساواة بين الطرفين في الحقوق والالتزامات، غير أنه من حيث الجوهر هو محاولة لإضفاء المشروعية الدولية على واقع جديد في فلسطين، يقوم على تقسيمها وإعطاء اليهود حق إقامة كيان قومي لهم على أكثر من نصف مساحتها، وذلك على حساب سكانها الأصليين وحقوقهم الفردية والجماعية. واستخدم القرار كلمة فلسطين للإشارة إلى الإقليم الجغرافي وليس إلى الكيان السياسي، كما استخدم تعبير فلسطيني للإشارة للجنسية وليس إلى الانتماء الوطني أو "الهوية الوطنية"، هذا ووردت مصطلحات عربي ويهودي بمعناها القومي (nation)، وليس بمضامينها الدينية أو العرقية.

يرى عبد الله حوراني، أن قرار التقسيم، وحده من بين قرارات الشرعية الدولية الذي ينص على حق عرب فلسطين في تقرير مصيرهم، وإقامة دولتهم المستقلة، مساوياً بينهم وبين إسرائيل في حق الدولة، وعليه كان من شأن قيام الدولة الفلسطينية ضمن حدود