منظمة التحرير الفلسطينية: من الفعل إلى التلقي

بقلم: د. روبير عبد الله*

لم تحظَ قضية في النصف الثاني من القرن العشرين بمثل ما حظيت به القضية الفلسطينية من اهتمام على امتداد العالم العربي، حتى بات توصيفها بـ"قضية الأمة العربية المركزية"، لازمة يلهج بها الخطباء والمتحاورون. وغالباً ما دار النقاش التالي: "إذا كانت فلسطين قضية الأمة العربية المركزية، فهل تحرير الأمة من الاستبداد والتبعية يؤدي إلى تحرير فلسطين، أم إن تحرير فلسطين يحرر الأمة". انصرم القرن العشرون ولم تتحرر فلسطين، ولا الأمة العربية على حد سواء. ثم انتهى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين ليندلع بعده حراك جماهيري عربي، لم يرِد في خلاله ذكر للقضية الفلسطينية إلا لدى السؤال عن موقعها من ذلك الحراك، وذلك على لسان الكُتّاب والمحللين ليس إلا.

وإذ استمرت منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني قبل حلول "حركة حماس" في موقع المنافس الجدي للفصائل المنضوية تحت لواء المنظمة، في التصدي للعدو الإسرائيلي أولاً، وفي موقع تقاسم النفوذ ثانياً، عبر توزيع السلطة بينهما في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة من جهة، وفي مخيمات الشتات ومواقع اللجوء من جهة أخرى. ونظراً لأن مسيرة المفاوضات مع إسرائيل لم تحقق سوى إسقاط "مفهوم العدو" من أدبيات الثورة الفلسطينية، مقابل استمرار هذا الأخير بتوسعه الاستيطاني وبقضم سائر الحقوق الفلسطينية. وإزاء الحراك العربي الذي لم تبدُ أعلام فلسطين خفّاقة في ميادينه، ولا بدت شعارات تحرير القدس ضمن جدول أدبياته، وحتى الاتفاقيات المنفردة المعقودة مع العدو الإسرائيلي لم تظهر موضع شبهة ومحط نقاش، إزاء ذلك كله، جملة أسئلة معروضة على جدول التفكر بمسار الحراك الجماهيري العربي.

أول هذه الأسئلة، بل أهمها، يدور حول موقع القضية الفلسطينية في الحراك العربي، وبالتالي مدى نضج هذا الحراك، وتبلور أهدافه بما يتطابق مع التطلعات التاريخية للأمة، وفي قلبها التطلع لتحرير فلسطين. وإذ اختارت منظمة التحرير الفلسطينية طريق مفاوضات، أسفرت عن تكوين سلطة، لم تفلح سوى في القيام بمهام ضبط الحراك الوطني الفلسطيني للوفاء بشروط الشريك على طاولة التفاوض، فكيف الحال بالحراك العربي، حيث نأت المنظمة بنفسها عن "التدخل في شؤون البلدان العربية الداخلية"، ليقتصر حضورها على بعثاتها التمثيلية، وخصوصاً سفارات السلطة الوطنية الفلسطينية. وبذلك تكون منظمة التحرير قد أبعدت نفسها من ناحية، وكانت من المساهمين، إن لم نقل المساهم الأول، من ناحية أخرى، في سحب القضية الفلسطينية من التداول في أوساط الشباب العربي، حتى إذا ما اندلع الحراك العربي كان الشأن الفلسطيني خارج دائرة الاهتمام.

ثمة سؤالان يفرضان نفسيهما لدى تناول تراجع موقع منظمة التحرير الفلسطينية إزاء الحراك الجماهيري العربي، وإزاء أزمات المنطقة وتعقيداتها. كيف، ولماذا؟

كيف تبلور تراجع دور منظمة التحرير الفلسطينية في المنطقة؟، وهذا ما يجيب عنه الرصد السريع لمجريات الأحداث الأخيرة في العالم العربي، من تونس إلى مصر فليبيا واليمن والبحرين، وانتهاءً بسوريا.

أما لماذا تحجّم دور المنظمة؟، فالجواب يكمن في رصد منحنى تطورها، منذ انطلاقتها تحت عباءة جامعة الدول العربية، صعوداً لتصبح رمز النضال الوطني والتحرري الفلسطيني والعربي ورائدته، لتعود بعد جولات المفاوضات غير المحسوبة والتي أعلنت فشلها، إلى الصراع على السلطة مع "حركة حماس".

منذ اندلاع الحراك الشعبي في تونس، وانتقال عدواه إلى مصر، أغرقت وسائل الإعلام الرأي العام بتحليلات "دونكيشوتية" حول نمط من الحراك الشعبي منفلت من أي توجيه، ومن أي إطار تنظيمي. وإذ نجحت تلك الوسائل في تحقيق مرادها، فقد تبدى نجاحها في إغفال أمرين، أولهما: تمتع القوى الإسلامية بمؤسسة تنظيمية من الطراز الأول، تتمثل بالمسجد الذي جعل من أيام الجمعة أهم محطات الحراك الشعبي. حيث أصبح المسجد الرافد الأهم لجماهير الميادين والساحات، خصوصاً بعد انحسار دور النقابات العمالية كأداة للتعبير عن مصالح القوى العاملة المستغلة والمهمشة.

أما ثانيهما فهي: الأداة التنظيمية الأخطر والأهم، فقد كانت وسائل الإعلام التي جعلت من وسائل الاتصال الجماهيرية (خليوي، فايسبوك..الخ) عناصر مساعدة يدور بعضها في فلك التوجيه الإعلامي الغربي والخليجي. ولعل خير مثال على التناغم بين المؤسسة الدينية وتقنيات الاتصال الحديثة وتحكم الغرب ومعه الخليج العربي به، الدور الذي أوكل إلى أحمد غنيم بغفلة عنه في تحريك الرأي العام المصري، وجعله مقتنعاً أن نشاط غنيم إبداع مصري في الاستثمار الثوري لتقنيات الاتصال الحديثة، مقابل إقصائه فور سقوط حسني مبارك، وبدلاً من أن يحتفل غنيم ورفاقه من جيل الشباب (صناع الثورة)، فإذا بالقرضاوي ينصّب نفسه خطيب الثورة المصرية في ميدان التحرير.

بسقوط حسني مبارك، فقدت م ت ف حليفاً استراتيجياً، ظل لعقود يفاوض "حركة حماس" لصالح المنظمة، انطلاقاً من إمساكه ببوابة غزة. فجاءت المصالحة بين "فتح" و"حماس" تتويجاً لتراجع النظام الرسمي العربي الذي أصبحت منظمة التحرير من ضمنه، فنالها من دون أن تسقط نهائياً ما نال الأنظمة العربية، من خلال تكريس سلطة "حماس" في غزة وتشريعها، وخصوصاً بعد زيارة خالد مشعل لقطر وفك ارتباطه الفجائي بالنظام السوري، باعتبار أن "حماس" جزءاً من الحراك العربي بعنوانه الإسلامي المهيمن، على الرغم من كون الإسلامي بصيغته التي بدت في تونس وفي مصر لم يمس بما تعهدت به الأنظمة المتصالحة مع إسرائيل.

لم يكن مفاجئاً تراجع دور منظمة التحرير في العالم العربي، بل جاء بعد سلسلة تراجعات توجها اعتبار منظمة التحرير أن خيار السلام مع العدو الإسرائيلي خياراً استراتيجياً. بالتالي، تم إسقاط الخيارات الأخرى مع انتهاج هذا المسلك، فسحبت ورقة التوت التي كان يتلطى خلفها حكام العرب، وقامت جامعة الدول العربية بدورها بتقديم مبادرة بيروت للسلام، علماً أن إسرائيل لم تكن قد تقدمت بأي تنازل للعرب والفلسطينيين حتى تلك اللحظة على السواء، ومن غير البادي أنها ستفعل.

وإذا كان النظام الرسمي العربي؛ مسؤولاً عن هزائم العرب والفلسطينيين أمام إسرائيل، إلا أن منظمة التحرير الفلسطينية، وإن كانت قد ولدت بقرار من الجامعة العربية نفسها، فإنها استطاعت على مدى عقود من الزمن، أن توازن بين استقلال القرار الوطني الفلسطيني وارتباطها بالقوى السياسية العربية أنظمة وأحزاباً وشعوباً.

إن قيام المنظمة بتوزيع الأولويات بين متطلبات الثورة، وشروط المناورة بين الأنظمة العربية المتنافسة، وفّر لها مساحة من الحضور والتأثير في الأوضاع السياسية المتعلقة بالشعب الفلسطيني في مخيمات اللجوء، كذلك الحال في أوضاع الشعوب العربية. لكن انسحاب الثقل الفلسطيني نحو الداخل جعل كوادر المنظمة أسيرة الشروط الإسرائيلية، ما أفقدها عنصر المناورة، الأمر الذي أدى لاحقاً إما إلى سجن القيادات المناضلة أو إلى تصفيتها جسدياً. وعند هذا الحد، لم يبقَ في ساحة الفعل والتأثير سوى من يخضع للإملاءات الإسرائيلية، فسيطر الفساد والهدر والمحسوبية في أوساط القيادات الفلسطينية، ومارست السلطة الفلسطينية أوسع عملية هروب إلى الأمام من خلال إعلان الدولة الفلسطينية السيدة المستقلة، والدخول في متاهات إعلانات هيئة الأمم المتحدة. متجاهلة بذلك؛ الحقيقة القائلة بأن من سمات العصر اضمحلال سيادة الدول بالمعنى القانوني للكلمة، إذا لم تكن تلك السيادة مدعمة بما يحققها من أسباب القوة الاقتصادية والعسكرية. ومتجاهلة في الوقت نفسه أن راعي سلامها مع إسرائيل، الولايات المتحدة الأمريكية، ضربت عرض الحائط بقرارات الأمم المتحدة، واستباحت بقواتها العسكرية سيادة الدول المستقلة، وخصوصاً في الشرق الأوسط عبر احتلال أفغانستان والعراق.

=---------------------------
*د. روبير عبد الله: باحث وصحفي لبناني، محرر صفحة فلسطينيات في جريدة الأخبار اللبنانية، وعضو لجنة التضامن الدولية مع شقيقه الأسير في السجون الفرنسية، جورج إبراهيم عبد الله.