النكبة السياسية وأزمة التمثيل الوطني الفلسطيني

بقلم: د. عبد الرزاق التكريتي*
إن النظر للذكرى الرابعة والستين لنكبة فلسطين، يتطلب منا توثيق المأساة المروعة التي عاشها أبناء شعبنا على أثر تدمير مدنه وقراه، وسقوط الآلاف من شهدائه، وتشتيت عوائله، وزج أبنائه في السجون، وسرقة إرثه التاريخي، وحرمانه من التمتع بحياة آمنة على أرضه. بيد أن هذه الذكرى تستوجب أيضاً إستذكار رد شعب فلسطين على نكبته، وتاريخ نضاله على صعيد التمثيل السياسي في سبيل التحرير والعودة وتقرير المصير. وعليه، يمكننا القول بأن التمثيل الفلسطيني مر بخمسة مراحل أساسية: الفراغ في الخمسينيات، البناء، إعادة التشكل في الستينيات، الذروة في السبعينيات، التراجع في الثمانينيات، وأخيراً، التآكل في العقدين الماضيين. ولا ضر هنا من إستباق خلاصة هذه المقالة، ألا وهي أن مهمات المرحلة القادمة تتلخص بإعادة إحياء التمثيل ورفده بكل ما لدى شعبنا من عزم وإبداع عن طريق عملية ديموقراطية جديدة تبدأ بإشراك كافة الفلسطينيين في إنتخابات مباشرة للمجلس الوطني الفلسطيني.

فلنبدأ من النكبة، ذاك الحدث المصيري الذي شكل بداية التاريخ العربي المعاصر ككل، والذي جسد- عدا عن الآفات الإنسانية- كارثة سياسية تمثلت في هدم المؤسسات والهياكل الوطنية الفلسطينية. ففي الأراضي التي احتلت عام 1948، وقع أبناء شعبنا تحت قبضة السلطات الصهيونية وحكمها العسكري. أما في الضفة الغربية، طغت محاولات محو الهوية الوطنية، و الُغي تعبير فلسطين واستبدلته السلطات بإسم الأردن. أما غزة، فقد وضعت تحت الإدارة المصرية وأخذت تعاني من رقابة الأجهزة الأمنية والتضييق على التنظيم السياسي. وتوجت الهزيمة النكراء بتهجير 900000 لاجيء، وتغريبهم في وحول دول المنطقة ومعاملتهم على أساس أنهم "حالة إنسانية" لا أكثر. وبهذا الشكل تم محو فلسطين من الخارطة، و إندثرت الرموز التي كانت تدل على وجودها كالجنيهات والطوابع وجوازات السفر الفلسطينية، وتم حرمان شعبها من حقه في تقرير مصيره، و أضحى في تيه ذي أجل غير مسمى، محروماُ من العودة الى الوطن وباحثاً عن سبل التحرير في المنافي.

وضمن هذا السياق المرير، حاولت القيادات الفلسطينية التقليدية إقامة الحد الأدنى من التمثيل لشعبها الذي لم يكد يتعافى من أثر الصدمة وهول المصيبة، وتمخضت هذه المحاولات بإعلان "حكومة عموم فلسطين" بقيادة المفتي الحاج أمين الحسيني وأحمد حلمي عبد الباقي باشا في 22 أيلول 1948، وبعقد المجلس الوطني الفلسطيني الأول بغزة في الفاتح من تشرين الأول 1948.

إلا أن هذه التجربة بائت بالفشل نتيجة لضيق نطاقها الجغرافي ومحاربة الحكومات العربية لها، اضافة الى إفتقادها لأي مضمون شعبي جماهيري. وبذلك، برز عقد الخمسينات كفترة خلت من أي تمثيل رسمي جاد. هذا لم يعنِ غياب العمل السياسي في صفوف اللاجئين، أولئك الذين صانوا في هذه الفترة ثقافة العودة، وأسسوا الاتحادات والجمعيات الطلابية والعمالية، وانخرطوا بين جنبات الأحزاب القومية العربية والإسلامية، وشكلوا الحركات الوطنية الفلسطينية، وألحوا على تلقي الدورات العسكرية. إلا أن هذه الجهود لم تنعكس على المستوى التمثيلي الإقليمي واستمر هذا الحال حتى إنعقاد القمة العربية الأولى في القاهرة في كانون الثاني 1964، وفتحها الطريق أمام تكوين منظمة التحرير الفلسطينية، بدعمٍ من الزعيم القومي الراحل الرئيس جمال عبد الناصر.

مثل إنشاء منظمة التحرير أول فرصة سنحت لجيل النكبة الرد على غياب التمثيل الوطني الفلسطيني، فهي وفرت حيزاً دبلوماسياً هاماً وأعطت شرعية رسمية إقليمية لجهود تعبئة الفلسطينيين. وأخذ مؤسس م.ت.ف. أحمد الشقيري يجوب العالم العربي بكافة أقطاره متسلحاً بتفويضه الرسمي القومي، وما فتئ يقابل الشخصيات والجمعيات والإتحادات، داعياً إياها للمشاركة في تعبئة الإطار الجديد الذي كان ما يزال خالياً من مادته الأساسية، ألا وهي أبناء الشعب الفلسطيني. بناءاً على الإتصالات الواسعة التي قام بها الشقيري، تمت الدعوة الى المجلس الوطني الفلسطيني الذي إجتمع في القدس في 28 أيار 1964، حيث أقر بتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية.

كان هذا أحد أهم الإنجازات في التاريخ الفلسطيني والعربي الحديث، إلا أن نتائجه لا تزال غائبة عن الكثير من الأذهان، فقد نسينا اليوم كيف أن دول المنطقة كانت تتلاعب بفلسطين، حارمة شعبها من الإدلاء بأي رأي يخص قضيته، فما بالك إتخاذ قرارات في شؤونها! الكل كان يدعي تمثيل فلسطين إلا الفلسطينيون أنفسهم، وجاء تأسيس م.ت.ف كخطوة نحو تصويب هذا الواقع. إلا أن بدايات المنظمة كانت متواضعة للغاية، محكومة بعقلية غير مواكبة لتطورات المجتمع الفلسطيني في تلك الفترة. فقد ولد الشقيري في عصر "سياسة الأعيان" وتشرب من قيم ذاك الزمن، كما أنه لم يكن يملك الأدوات التنظيمية اللازمة للوصول إلى عامة الشعب، لا سيما وأن أغلب دول الطوق كانت تُضيقُ عليه، مضمرةً العداء لمشروع التمثيل الفلسطيني وإن أظهرت قبولها الرسمي له. هذه العوامل إنعكست على تشكيلة المجلس الوطني الفلسطيني، فقد تميزت قائمة أعضائه بكثرة ما ضمت من أبناء المدن والعائلات الكبرى والشخصيات المعروفة، وقلة اشتمالها على ممثلين من أوساط المخيمات والقرى والعائلات المدينية الصغيرة.

لقد طغت صبغة نخبوية على م.ت.ف. في مرحلة بنائها، لم تكن موجودة في الحركات السرية التي نمت بشكل موازٍ في تلك الفترة، ولا سيما حركة القوميين العرب وحزب البعث وحركة التحرير الوطني الفلسطيني- فتح. وبرزت مفارقة ذات أثر كبير: المنظمة كانت تملك الشرعية الإقليمية إلا أنها كانت بعيدة عن الجماهير، أما الفصائل والأحزاب السرية فكانت تنظم الشعب وترتكز لخبرات ومبادرات وطاقات شبابه، إلا أنها لم تمتلك سلطة تمثيلية رسمية، بل وأكثر من ذلك، فقد كانت ملاحقة من قبل كثير من الأنظمة العربية.

الا ان هذه الاوضاع بدأت بالتغير بعد حرب 1967، حيث أن صدمة النكسة وإضعافها للأنظمة أفسح المجال للعمل الفدائي العلني. وعلى أثر معركة الكرامة، إستطاعت الفصائل الدخول إلى المنظمة وإعادة تشكيلها على أسس شعبية جديدة، و استمدت المنظمة سلطتها من مبدأ الشرعية الثورية بدلا من مبدأ الشرعية الإقليمية التي كان يحكمها في بداياتها.

يتردد كلام كثير اليوم عن بيروقراطية المنظمة وفسادها وتضخمها، إلا أن الجانب المنسي، يتمثل في مستوى التعبئة الشعبية الذي حققته والإلتفاف الجماهيري الذي تمتعت به والأفق التمثيلي الدبلوماسي التي أسست له، دون نكران الحالة الثورية التي فجرتها في فترة ذروتها في السبعينيات. فقد انخرط في مؤسسات م.ت.ف. وفصائلها وإتحاداتها ومنظماتها الشعبية مئات الآلاف من الفلسطينيين والعرب والمتضامنين الأجانب من كافة أقطار العالم، وفي سياق مواز، يمكن توصيفها بانها أضحت ثورةً سياسية وإجتماعية ثقافية. كذلك، مثلت المنظمة مركزاً للإنتاج الإبداعي وعالماً ثقافيا ضم الكثير من النخب الفكرية والفنية العربية والعالمية، ابتداء بمحمود درويش الى جان جينيه، ومن غسان كنفاني إلى ادوارد سعيد، ومن الشيخ إمام الى مرسيل خليفة.

يبقى الأهم من ذلك كله هو أن م.ت.ف شكلت إطاراً جبهوياً للوحدة الوطنية، ومع أن هذا الإطار لم يخلُ من الخلافات والصدامات، إلا أن مجرد وجوده كان أشبه بالمعجزة، نظراً الى حالة الشتات اللامتناهي التي يعاني منها الشعب الفلسطيني. وفي هذا الصدد، نقول بأنه لم يكن هناك ردٌ أقوى على التشرذم من إلتآم الشمل في المجالس الوطنية الكثيرة التي عقدت في السبعينيات، والتي كانت، بالرغم من إشكالات كثيرة، ساحات نقاش وحوار وإنتقاد وبناء إستراتيجية. وفي ظل وجود م.ت.ف فاعلة، إستمد شعبنا القوة لفرض وجوده في المحافل الدولية من الأمم المتحدة إلى إتحاد المرأة العالمي، ومن منظمة عدم الإنحياز الى الهياكل الأفرو-أسيوية المختلفة. بإختصار شديد، كانت ثقافة العطاء موجودة رغماً عن الذين انتهجوا ثقافة الأخذ، إلا أن الخير كثير ما يُنسى، و الشر يبقى محفوراً في الذاكرة.

على أية حال، أدركت الإدارات الصهيونية المتعاقبة أهمية تدمير م.ت.ف وما مثلته من حالة ثورية، في عصرها الذهبي في السبعينيات، مما دفعها الى إجتياح لبنان وحصار بيروت بهدف تدمير النهضة الثورية الفلسطينية. وبعد مرور شهرين من المعارك الضارية والمجازر والدمار والصمود والمقاومة، اضطرت م.ت.ف الى الإنسحاب العسكري من لبنان، وابتدأت بالتالي فترة التراجع في عقد الثمانينات. كانت الصورة قاتمة خارج فلسطين، فقد إنشقت فتح، وحاصر النظام السوري وحلفائه آنذاك مخيمات لبنان، وتفشت الروح الإنهزامية، وزاد التشرذم، وتفاقم الخلل المالي الداخلي، وضعف الحلفاء العالميين كالسوفييت، وتغولت قوة الأمريكان، وأخذت الأنظمة العربية تعيث فساداً بالقضية، تحت اشراف ورعاية السادات وخليفته مبارك.
وعلى الرغم من أن الأوضا الانتفاضية في فلسطين ردت الروح الى المنظمة وفصائلها في نهاية الثمانينات، إلا أن واقعة إنهيار الإتحاد السوفيتي، مرفقة بكارثة حرب الخليج جائت مُنهيةً لأية ظواهر عربية مستقلة ومخلةً بالميزان الإقليمي وفارضةً تسوية سياسية أمريكية مؤلمة، طبقت وفقاً للإملاءات الإسرائيلية.

هنا بدأت ظاهرة خطيرة وغير مسبوقة، ألا وهي إنقسام الشعب الفلسطيني. فبالرغم من وجود الإنقسامات داخل الحركات الفلسطينية على مر تاريخها الطويل، وبالرغم من ولادة وصعود التيار الإسلامي في نهاية الثمانينيات بشكل منفصل عن التيار الوطني، إلا أن الشعب كان موحداً في مؤسساته التمثيلية المتمثلة في م.ت.ف وإن كان موزعاً على أحزاب وحركات مختلفة ومتنافسة، بل ومتصادمة في بعض الأحيان! بعد أوسلو تم تهميش م.ت.ف. وتركز ضخ القوة والتمويل لصالح السلطة الفلسطينية، كما وعقدت الإنتخابات في الضفة والقطاع دون عملية موازية في أرض48 والمنافي. أصبح أبناء اللجوء والمنافي الذين أطلقوا الثورة وضحوا بالذات والجهد والمال والبنون في سبيل التحرير والعودة يعاملون كغرباء عن قضيتهم، محرومين من إدلاء صوتهم. ومع تراجع م.ت.ف.، ألا وهي الجسد الوحيد الذي يجمع فلسطين بشتاتها، لم يعد هناك من يحمي اللاجئين وحقوقهم في المنابر والمحافل الدولية، وغدا حق عودتهم ورقة مقايضة في لعبة المفاوضات.

لا نفع من النظر الى هذه المسألة من منظور تخويني هدام، فهي ان دلت على شيء، انما تدل على خلل هيكلي وبنيوي تمثل في إقصاء الشتات الفلسطيني من العملية السياسية. ومع أن كافة الفصائل والأحزاب الفلسطينية تدرك وجود هذا الخلل وأجمعت على إصلاحه في وثيقة الأسرى في 2006 وتالياً له في إتفاق المصالحة الوطنية الموقع في 2011، إلا أن جميع الفلسطينيين بانتظار أن نخرج من طور الوعود إلى نطاق العمل على الأرض. واليوم تقدم الجمعيات المدنية الفلسطينية وأطر اللاجئين في الخارج فرصة للقول أن يتحول الى فعل عن طريق إطلاقها حملةً لتسجيل كل الفلسطينيين في كل مكان لإنتخابات المجلس الوطني الفلسطيني. هذه الحملة بداية طريق العودة الى وحدة الشعب واستعادة مؤسساته الوطنية وتمكين تمثيله وتفعيل الديموقراطية بصفوفه، لا لصفة او طابع معين للحملة بذاتها، انما لان التمثيل الديمقراطي الموحد لجميع الفلسطينين بمختلف أماكن تواجدهم، انما هو المخرج.

لنعد بعد هذه العقود من النكبة المتواصلة الى مبادئنا الأصيلة، الى ندائنا الأول، نداء التحرير والعودة وتقرير المصير. هذه هي الأسس الثلاث التي قامت عليها منظمة التحرير الفلسطينية، وتأسس بموجبها المجلس الوطني الفلسطيني، والتف حولها شعبنا الفلسطيني بكافة أماكن تواجده، كما تبنتها الحركات والأحزاب الفلسطينية على تنوع مشاربها الفكرية الوطنية والإسلامية، وأضافت عليها بالتأكيد في كافة مواثيقها ودساتيرها ووعودها. ولنؤسس بعودتنا هذه شرعية ديموقراطية جديدة مبنية على أساس الإنتخاب المباشر للمجلس الوطني الفلسطيني، والذي سيكون بذلك صرحاً وطنياً قادراً على رسم البرامج والسياسات والرد على النكبة المستمرة بالوحدة الوطنية ورص الصفوف.
-------------
*د. عبد الرزاق التكريتي: لاجيء من حيفا ومحاضر في التاريخ السياسي في جامعة أكسفورد، وناشط في حملة التسجيل لإنتخابات المجلس الوطني الفلسطيني.