بقلم: أحمد أبو غوش*

لدى استطلاع ساحة "الحلم العربييمكن كنتيجة لهذا الاستطلاع تلخيص آمال الجماهير العربية مجتمعة ومنفصلة ومتمفصلة، في تحقيق واقع عربي ديموقراطي؛ يتمتع بالقدرة على توفير فرص تنمية أوسع للأفراد والمجتمعات العربية، وامتلاك إمكانات الإرادة والفعل باتجاه التحرر من السيطرة الخارجية، والقضاء  على حالة  التبعية في الأقطار العربية، وتحرير فلسطين. لربما يذهب البعض في آماله إلى أبعد مما سلف، أي باتجاه إعادة بناء الأمة العربية القادرة القوية التي تعزز وتمكن الأفراد والأمة العربية من التعاطي الواعي مع حيزهم الملائم بين الأمم الناهضة والقوية.

لكن من أبرز الاعتقادات التي تطالع المتتبع لتطورات ما صار يعرف بـ "الربيع العربيتكمن في الرأي القائل بأن مجرد إزاحة الأنظمة التابعة والفاسدة والمتخلفة عن السلطة إنجاز. فذلك، وفقاً لاعتقاد أصحاب هذا الرأي، يفتح آفاقا أوسع أمام مجتمعات الأقطار العربية والأمة العربية جمعاء باتجاه التقدم والوحدة والتحرر. ويعتقد البعض الآخر، أن مجرد إقامة نظام ديمقراطي في الأقطار العربية، "بشرطية ثباته" هو خطوة مهمة نحو الأمام. إلا أن ذلك يتطلب إحداث تطور بنيوي مهم في المجتمعات العربية، لأن الديمقراطية ليست مجرد انتخابات سياسية. فالديمقراطية في ظل التخلف الاجتماعي تعزز بالضرورة نظاما سياسيا متخلفا. والخطر الأكبر على العملية الديموقراطية في هكذا واقع هو تعزيز القديم عبر ترسيخ الجهوية والجغرافية المحلية والقبلية والعشائرية. حيث معايير التصويت والترشح والانتخابات هنا محكومة بالبنى الجزئية المتخلفة التي تعيد إنتاج هويتها في العلاقة الديمقراطية للحفاظ على المصالح والرموز والقيادات المجتمعية ذاتها، على الرغم من تغيير الوجوه. وسنلاحظ هنا استبدالات شكلية فقط. فإبن الإقطاعي صار أكاديميا أو صناعيا أو تاجرا، ولكنه ظل ممثلا للعشيرة أو القبيلة أو الناحية أو الطائفة. ورؤيته السياسية، وإن كانت أوسع نسبياً، إلا أنها محصورة بالمصالح الأضيق ذات الأفق الأكثر ضيقا.

كذلك من المهم الملاحظة الحذرة لما تخلفه حيثيات التخلف من تشويه للمنهج الديمقراطي وسلبها العديد من إيجابياتها بالرغم من بقائها شكلا مهما لاختيار النظام السياسي. ويكفي أن نذكر هنا أن غالبية الدول الأفريقية التي خطت لنفسها نظاما سياسيا ديمقراطيا في القرن الماضي ما انفكت تعاني من نزاعات مسلحة وحروبا أهلية على أرضها. وهذا منبعه من أن الديمقراطية عززت الهويات الجزئية بدلا من خلق حالة تناغم بين مكونات المجتمع استناداً  إلى أرضية المواطنة والانتماء المتناغم أمام الحقوق والمسؤوليات.

أما من الزاوية التنموية؛ فالديمقراطية على علاقة طردية مع التنمية- كما أثبتت العديد من التجارب والدراسات، إلا أنها في ظل التخلف الاقتصادي والاجتماعي قد تعيد إنتاج التخلف وترسخه. فالديمقراطية مرتبطة بسياسات اقتصادية لها علاقة بالحريات وأهمها الحرية التجارية التي تعزز، لو طبقت بمفاهيم دول المركز، النهب المتعاظم للدول الأكثر تخلفا، مع أنها تغير أنماط حياة الأفراد والمجتمعات، وشكل الإنتاج. فالتنمية بالنسبة لدول المركز هي تطوير القدرة على الاستهلاك، وهي في ظل التبادل غير المتكافئ تعزز التخلف بأساليب حديثة، بمعنى أنها تعيد إنتاجه. إن بقاء دول المحيط مستهلكة أكثر مما هي منتجة، أو تعزيز قدراتها الإنتاجية التابعة أو المرتبطة باقتصاد دول المركز ينمي القدرة على الاستهلاك ويعزز التبعية ويجدد التنمية شكليا في الأقطار التابعة، ويعيق بالتالي التنمية من أجل التحرر، ويضيف ضغوطا اقتصادية تدعم التخلف السياسي وتعيد إنتاجه، وهذا يرسخ التبعية بصورتها الشاملة. والتبعية كفيلة بإعادة إنتاج التخلف والمراوحة في دائرة العجز.

ومما يحبط الآمال بالربيع العربي، إفرازاته  الدالة في الأقطار العربية. ففي مصر وتونس نجح تنظيم الإخوان المسلمين في الوصول إلى السلطة ديمقراطيا. ويتضح كل يوم أن هذا التنظيم، وفي كلا القطرين يعزز تضييق الحريات، في مهارة من قبله في "غض البصر" عن أن الحريات هي شرط أساسي لديمقراطية ناجحة وفاعلة، ومن ضمنها حرية الاعتقاد الديني. فالحرية "هي قدرة الشخص على فعل ما يريد، مع عدم استطاعة الآخرين من حرمانه من ذلك، حتى لو أرادوا". وذلك يحتاج إلى تنمية القدرات والتمكن منها، وهذا يتوفر في نظام سياسي يوفر شروط الديمقراطية ويحافظ عليها من خلال نظام قيمي ثقافي مجتمعي يرسخها. هذا أن الثابت يقول بحرية الإنتخاب والترشح وتشكيل التجمعات والأطر السياسية، وحرية الصحافة والاعتقاد والتعبير وضمانها قانونيا وإزالة العوائق التي قد تحول دونها رغم وجود القوانين المؤكدة عليها، كشرط أساسي لقيام الديموقراطية. فحرية التعبير، مثلا، وإن كانت مكفولة بالقانون، قد تتعطل في مجتمع متخلف بسبب عائق الرأي الجمعي المتشكل فيه.

إن أخطر ما يواجه القطرين، مصر وتونس، هو أن تكون الانتخابات السياسية التي جرت فيهما هي الأخيرة، فهذا سيؤدي إلى قيام حرب أهلية تعصف بمجتمعهما واقتصادهما عهودا إلى الخلف، أو أنه سيعزز سيطرة تنظيم الأخوان المسلمين والسلفيين سلطويا وثقافيا بحيث يؤدي ذلك إلى وأد الديمقراطية. والتخوف هنا ليس ناجما عن نجاح القوى الإسلامية في الوصول إلى السلطة، وإنما عن إعطاء الدولة هوية دينية. فالدولة المدنية  شرط أساسي لقيام ديمقراطية حقيقية، بل إنها الحيز الأوحد القادر على احتضانها كأداة لتنظيم المجتمع، فهي التي تكفل لمعتنقي الديانات المختلفة والعقائد الأخرى حرية الاعتقاد والعبادة. والدولة المصبوغة بدين محدد تمارس - بغض النظر عن النوايا- اضطهادا دينيا وأشكالا أخرى من الاضطهاد ناجمة عنه، بغض النظر عن نوايا المتواجدين في السلطة.

وبصرف النظر عن ديمقراطية أو لا ديمقراطية الأنظمة التي تشكلت كنتيجة للربيع العربي، إلا أن الناس في الأرض العربية تواقون لنظام سياسي ديمقراطي. الخوف الأكبر من هذه الأنظمة، وبعد كل التضحيات التي قدمت لتمكينها من الوصول إلى السلطة، في أنها لن تحقق الطموح في تنمية حقيقية لجماهيرها. ففي تونس ومصر كان النظامان السابقان مرتبطين بالمركز، ويتبعان سياسات تنموية تسمح باندماج القطرين في اقتصاد معولم، وخاضع ومستنزف، والثورة قامت ضدهما لأن اقتصاد القطرين عانى من نزف وإفقار لقوى اجتماعية واسعة بسبب النهب المزدوج الداخلي والخارجي. أما بعد الثورة؛ فتبدو الأنظمة الجديدة عاجزة عن إرجاع الأموال المهربة، وعن التعافي بسبب أزمة الثورة. ولأنه ليس سهلا الوصول بالحد الأدنى إلى المستوى الحياتي السابق على الثورة، لا تحسينه، فإن الإحساس بأزمة الثورة سيظل موجودا إلى عدة سنوات، حتى في ظل محاولات جادة للتنمية. ويبدو أن النظامين الجديدين عاجزان عن فك الارتباط مع المركز الإمبريالي، بل هما بأمس الحاجة للمساعدة المقدمة لهما منه. لذلك، ما زلنا نسمع لغة تسعى إلى طمأنة المركز بأنه لا جديد سياسيا في مواقفهما وخاصة بإتجاه إسرائيل. ويبدو أن هذه الأنظمة فاقدة حتى لإرادة الشجب الذي كان يبرع في تزيينه النظامان السابقان في القطرين قبل الربيع العربي.

أما في ليبيا، فنجد أن النظام الجديد غير قادر على إخضاع ليبيا لنظام سلطة مركزي، والخشية من الانقسام والحرب الأهلية عظيمة. والأخطر أن هذا البلد الغني بالبترول يعاد اقتسام موارده من قبل الدول التي ساعدت في تغيير النظام فيه. بل هنالك إشارات واضحة لتغلغل صهيوني في هذا القطر.

أما في اليمن، فالتغيير فيه لم يسفر حتى الآن عن تغير الوضع السابق للثورة، بل بقي على حاله تقريبا، بل وازداد تعمق الانقسام القبلي فيه، وزاد الفقر إلى درجة أصبح فيها القطر اليمني من أفقر ثلاث دول في العالم.

وفي سوريا، وبغض النظر عن دكتاتورية النظام السوري، أصبح واضحا لكل مراقب أن الجبهة الأوروبية التركية العربية الأمريكية الداعمة " للثورة" ليست معنية بنظام ديموقراطي، أو إصلاح، وأن هذه الجبهة الشاسعة لا تهدف في دعمها للتغيير في هذا القطر، بقدر تدميره، لا تغيير النظام السياسي فيه. وإذا نجحت أهدافها في سوريا، سنشاهد قطرا مدمرا، نزف دما وخسائر اقتصادية إلى درجة الفقر المدقع. والنتائج الحتمية هناك لما يسمى "الثورة السورية" هي تعزيز الطائفية والانقسام، وتدمير مقدرات الشعب السوري وتعميم الفوضى العارمة. فتغيير النظام وانتصار "الثورة" سيؤدي إلى حرب أهلية، مع كل ما يترتب على ذلك من تدمير وتخريب وإفقار. المهم بالنسبة لجبهة داعمي "الثورة" في سوريا عربا وغربيين أو شرقيين خلق فاصل جغرافي بين إيران وحزب الله في لبنان، هذا بالإضافة للأهداف الخاصة لكل من الدول الداعمة. أما إذا صمد النظام، فالتخريب والتدمير الذي حدث في سوريا يضمن بقاءه ضعيفا، واستنزافه سيظل مستمرا، مما يضمن بقاءه خارج معادلة المواجهة عمليا لفترة طويلة.

بالاعتماد على ما سبق، يمكن القول أن النتائج المباشرة "للربيع العربي" لن تكون على مستوى طموح الجماهير العربية والفلسطينية، فهي على المدى المنظور مخيبة للآمال لأنها لم تخلق أنظمة ديمقراطية، وان أنجزت انتخابات نزيهة، وساهمت في تقسيم وتجزيء الأقطار المجزأة. أما على المستوى التنموي، والوضع الاقتصادي للجماهير الأكثر فقرا في هذه الأقطار، فسيزداد الوضع سوءا، وهذا سيردع نقل عدوى" الثورة" إلى جماهير أقطار عربية أخرى. فالأقطار العربية التي لم تشهد ثورات غنية وموالية للغرب، وجماهيرها لا تعاني من أزمات اقتصادية  حقيقية، أو أن معاناتها أو من يعاني منها أقل، مع وجود تفاوت هائل بين سكان هذه الأقطار من حيث الدخل. لذلك، لا أمل من أن يكون الربيع العربي شاملا، والحمد لله، لأن التغيير بأسلوب الهبات الجماهيرية يصلح لتحسين وإصلاح ظروف محددة، لا القيام بثورة تتعاطى مع جذور التناقضات. فالتغيير الثوري يتطلب وجود عامل ذاتي منظم له رؤية واستراتيجيات وبرامج وآليات نضال تحقق أهداف الجماهير بأقل الخسائر.

وواذا جاز حساب التغيير بنسب، فالحقيقة أن ربع التغيير أو نصفه أسوأ من اللا تغيير، ومكلف أكثر. والتغيير بدون رؤية، وهي لا تتوفر بدون عامل ذاتي منظم وفاعل، يمسي تغيير أعمى وأهوج، ويعيد على الأغلب، إنتاج الواقع السابق. فالتبعية في ظل "نظام ديمقراطي" ليست أفضل من التبعية في ظل نظام دكتاتوري، إلا من وجوه لا تحدث في الوضع العام فرقا جوهريا. و"الديمقراطية" لن تحدث فرقا في الأقطار الصغيرة الضعيفة العاجزة بنيوياً عن خلق تنمية مستقلة. لذلك، فإن التخلف والفقر، والتبعية، والعجز ستظل سمات بارزة في الأقطار العربية ما لم تتأطر الجماهير، سواء على مستوى قطري، أو قومي، في أطر سياسية تمثل مصالحها وتقودها نحو تغيير جذري مستمر لصالح أهدافها بعيدة الأمد، وهي التحرر والتنمية المستقلة، والديمقراطية البنيوية وبناء القدرة للأمة. والوحدة هي التي ترفع سقف التطور العربي وتجعل الآمال ممكنة التحقيق.

الطرح السابق لا يعني بأننا نراكم الدعوات ضد التغيير نحو الأفضل في أي من الأقطار العربية،  ولكنه دعوة ضد الوهم بال "ثورة" أو ال"ربيع". فأي حراك إلى الأمام أفضل من الواقع الساكن أو القائم، إلا أن التغيير والثورة يتطلبان نضجا أكثر من مجرد رفض الواقع، إذ يتطلب معرفة إلى أين نحن ذاهبون وبأية وسيلة، فالتغيير ليس بالضرورة تطورا. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو، هل تغيير أو نفي الأنظمة القائمة مقبول بأي ثمن؟ وإذا كانت المسألة مجرد عملية إصلاح، السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: من الأفضل إصلاح مستمر بعدد أقل من الضحايا والخسائر أم التغيير بأي ثمن وغير المعروف بأي اتجاه ولصالح من؟

البوصلة نحو فلسطين أوضح ما تكون في ظل عقيدة قومية، فالقطرية تضعفها، والعولمة والعالمية تشتتها، والطائفية وكل الهويات الجزئية تحرفها وتدمرها. وفي ظل الواقع العربي في هذه المرحلة، مرحلة تجزيء المجزأ، أو التوجه نحو العالمية والعولمة بالقفز عن التطور القومي، ستعيش فلسطين حالة أسوأ من حالة المراوحات القطرية التي شهدتها خلال العقود الأربعة الماضية. فإذا كانت إفرازات الربيع العربي، على الأقل، على المدى المنظور، تعزز دور الأخوان المسلمين، والأمة بالنسبة لهم هي الجماعة المتفقة على دين، ودور التيارات الديمقراطية المعولمة او المتعولمة التي قبلتها الغرب لا أمتها، فإن فلسطين كجزء مسلوب في قلب أمة مجزأة، واحتلاها يعيق وحدة الأمة العربية، لن تحظى بالاهتمام المركزي المأمول. والبوصلة في هكذا واقع ستتجاذبها حقول مغناطيسية متنافرة ومتعددة، وستختلف الاتجاهات والتوجهات من ظرف إلى آخر.

بيد أن الصورة حسب اعتقادي على المدى الأبعد ليست مظلمة كليا، فتشكيل تيار أو إطار وطني قومي ديمقراطي في مصر ممكن، وبقدر تعزيز قدرته بالتأطير والتنظيم والتثقيف، والنضال اليومي، يتعزز نجاحه. فإذا نجح هذا التيار المتجدد في الوصول إلى السلطة وقيادتها وتبنى مفاهيم التحرر، وتنمية التحرر بتعزيز الاستقلال وتوفير فرصه، والنضال من أجل الوحدة العربية، يضيء الطريق ويحول الربيع العربي إلى ربيع مزهر ومثمر.

-------------------------------------------------------

*أحمد أبو غوش: كاتب فلسطيني وباحث في قضايا الهوية والمواطنة والقومية.