رؤية الحركة القومية وقواها الفاعلة تجاه القضية الفلسطينية في مرحلة الستينيات

بقلم: صلاح صلاح*

مراحل النضال في تاريخ الشعوب متتابعة ومتداخلة في ذات الوقت، فلا يمكن القطع بين مرحلة وأخرى. فرؤية الحركة القومية وعملها تجاه القضية الفلسطينية في مرحلة الستينيات لم يكن معزولا عن مرحلة الخمسينيات -على سبيل المثال– حيث كان الهجوم على أشده، بقيادة الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها بطرح مشاريع تستهدف تحقيق أمرين: الأول تكريس وجود إسرائيل كإحدى دول المنطقة والاعتراف بها والصلح معها من قبل الدول العربية، والثاني تقليص جوهر الصراع مع إسرائيل إلى اعتباره مشكلة لاجئين وبمعالجتها ينتهي الصراع. لتحقيق هذين الأمرين طرحت مشاريع الأحلاف (كحلف بغدادومشاريع تحويل مجرى نهر الأردن وتقاسم مياهه بين العرب وإسرائيل وإقامة مشاريع اقتصادية مشتركة على ضفافها تستوعب أكبر عدد من اللاجئين الفلسطينيين،

إضافة لمشاريع أخرى والترويج لها مبكراً، منذ أوائل الخمسينيات، لحل مشكلة اللاجئين كتلك التي عرفت بأسماء الداعين لها (كلاب، دالاس، إيدن، هموشولد). وفي نفس السياق، ولنفس الأهداف تتابعت المشاريع بأسماء وعناوين مختلفة في مرحلة الستينيات؛ من المبعوث الأميركي جونسون إلى رئيسه جونستون تدعو إلى الاعتراف المتبادل بين الأنظمة العربية وإسرائيل و"حل عادل؟! لمشكلة اللاجئين"، إلى تصريحات الرئيس التونسي حبيب بورقيبة بحل قضية فلسطين خطوة خطوة "خد وطالب".

تكثفت المشاريع وزادت خطورتها بعد النكسة في حرب حزيران 1967؛ فدخلت قوى جديدة أوسع تأثيراً على الوضع العربي، مثل المبادرة التي طرحها جوزف تيتو بعد جولته على مصر وسوريا والعراق، وبيان الدول الأربع (بريطانيا، فرنسا، أميركا، الإتحاد السوفيتيمشروع "حكماء أفريقيامشروع روجرز، مشروع الملك حسين الذي ادعى أن الرئيس عبد الناصر يوافق عليه، والخ. بصرف النظر عن تفاصيل كل منها، لكنها جميعها تنطلق من قرار 242 وتؤكد على الاعتراف بإسرائيل ضمن حدود آمنة، و"حل عادل؟! لمشكلة اللاجئينمتجاهلة قرارات الأمم المتحدة 194 و237 و181 وبدون الإشارة الواضحة إلى دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة وعاصمتها القدس الشرقية.

بات من الواضح أن كل هذه المشاريع أصبحت لاحقاً هي المدخل للمفاوضات التي انطلقت في السبعينيات وأدت إلى كامب ديفيد ووادي عربة وصولاً إلى أوسلو. وفرضت المعادلة التي أطلقها الرئيس المصري السادات "99% من أوراق اللعبة في منطقة الشرق الأوسط بيد أميركا". وغيّبت بالكامل أي ذكر لقرارات جامعة الدولة العربية "لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض".

في المقابل، وبغض النظر عما انتهت إليه الأمور، فهناك سياق آخر أخذ في التكون من خلال المواجهة مع المشاريع التي طرحت؛ تمثل في الحالة التي جسدها الرئيس عبد الناصر في مصر عبر عقد الخمسينيات، من خلال انتصارات مكنته من تحشيد أوسع قطاعات الشعب العربي وأحزابه القومية، منها: إجلاء القوات البريطانية، وتأميم قناة السويس، والتصدي الشجاع للعدوان الثلاثي (بمشاركة إسرائيل) على مصر، وإعلان قيام الوحدة بين مصر وسوريا كإنجاز تاريخي يستجيب لآمال وأماني الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج. هذا مع حسبان خطبه الحماسية والتعبوية التي كانت فلسطين أحد محاورها الثابتة. وهنا أسمح لنفسي، استناداً إلى تجربتي وإلى الوقائع التي يمكن أن يعود إليها أي باحث، أن أشير إلى أنه ترافق مع تلك الفترة التي قامت فيها الثورة في مصر كردة فعل على نكبة 1948، كما أعلن قادتها، تشكيل حركة القوميين العرب بنفس الخلفية، فجعلت قضية فلسطين والوحدة العربية على رأس أولوياتها. وعبّرت عن ذلك في رفضها الحاسم ومقاومتها الميدانية وبكل الوسائل المتاحة للمشاريع التي استهدفت قضية اللاجئين، وانتصرت. كذلك فعلت في التصدي لمشاريع الأحلاف وتحويل مياه نهر الأردن. وأخذت موقفاً مميزاً في دعمها بقوة للوحدة العربية وإدانتها للانفصال لاحقاً.

من هنا بدأ التلاقي مبكراً مع عبد الناصر باعتباره مركز استقطاب لمرحلة نهوض عربي تتوجه إليه كل الأنظار في الشارع العربي بما في ذلك الفلسطيني، لتحقيق الوحدة العربية وتحرير فلسطين. وأخذت العلاقات طابعاً ذا دلالات مهمة، بشكل خاص على الصعيد الفلسطيني. أبرزها:

·        فتح معسكر أنشاص لاستقبال مجموعات من شباب الحركة في عام 1956 وكذلك عام 67 للتدريب؛ ففي الأولى (56) للقيام بعمليات تطال مصالح الدول المشاركة في العدوان على مصر، وفي الثانية (67)  لدعم التوجه الذي أقره إقليم فلسطين في الحركة عام 64 للبدء في الإعداد للعمل العسكري، والقيام بعمليات عسكرية لا تؤدي إلى توريط نظام عبد الناصر في معركة مبكرة "فوق الصفر وتحت التوريط".

·         بعد قيام الوحدة بين مصر وسوريا عام 58، وقع النظام الوحدوي تحت ضغط هائل من الجماهير العربية التي تحتشد لاستقبال "الريّس" في المناسبات المتعددة، وإلحاح الوفود الفلسطينية والعربية التي يستقبلها التي كانت تطالبه بالتسليح والتدريب لتحرير فلسطين. فبادر في عام 59 بالطلب من جامعة الدول العربية بحث فكرة قيام كيان فلسطيني. ولتعزيز هذا الطلب فقد دعت الجمهورية العربية المتحدة إلى اجتماع يعقد في القاهرة يحضره ممثلون عن حركة القوميين العرب والهيئة العربية العليا وشخصيات فلسطينية لتشكيل لجنة تحضيرية تقوم بالإعداد إلى إقامة "الكيان الخاص لأبناء فلسطين". لكن الوضع العربي، كما يبدو، لم يكن ناضجاً لتقبل هذه الخطوة، ودخل الرئيس العراقي عبد الكريم قاسم على الخط فأعلن، بالاتفاق مع الهيئة العربية العليا، تشكيل "جيش فلسطين". أضف إلى ذلك أن الجمهورية العربية المتحدة، وكما أعلن الرئيس عبد الناصر، لم تكن بعد قد بلورت "خطة لتحرير فلسطين". والهيئة العربية من جهتها لم تكن متحمسة لفكره الكيان الفلسطيني، لأنها تعتبر نفسها هي هذا الكيان (هذا هو السبب الأساسي في معارضتها قيام منظمة التحرير الفلسطينية لاحقاً).

يتضح من خلال اجتماع القاهرة، أن الجمهورية المتحدة، حركة القومين العرب، والهيئة العربية العليا هي القوى الفاعلة باتجاه فلسطين في تلك الفترة. بعد فشل الاجتماع اعتبرت الحركة نفسها معنية في محاولة تحديد رؤية إستراتيجية لتحرير فلسطين، فكلفت عام 60 عدداً من أعضائها المؤهلين لذلك بإعداد أبحاث ودراسات تبلورت في محصلتها خطة؛ تعتمد بالأساس على التزاوج بين الدور الرسمي الذي تقوم به دولة الوحدة بحسم المعركة مع العدو، والدور الشعبي الذي يقوم به من خلال تنظيم فلسطيني؛ يُعد المقاتلين ويدربهم ويسلحهم، ويساهم بتوعية الجماهير وتنظيمهما، ويهتم بالتعبئة والإعلام الخ.

وتتضمن الخطة قراءة تفصيلية للواقع العربي الرسمي والدولي وتقديرات موقف كل دولة، والتفاؤل بالرهان على الاستجابة الواسعة من الفلسطينيين وأبناء الشعب العربي. فتحرير فلسطين، بموجب هذه الخطة، مرتبط بدولة الوحدة، كلما توسعت لتشمل دولاً أخرى كالعراق والأردن ستكون أقدر على خوض معركة الحسم التي يكون قد بدأها التنظيم الفلسطيني بعملياته الفدائية. بعد الانفصال عام 61 تكشفت معطيات جديدة كانت تختفي تحت ستار مخادع ومضلل أهمها وأكثرها مساً في الموضوع الفلسطيني، وولدت متغيرات جذرية على الصعيدين القومي والوطني:

·         العجز العربي أمام اتخاذ إسرائيل خطوات عملية في تحويل مجرى نهر الأردن.

·        كشف الأنظمة الرجعية العربية عن تحالفها مع الاستعمار في التآمر على الوحدة وضرب المد القومي الملتف حول عبد الناصر، الذي شكل مركز دعم من ناحية وجذب من ناحية أخرى لثورات منتصرة ضد الملكية في العراق واليمن الشمالي وهزمت الاحتلال البريطاني في اليمن الجنوبي والاستعمار الفرنسي في الجزائر.

·         في هذه الأجواء تمكن الرئيس عبد الناصر من تمرير قرار إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية 1964 رغم معارضة بعض الدول العربية خاصة السعودية والأردن. في حين كان يجري تداول الحديث عن تشكيل تنظيمات فلسطينية سرية تعد نفسها لممارسة الكفاح المسلح ضد إسرائيل، متأثرة بانتصار الثورات في الجزائر وكوبا وصمودها في فيتنام.

وهنا يمكن القول أن "الميثاق القومي" للمنظمة الذي استبدل لاحقاً بإسم "الميثاق الوطني" طرح لأول مره خطة لتحرير فلسطين تقرها جامعة الدول العربية. في مقابلها طرح الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة مبادرته "الخطوة خطوة" التي فسرت أوساط واسعة سكوت الأنظمة الملكية في السعودية والأردن والمغرب عنها بمثابة تأييد لها، وهي خطة هذه الأنظمة للقضية الفلسطينية.

قوبل إنشاء م.ت.ف بترحاب استثنائي في الأوساط الفلسطينية على جميع المستويات؛حيث أصبح لهم مرجعية وكيان يعبر عن آمالهم وطموحاتهم. ولهم "جيش تحرير فلسطين" يوفر لهم التسليح والتدريب، لتعبيد طريق العودة بالتضحيات والشهداء. لم يمنع هذا أن تطرح بعض القوى تحفظاتها وملاحظاتها النقدية حول طريقة تشكيل المنظمة ارتباطا بقرار من الجامعة العربية وحول أسلوب اختيار أعضاء المجلس الوطني واللجنة التنفيذية بما يعكس النزعة الفردية عند الشقيري.

هذا لا يمنع الحرص على هذه التجربة والعمل على تطويرها من داخلها. على هذه الأرضية ولتعزيز وضع م.ت.ف على الصعيد الفلسطيني، ولمعالجة الملاحظات النقدية، وبالتنسيق بين القيادة الفلسطينية لحركة القوميين العرب والشقيري فقد عقدت اجتماعات متعاقبة حضرها ممثلون عن المنظمة، الحركة، حزب البعث (بعد الصراعات داخل الحزب في سوريا إقتصر الحضور على مجموعة الريماوي) جبهة تحرير فلسطين، طريق العودة. حضر الاجتماع الأول ممثل عن الحزب الشيوعي من الأردن تحدث عن ترحيبهم بالمبادرة لتوحيد العمل الثوري الفلسطيني وتغيب عن باقي الاجتماعات. أما حركة فتح فقد تغيبت منذ البداية عن كل الاجتماعات.

شكل المشاركون في الاجتماعات "اللجنة التحضيرية للعمل الفلسطيني الموحد"، تمكنت من وضع صيغة متكاملة حول العنوانين اللذين تركز عليهما النقاش، وهما: مبادئ العمل الثوري الفلسطيني، والصيغة التنظيمية للعمل الموحد. حيث تم إقرارهما في اجتماع عقد في بيروت، منتصف كانون الثاني، بدعوة من رئيس المنظمة السيد أحمد الشقيري. كما تم الاتفاق أن تعقد اجتماعات دورية، مرة كل شهرين، بين قيادة هذا الإطار وقيادة المنظمة "للتنسيق والتفاعل والمحاسبة".

وقد أثبتت هذه الصيغة أهميتها في دورة المجلس الوطني الثالثة المنعقدة في غزه حيث تمكنوا بتنسيقهم المسبق من تمرير كثير من القرارات والتوصيات وإيصال عدد من ممثلي التنظيمات المشاركة في لجنة العمل الموحد إلى عضوية اللجنة التنفيذية. لكن هذه التجربة الأولى التي حملت مؤشرات إيجابية ومشجعة للعمل الموحد، تعطلت مباشرة بعد هذه الدورة بسبب الميول الانتهازية التي برزت عند بعض أعضائها أمام أول اختبار.

هزيمة أو ما سمي "نكسة" حرب حزيران 67، التي أعقبت تعطيل اجتماعات القمة العربية، وضعت المنطقة العربية أمام مرحلة جديدة تفتح آفاقاً في اتجاهات متعددة ومتناقضة في شأن القضية الفلسطينية؛ أسقطت كلياً "إمكانية" وجود إستراتيجية عربية واحدة تستهدف تحرير فلسطين، واستعاضت عنها، بشعارات أطلقها مؤتمر القمة العربية المنعقد في السودان "لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض" كرد فعل خجول على النكسة. لم يكن لها أي قيمة عملية على الأرض. ونظام عبد الناصر الذي تجرع الهزيمة، وعاش بعدها لسنوات حرب استنزاف دموية ومرهقة، أضطر للخروج منها بقبول مبادرة روجرز. وأصبح همه الأساسي "إزالة آثار العدوان". وبهذا تحول الميثاق إلى إستراتيجية للحركة الوطنية الفلسطينية ولم يعد إستراتيجية قومية.

على كل فإن النكسة التي أصابت أنظمة "الطوق" بشكل خاص، أتاحت للمجموعات الفدائية التي كانت تعمل سراً إلى الظهور علناً، ووضع اليد على قياده م.ت.ف وعلى الأخص منها حركة فتح. هكذا تغلبت النزعة القطرية على الحركة الوطنية الفلسطينية، ونسجت علاقات إستخدامية مع الأحزاب والقوى القومية على صعيد محلي في كل بلد من ناحية وضمن الإطار الجامع الذي تشكل بمبادرة من م.ت.ف باسم "الجبهة العربية المشاركة" من ناحية ثانية.

هذا الوضع الفلسطيني الذي لم ينجح بوضع أسس ثابتة وصادقة تحفظ وحدة وتماسك العمل الجبهوي في إطار م.ت.ف، وغلب عليها هيمنة التنظيم الواحد (فتح)، وممارساتها المتذبذبة التي تميل إلى مراعاة الأنظمة ومسايرتها والاستجابة لضغوطاتها، ما أدخلها، مرغمة أو مختارة، في لعبة الصراعات والتناقضات والحسابات السياسية للدول؛ فمنهم من سل سيفه للتخلص من المنظمة (الأردن، لبنان) ومنهم من عمل على احتوائها أو تدجينها (سوريا، العراق)، ومنهم من بذل جهوداً غير مسبوقة في فن الخداع والتضليل  لجرها إلىمستنقع الحلول السياسية ومشاريع التسوية التي تقودها الولايات المتحدة الأميركية. واستطاعت هذه أن تحقق نجاحها الباهر بتوريط القيادة المتنفذة في المنظمة بالمفاوضات المتعاقبة والمتنقلة من مدريد إلى أوسلو وما بينهما وتقديم التنازلات المتدرجة التي أدت إلى التخلي عن إستراتيجية التحرير والعودة لإقامة دولة مستقلة ديمقراطية على كامل أرض فلسطين، والقبول بحكم ذاتي على جزء يتناقص يومياً بمصادرة الأراضي وبناء المستوطنات، على رأسه "سلطتان لا تتمتع أي منهما بالسلطة".

فقدت فلسطين بعدها القومي، كما أن الحركة القومية الوحدوية التي كانت تشكل حاضنة للقضية الفلسطينية لم تعد موجودة إلا بالشعارات وفي ذهن ما تبقى من مناضلين. أما خلاصة القول؛ فنحن بحاجة إلى حركة نهوض قومي ووطني جديدة. لعل الحراك الشعبي العربي "الربيع العربي" يشكل مدخلاً لها ويجد صداه على الصعيد الفلسطيني خاصة في أوساط الشباب.

------------------

*صلاح صلاح: عضو المجلس الوطني الفلسطيني، ورئيس لجنة اللاجئين فيه.