المنظور الإسرائيلي لمستقبل الصراع مع الفلسطينيين على ضوء "الثورات العربية"

بقلم: د. سامر راشد*

رغم أنّ ملفات الصراع العربي- الإسرائيلي لم تتصدر قائمة أولويات الثورات العربية في مرحلتها الأولى، إلا أنّ كل التحليلات والقراءات تنطلق، على نحو أو آخر، من أنّ إسرائيل ستكون في نهاية المطاف هي الخاسر الأكبر من ثورات "الربيع العربيتليها الولايات المتحدة الأميركية. وثمة اعتقاد راجح بأنّ الثورات العربية جعلت إسرائيل على الصعيد الإقليمي تدرك تماماً أنّ "الربيع العربي" سيؤسس لنظام عربي جديد متماسك وقوي، وسيقلب معادلة القوة الإسرائيلية، وسيضعف مفاعيل تحالفها الإستراتيجي مع الولايات المتحدة، لاسيما أنّ الثورات العربية أحدثت خلخلة في نماذج القيم والعلاقات السياسية السائدة بما سيؤثر في صياغة جيوسياسية جديدة في المستقبل.

ولم تشهد دولة إسرائيل منذ قيامها اضطراباً وعدم وضوح لما يحيط بها مثلما هي اليوم، وحسب كبار خبرائها الإستراتيجيين، فإنّ إسرائيل لا تصحو من صدمة حتى تتلقاها أخرى، بفعل الانهيار المتسارع لأنظمة عرفت خباياها.

وبالمقابل، إنّ إعادة تشكيل القوى الفاعلة في المنطقة سينعكس إيجاباً على القضية الفلسطينية بكل مكوناتها، مع التأكيد هنا، مرّة أخرى، أنّه ربما لا تظهر هذه التأثيرات بشكل قريب ومباشر، لكنها سيكون لها انعكاسات مهمة في المدى البعيد، أو ربما المتوسط. حيث أنّ أيّ تطور ديمقراطي حقيقي هو ليس في مصلحة إسرائيل في القادم من الأيام، لأن الشعوب العربية ترفضها إستراتيجياً.

وتؤكد معظم القراءات لمستقبل الثورات العربية أنّ الحركات الإسلامية والوطنية، التي أوصلتها صناديق الاقتراع إلى سدة الحكم عبر انتخابات نزيهة أجريت في عدد من الدول العربية، ستتعامل مع القضية الفلسطينية على مرحلتين: الأولى هي المرحلة الانتقالية والثانية هي مرحلة ما بعد الاستقرار، حيث ستنصرف تلك القوى بادئ الأمر إلى بناء نظام سياسي ديمقراطي يراعي مصالح الشعوب العربية على المستوى الداخلي القُطري في المرحلة الحالية (كأولوية دون إهمال القضية الفلسطينية). إلا أنّ القضية الفلسطينية ستنال جلّ اهتمام تلك الحركات بعد ترتيب البيت الداخلي وتأمين سبل العيش الكريم لمواطنيها الذين أوصلوها إلى سدة الحكم.[i]

وهنا تبرز إشكالية الفكر الإستراتيجي الإسرائيلي، إذ كانت آلة الدعاية الصهيونية تقوم على فرضية أنّ مشكلة إسرائيل مع الدول العربية هي في طبيعة النظم الديكتاتورية في هذه الدول، غير أنّ الثورات الشعبية العربية المعاصرة جعلت إسرائيل أكثر قلقاً من احتمالات دمقرطة العالم العربي، وتبيّن لها أنّ أنسب الأوضاع لها هي في استمرار النظم الديكتاتورية، كما أنّ اتساع قاعدة الديمقراطية العربية سيفقد إسرائيل الزعم بأنها (الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط).

ويؤكد ما سبق المفكر الفرنسي آلان جريش بالقول: "هناك فكرة واضحة جداً، وهي أنه لو كانت هناك ديمقراطية، فسيكون موقف العرب أقوى ضد إسرائيل، ليس بمعنى الحرب، وإنما الصراع. ما فعله مبارك في السنوات العشر الماضية لخدمة إسرائيل لم يكن أحد يفعله، وهذا كان ضد الغالبية الكاسحة من الشعب المصري، وإسرائيل تخاف من هذا".[ii]

ويعود الخوف الإسرائيلي من الثورات العربية بشكل رئيسي إلى إدراك تغير وزن الشارع العربي في القرار السياسي الرسمي العربي. فقد كان هذا القرار يتشكّل بفعل عوامل عديدة أقلها أهمية هو رد الفعل الشعبي أو موقف الرأي العام العربي. غير أنّ الثورات الأخيرة جعلت موقف الشارع أكثر وزناً في حسابات الأنظمة، وترافق مع ذلك قلق الحكام العرب من تخلي أميركا عنهم على غرار التخلي عن بن علي ومبارك، الأمر الذي سيجعل هؤلاء الحكام أكثر استجابة لتطلعات شعوبهم، وكما يقول المؤرخ الإسرائيلي توم سيغيف: إنّ سلام إسرائيل كان مع "أشخاص حكام" وليس مع الشعوب. ولما كانت إسرائيل تدرك أنّ موقف الرأي العام العربي أبعد كثيراً عن التطابق مع رأي الأنظمة، فقد بدأت تتحسس الآثار المحتملة على تسارع العلاقات العربية- الإسرائيلية، بل احتمالات تراجعها، أي أنّ وتيرة التطبيع ستتراجع، كما أنّ أي علاقة مع إسرائيل ستكون محفوفة بالمخاطر في المدى الزمني المنظور.[iii]

وبحسب المحلل الإسرائيلي "ألوف بن" ترى النخب السياسية والفكرية الإسرائيلية أنّ منطقة الشرق الأوسط في ظل الثورات العربية قد تتجه إلى أحد السيناريوهات الأربعة التالية:

السيناريو الأول:نجاح الثورات والانتفاضات الشعبية في تحقيق تغييرات جذرية في المنطقة العربية، تؤدي إلى صعود قوى وطنية وإسلامية للقيادة، وبشكل يؤدي إلى قيام مشروع عربي إسلامي نهضوي جديد، يوفر فضاءً إستراتيجياً للعمل المقاوم، ويؤدي إلى تغيير في موازين القوى في المنطقة.

السيناريو الثاني:نجاح جزئي للثورات والانتفاضات، يؤدي إلى تحسين ظروف الحياة السياسية والاقتصادية في المنطقة العربية، دون أنْ ينشغل بعملية الصراع مع إسرائيل، أو أنْ يسعى إلى تغيير موازين القوى في المنطقة، أو السماح لقوى المقاومة بالنمو لدرجة قد تجرّه للمواجهة العسكرية مع إسرائيل.

السيناريو الثالث:فشل الثورات في تحقيق أهدافها، وعودة الأنظمة الفاسدة المستبدة لإنتاج نفسها من جديد بأثواب مختلفة.

السيناريو الرابع:حدوث آثار عكسية لا تؤدي فقط إلى فشل الثورات في تحقيق أهدافها، وإنما إلى نجاح القوى المضادة للثورة.[iv]

إلا أن هنالك شبه إجماع في أوساط النخب الإسرائيلية على أنّ "الربيع العربي" يمثّل نقطة تحول إستراتيجية تتطلب تغييراً في العقيدة الأمنية لإسرائيل، مع التحذير من أنّ السيناريو الأول يمتلك مقومات موضوعية تمكِّنه من شق طريقه.

وفي هذا السياق يتحفظ كثير من المحللين السياسيين والعسكريين الإسرائيليين على دراسات إستراتيجية إسرائيلية تقلل من أهمية الثورات العربية من ناحية التحول الديمقراطي الحقيقي، ومن حيث تأثيراتها على إسرائيل. مثال هذا الشكل من التحفظات التي أبديت على ما انتهى إليه جنرال الاحتياط غيورا آيلاند في دراسته المعنونة ب ـ" قلاقل الشرق الأوسط وأمن إسرائيل"،[v] بالزعم أنّ التغيير في مصر كان أقل بكثير مما كان متوقعاً، وبأنه في ما عدا الإطاحة بالرئيس المصري السابق حسني مبارك لم يحدث الكثير، وترجيح أنْ تشّكل الأحوال الاقتصادية مشكلة جوهرية أمام النظام الحاكم اليوم والذي سيليه في مصر. وينطلق آيلاند في حكمه هذا من الاعتقاد بأنّ الاقتصاد المصري مرهون بأربعة قطاعات ترتبط بشكل مباشر أو غير مباشر بإسرائيل، وهي بالإضافة إلى السياحة وتصدير الغاز، مداخيل قناة السويس والدعم الاقتصادي والعسكري من الولايات المتحدة. وتأسيساً على ذلك يؤكد آيلاند بأنه "لن تطرأ تغييرات جوهرية على العلاقات الثنائية السياسية والاقتصادية بين مصر وإسرائيل رغم التغيير التكتيكي المتمثل في اتساع عمليات تهريب السلاح والإرهاب". ويذهب آيلاند إلى أبعد من ذلك في تبيان تبعات تغيير في الأردن، ويقول: "إنّ ثورة ديمقراطية هناك ستدفع الأغلبية الفلسطينية للحكم، وتغيير طبيعة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، مع مقترحات جديدة لتسويته".

ويتوقع آيلاند في تلخيصه أنْ "تفرز الأحداث العربية إمكانيات جديدة كإضعاف النفوذ الإيراني في سورية ولبنان، وتدعيم الائتلاف المناهض لإيران في دول الخليج. وعلى المدى البعيد فإنّ التحول الديمقراطي سيساعد إسرائيل أنْ تُقبل كدولة متساوية الحقوق في المنطقة، وفي إطار ذلك تسوية الصراع المتواصل مع سورية والفلسطينيين. ويمكن لإسرائيل أنْ تستفيد من الوضع الناشئ، ومن تراجع قوة مصر وسورية لصالح تركيا والسعودية، من أجل تحسين علاقاتها مع الأخيرتين".

ويردّ الكاتب الإسرائيلي، والمعلق السياسي في صحيفة "هآرتس"، عكيفا إلدار على استنتاجات غيورا آيلاند، من زاوية أنها تستخف بقوة الثورات العربية وتبعاتها المحتملة على إسرائيل. حيث يؤكد إلدار أنّ "إسرائيل ستتأثر سلباً بالثورات العربية بفعل سيطرة الحركات الإسلامية عليها كونها الأكثر تنظيماً بين الفعاليات السياسية المشاركة بعملية التحول". ويرى أنّ "ما يجري في العالم العربي اليوم يبعد احتمالات التسوية بين الفلسطينيين وإسرائيل التي أضاعت ولا تزال سلسلة فرص لإنهاء الصراع في العقود الأخيرة".[vi]

ولا يثار التحفظ على مزاعم الجنرال آيلند من قبل النخب الليبرالية الإسرائيلية فقط، بل تتقاطع تلك التحفظات مع تحفظات مماثلة تبديها النخب السياسية اليمينية الإسرائيلية. ففي تصريح له حول الثورات العربية قال نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي سلفان شالوم: "إنّ الثورات العربية القائمة في المنطقة العربية كانت بمنزلة كارثة على إسرائيل، لاسيما بعد تنحي قادة كبار موالين للغرب ولإسرائيل مثل الرئيس المصري السابق حسني مبارك ونظيره التونسي زين العابدين بن علي". وأوضح شالوم أنّ "الربيع العربي أتى بقيادة عكس ذلك".[vii]

وبدوره حذّر وزير الجبهة الداخلية الإسرائيلية الجنرال إيال أيزنبرغ، خلال يوم دراسي خاص عقده "معهد أبحاث الأمن القومي" في جامعة تل أبيب، من أنّ "ما يسمى الربيع العربي يمكن أنْ يتحول إلى شتاء إسلامي متطرف، الأمر الذي من شأنه أنْ يزيد احتمال اندلاع حرب شاملة تكون مقرونة باستعمال أسلحة الدمار الشامل...".[viii]

وحول التأثيرات المباشرة للثورات والحركات الشعبية العربية، يتحدث طيف واسع من الأمنيين والاستراتيجيين الإسرائيليين عن أنّ ما يسمونه بالاضطرابات الإقليمية سيكون لها انعكاس بالغ على عمليات بناء القوة في الجيش الإسرائيلي، وبالتالي يتطلب من الجيش الإسرائيلي أنْ يكون أكثر مرونة، وجاهزية لمواجهة كافة الاحتمالات، ابتداءً من الحرب الكلاسيكية، مروراً بالمواجهات مع المقاومة وحرب العصابات، وانتهاءً بمواجهة ما يطلقون عليه بـ(زعزعة شرعية وجود الدولة العبرية عبر التظاهرات على الحدود).[ix]

ووفقاً لدراسة نشرها "مركز بيغن -السادات للدراسات الإستراتيجية" وأعدها مدير المركز البروفيسور "إفرايم إنبار" أستاذ العلوم السياسية في جامعة بار إيلان، تحت عنوان "الثورات العربية 2011 والأمن القومي الإسرائيلي"، خلقت الثورات العربية، وضعاً أمنياً هو الأكثر خطورة بالنسبة لإسرائيل منذ نهاية الحرب الباردة. وأضاف البروفسور إنبار في تقريره "الجو الأمني في إسرائيل هو الأسوأ الآن مما كانت عليه في أي وقت مضى من العقدين الماضيين، فماذا يمكننا أن نفعل حيال ذلك؟ ليس كثيراً. فلدينا القليل من النفوذ بعد التطورات في منطقة الشرق الأوسط، وأيضاً طموحات قليلة للانخراط في الهندسة السياسية، كل ما يمكننا القيام به هو الدفاع عن أنفسنا بشكل أفضل...".

وللخروج من الأزمة، يؤكد إنبار بأنه "يجب على إسرائيل أنْ تزيد من الاستثمارات العسكرية بشكل كبير، وقبل كل شيء، الحفاظ على علاقتها الوثيقة مع الولايات المتحدة. فإسرائيل ليس لديها خيار سوى مواصلة تعزيز شراكتها الإستراتيجية مع الولايات المتحدة، ومن المرجح أنْ تظل الولايات المتحدة القوة المهنية عالمياً لفترة طويلة وانخفاض قوتها في الشرق الأوسط، على الأرجح بشكل مؤقت...".

كما ويحدّد إنبار في تقريره عدداً من الاتجاهات العريضة لتأثيرات الثورات العربية في المستقبل المنظور يمكن تلخيصها في نقطتين رئيسيتين:

النقطة الأولى: "تراجع نفوذ الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وضعف الدول المتحالفة مع الغرب في المنطقة، فضلاً عن تضاؤل قوة العرب لصالح غير العرب، تركيا وإيران".

النقطة الثانية: "المشهد الإقليمي الجديد يحمل معه مخاطر لا تعدُّ ولا تحصى لإسرائيل تتجلى في مزيد من عدم اليقين حول سلوك قادة الدول المجاورة تجاه إسرائيل. زيادة الأنشطة الإرهابية. انخفاض قوة الردع الإسرائيلية والعزلة الإقليمية المتنامية. التهديدات المتصاعدة في شرق البحر المتوسط. استمرار التحدي النووي الإيراني".

وفي ختام تقريره يقدّم إنبار توصيات لصناع القرار في السياسة الإسرائيلي في التعامل مع هذه التغييرات، وتشمل: "زيادة نفقات الدفاع. زيادة حجم الجيش النظامي. زيادة الاستثمار في مجال الدفاع الصاروخي، وقوة سلاح البحرية، والبحث والتطوير...".[x]

لكن توصيات البروفسور إنبار في تقريره، حسب ما يراها خبراء إسرائيليون، لا تؤشر إلى حلول، إنما تؤشر إلى المعضلة التي ستواجهها إسرائيل في التعاطي مع تأثيرات الثورات العربية، فزيادة نفقات الأمن بشكل كبير تُفجِّر مخاوف من أنْ يسهم ذلك في تقليص معدلات النمو وبروز مظاهر الركود الاقتصادي، مما سيجد ترجمته في تراجع إجمالي الناتج المحلي الإسرائيلي بشكل كبير. وهذا يعني زيادة كبيرة في الحيز الذي تشغله موازنة الأمن في الموازنة العامة للدولة وإجمالي الناتج المحلي، أي إنّ إسرائيل،  وفقاً لهذه التوقعات، مهددة بالعودة إلى نفس الظروف التي مرّت فيها بعد حرب عام 1973، مع كل ما يعنيه هذا من استحالة النمو إلى ركود، واستفحال التضخم.[xi]

وبذلك، إنّ الوفاء بمتطلبات زيادة الموازنة الأمنية على المدى المتوسط والبعيد تبعاً لزيادة النفقات الأمنية بشكل كبير، سيفضي إلى خلل في الاقتصاد الإسرائيلي يتجلى في: "زيادة كبيرة على حصة موازنة الأمن من كل من الميزانية العامة وإجمال الناتج المحلي. تطبيق سياسة اقتصادية تقشفية وتقليص الاستثمار الحكومي في مجال الخدمات المدنية. فرض ضرائب جديدة وتقليص مخصصات الضمان الاجتماعي. توسيع قاعدة القوى البشرية في الجيش وتعاظم العبء على قوات الاحتياط سيصيب المرافق الاقتصادية بالشلل. تراجع معدلات النمو وتعاظم مظاهر الركود الاقتصادي، وازدياد معدلات البطالة. تراجع إجمالي الناتج المحلي". وهو ما سيؤدي إلى أنّ مظاهر الأزمة الاقتصادية المتوقعة ستعمل على تراجع إسرائيل كبيئة جاذبة للهجرة اليهودية والاستثمار، وقد تزيد من معدلات الهجرة العكسية.[xii]

وفي الشق السياسي من تأثيرات الثورات العربية، أكد عدد من الخبراء والسياسيين الإسرائيليين، أنّ الثورات العربية، وخاصة الثورة المصرية، تمثّل ضائقة إستراتيجية لإسرائيل، ستؤدي إلى تداعيات سياسية خطيرة تؤثر في الواقع الإسرائيلي بشكل مباشر. ومن هذه التداعيات حسب التصريحات والدراسات الصادرة من تل أبيب:

- ازدياد عزلة إسرائيل في المنطقة، بعد أنْ خسرت حليفها الأهم بعد انهيار حكم مبارك.

- القلق من نتائج الصراع بين "القوى الديمقراطية وقوى الإسلام الراديكالي" على قيادة مصر ما بعد الثورة، حسب قول رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي أبدى تخوفه من حسم هذا الصراع لصالح سيطرة الإسلاميين على الحكم في القاهرة.

- فقدان الدور الإقليمي الذي كان يلعبه الرئيس مبارك باعتباره "أحد أكبر أصدقاء إسرائيل"، وخسارة التوازنات الدقيقة التي كان يقودها في منطقة الشرق الأوسط، وكانت تصب في النهاية في مصلحة إسرائيل، حسب رأي وزير الأمن الإسرائيلي السابق بنيامين بن إليعازر.

- تضييق الهامش الذي كانت تتحرك فيه السياسة الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة، في ظل التوقعات بنشوء حكومات مختلفة في بعض الدول العربية، يكون للرأي العام الشعبي دور أكبر في تشكيل سياساتها، كما يرى المستشار السابق لرئيس الوزراء الإسرائيلي، دانييل ليفي، الباحث في شؤون الشرق الأوسط في معهد "نيو أميركا فاونديشن".

- الخوف من التحول التدريجي لمصر، لتصبح دولة إقليمية قوية على الطراز التركي، وهو ما يضع إسرائيل في مواجهة محور إقليمي يضم إيران وتركيا ومصر.

- القلق من استمرار حالة عدم الاستقرار في المنطقة العربية، حيث أكد عدد من المسؤولين الإسرائيليين، أنّ الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط هو أهم من الديمقراطية بالنسبة لإسرائيل.

- الخوف من قيام انتفاضة فلسطينية ثالثة، على غرار الانتفاضة الأولى، في الضفة الغربية وداخل الخط الأخضر، ولكن مع اكتساب زخم جديد من الثورات العربية، ومع مواكبة إعلامية كبيرة توفرها الفضائيات التي لم تكن موجودة إبّان سنوات الانتفاضة الأولى.[xiii]

ويعتبر العديد من الخبراء الإستراتيجيين الإسرائيليين أنّ التحديات الأساسية أمام إسرائيل بعد الثورات العربية، توضع ضمن مستويين:

الأول يتعلق بمصر مباشرة، والثاني يتعلق بالنتائج العامة على مستوى الشرق الأوسط، حيث أنه (إذا قام في مصر نظام ديمقراطي معتدل، فإنّ الوضع الجديد يضع إسرائيل في مواجهة مشاكل صعبة، وأبسط طريقة للتعبير عن ذلك هو استبدال اليقين بالشك أو بعدم اليقين). ولعل أبرز معضلة تواجه النظام الجديد حفاظه على معاهدة السلام، فماذا إن جاء الأسوأ، وهو إذا خرقت مصر المعاهدة فسوف يكون من الصعب على إسرائيل أن تقنع أميركا بالتدخل، ولا يمكن لإسرائيل أنْ ترد دون التسبب في صدام. ولكن يبدو -وفقاً لوجهة النظر السابقة- أن سياقات الأمور متجهة إلى إبقاء الأمور على ما هي عليه، على الأقل في الفترة القليلة المقبلة؛ فالحزب الإسلامي الذي شكله الإخوان (الحرية والعدالة) وفاز في الانتخابات البرلمانية قد أشار إلى احترامه الاتفاقات الدولية الموقعة.

وبالنسبة للمستوى الثاني، ستقوض الانتفاضات الاستقرار في الدول التي لا تعادي إسرائيل أكثر من دول أخرى، مثل الأردن ومناطق السلطة الفلسطينية، ويقدّم أنصار هذه الرؤية نظرة متشائمة ليس فيها بصيص من الأمل، حيث ينبهون إلى أنّ انهيار حكم مبارك وضع إسرائيل في ضائقة إستراتيجية بعد أنْ صارت بدون أصدقاء في الشرق الأوسط، فقد انهار التحالف مع تركيا في العام 2010، والآن ستجد إسرائيل صعوبة في الاعتماد على مصر، فالعزلة المتعاظمة في المنطقة، وضعف أميركا الظاهر، سيجبران إسرائيل على البحث عن حلفاء جدد.[xiv]

ويرى عوديد عيران، رئيس "معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي" أنه منذ التوقيع على معاهدة "كامب ديفيد" عام 1979، وحتى اندلاع المظاهرات المطالبة بالتغيير في ميدان التحرير في الخامس والعشرين من يناير الماضي لم تطرح أي علامات استفهام حول مدى التزام مصر المعاهدة على الإطلاق. ويشير عيران إلى إنّ النظام المصري فاجأ إسرائيل عندما صمدت معاهدة "كامب ديفيد"، في الوقت الذي قامت إسرائيل بقصف المفاعل الذري العراقي عام 1981 وغزت لبنان عام 1982، وفي خضم الانتفاضة الفلسطينية 1988، وانتفاضة الأقصى 2000، وكذلك حرب لبنان الثانية 2006، وحرب غزة 2008-2009، بل إنّ مصر بدلاً من الاحتجاج الحقيقي على سلوك إسرائيل، حرصت على تهدئة الأطراف العربية عندما أثارت الممارسات الإسرائيلية أعصاب العالم العربي. ولا يستبعد عيران تخلي مصر عن اتفاقية "كامب ديفيد"، مستنداً في حكمه هذا إلى نتائج استطلاع للرأي العام أجراه معهد "the Pew Research Center"، التي أظهرت أنّ 54% من المصريين يرون وجوب إلغاء معاهدة "كامب ديفيد"، مقابل 36% رأوا وجوب الحفاظ عليها.

ويذهب دان إلدار، الذي تولى في السابق مناصب قيادية في جهاز "الموساد" ويعمل حالياً محاضراً لدراسات الشرق الأوسط في جامعة تل أبيب، إلى ما ذهب إليه عيران. مشيرا في نقاشهً إلى إنّ غياب نظام الرئيس مبارك سيسمح بالتعبير عن "عداوة إسرائيل الراسخة عميقاً في الوعي الجمعي للمصرين". وهو لا يستبعد أنْ يؤدي اندماج الإسلاميين في الحياة السياسية المصرية إلى تحالفهم مع قادة الجيش، متوقعاً أنْ يسهم مثل هذا التحالف في التعجيل بوضع حدٍّ لمعاهدة "كامب ديفيد".

أما المستشرق إلكساندر بلي فيرى أنّ نظام الحكم القادم في مصر لن يلجأ إلى إلغاء معاهدة "كامب ديفيد"، حتى لا يخسر الشرعية الدولية، لكنه في المقابل سيعمل على إضعافها على نحو تقع المسؤولية فيه عن إلغائها على إسرائيل، وهو يدعي أنّ اندلاع الثورات العربية ينذر بكارثة ستحلّ بالتجارة الخارجية الإسرائيلية عبر التحذير من إمكانية إغلاق الممرات البحرية أمام التجارة الخارجية لإسرائيل.[xv]

ويُوصّف المستشرق "يوسي فيرتر" الحراك الجاري بالمنطقة على أنه "تسونامي" عربي يضع إسرائيل في بيئة غير مستقرة، ويدعو لمراقبة الوضع بأعين واعية، ولتجهيز القوات والترتيبات الأمنية تحسباً لخرق المعاهدات، أو لحدوث تغيير في السلطة في الجانب العربي.

بينما يؤكد الباحث الدبلوماسي الإسرائيلي "إيتمار لافين" أنّ التحولات الجارية تتطلب من الدولة العبرية قدراً كبيراً من "التأهب التكتيكي والاستراتيجي" على صعد مختلفة. بينما يرى البروفسوران "افرايم ياعر وتمار هيرمان" أنّه مع صعود القوى الإسلامية للحكم في مصر، سيبقى اتفاق السلام قائماً، ولن يلغى رسمياً، لكن العلاقات سوف تُضَعضع، وينشأ وضع "اللاسلم واللاحرب".[xvi]

كما يُشكل تعثر عملية "التسوية" عاملاً محفِّزاً لنزع الشرعية عن إسرائيل في الفضاء الغربي في حال استمرار حالة "الثوران" في المنطقة، والذي قد يكون عاملاً مساعداً في تزايد حالة العزلة على إسرائيل. ولعل محاولات إسرائيل الدفع باتجاه استئناف عملية "التسوية" في العاصمة الأردنية (عمان)، مطلع العام 2012، هو أحد الخيارات المطروحة للالتفاف أو التخفيف من الآثار السلبية والتداعيات العديدة على عليها، وتخشى النخب السياسية الإسرائيلية من أنْ يُنظر إلى إسرائيل على أنها عامل مزعزع للاستقرار في المنطقة بسبب عدم التوصل إلى "تسوية" مع السلطة الفلسطينية، وهذا ما عبّرت عنه تسيبي ليفني من خلال كلمة ألقتها في مؤتمر هرتسليا العام 2011. وبغياب عملية التسوية تزيد بشكل ملحوظ حدّة "الحرب الناعمة" ضد المؤسسة الإسرائيلية في الساحة الدولية، من أجل نزع الشرعية عن السياسة العسكرية والدبلوماسية الإسرائيلية، أو ما يسمى في الخطاب السياسي الإسرائيلي (حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ووجودها).[xvii]

وربما تكون الإشارة الأقوى على المأزق الإسرائيلي هي تلك التي أصدرها الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز في افتتاح مؤتمر "هرتسليا للمناعة والأمن القومي الإسرائيلي"، 31/1/2012، إذ عبر بيرس عن تشاؤمه من الوضع الدولي لإسرائيل معتبراً أن "العالم بصورته المعروفة آخذ في الاختفاء، فيما صورته الجديدة لا تزال غير واضحة"، مشيراً إلى أنّ "أطراً دولية ضعفت، حكومات فقدت قوتها، والقومية إلى تراجع، فيما العالمية تهرول إلى الأمام". ولفت بيريز في كلمته إلى أنّ "هناك اقتصاديات راسخة تنهار فجأة من دون أي تفسير أو حل واضح"، وأضاف: "لقد عدت للتو من مؤتمر دافوس، وهذه هي المرة الأولى التي كان في المؤتمر علامات استفهام أكثر مما كان هناك علامات تعجّب".

ونبّه بيريز إلى أنّ "إسرائيل من الناحية السياسية غارقة في عالم قديم، عالم الأمس"، في سياق تطرقه إلى موقعها ضمن التغييرات العالمية، أكد بيريز أنّ "لا أحد يعلم كيف ستنتهي الاحتجاجات التي شهدها العالم العربي"، مشيراً إلى أنّ "قوى إسلامية متطرفة في كل من مصر وتونس قد صعدت إلى الحكم وعززت قوتها".

يتضح مما تقدّم، إنّ الاتجاه السائد في تحليلات الإسرائيليين يشدّد على أنّ الثورات العربية تنذر بتغيير البيئة الإستراتيجية لإسرائيل، وهو ما يوجب عليها الإقلاع عن الأحكام السابقة، التي كان فيها الفكر السياسي الإسرائيلي أسير صورة رسمها للحراكات الشعبية العربية السابقة، وقدرة الأنظمة العربية في الغالب على كبحها، دون إدراك عمق التراكمات المتمثلة في التغيرات التي أصابت المجتمع العربي خلال الفترة من 1973 إلى الآن.

وعلى حدّ وصف المفكر الفرنسي آلان جريش، إنّ الدرس الذي يجب أن تتعلمه إسرائيل من الثورات العربية هو أنه "لا يمكن العودة للوراء مهما حدث، ومهما واجهت هذه الثورات من مصاعب. لأن التجربة أثبتت أنّ الشعوب هي صاحبة القرار في النهاية، وأنّ المستقبل في يد الشعوب، وهو الدرس الذي تعلمناه من الثورة العربية"،[xviii] وهذا يعني أنّ إسرائيل ملزمة بتغيّر سياساتها على نحو جذري، حيث لم يعد من الممكن الاستمرار في السياسات السابقة، والتي باتت الأكثر تطرفاً في السنوات العشر الأخيرة، فالأحزاب أكثر يمينية، وكذلك المجتمع نفسه، وقواعد نتنياهو لحل الصراع العربي-الإسرائيلي معناها حرب للأبد...

-----------------------

*د.سامر راشد: خبير في العلاقات الدبلوماسية الدولية، ومختص في شؤون العلاقات الروسية بالشرق الأوسط، مقيم في موسكو.



[i]أنظر وقائع ندوة مركز دراسات الشرق الأوسط، "أثر الثورات العربية وتفاعلها الإقليمي والدولي على القضية الفلسطينية ومستقبلها"، الرابط: www.mesc.com.jo/Activities/Act_Sem/.../mesc-12-25.html

[ii]أنظر مجلة السياسة الدولية-الأهرام، آلان جريش يحلل تأثيرات الثورات العربية في إسرائيل، الرابط: www.siyassa.org.eg/.../6/.../-

[iii]أنظر تقرير وليد عبد الحي، "إسرائيل: حيرة أمام الثورات العربية المعاصرة" مركز الزيتونة للدراسات، الرابط: www.alzaytouna.net/permalink/5608.html

[iv]صحيفة هآرتس 25/3/2011.

[v]دراسة صادرة عن معهد دراسات الأمن القومي في جامعة تل أبيب.

[vi]أنظر صحيفة الخليج الإماراتية، تقرير وديع عواودة-حيفا، 27/2/2012.

[vii]أنظر وكالة الشرق الأوسط الإخبارية، الرابط: Wed, 28-09-2011 - 7:

[viii]صحيفة يديعوت، 7/9/2001.

[ix]أنظر مقالة عبد الرحمن فرحانة، "إسرائيل والربيع العربي: التقديرات والمواقف"، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 28/12/2011.

[x]المرجع موقع عكا أون لاين، الرابط: www.akka.ps/ar/?event=showdetail&seid=14286

[xi]المرجع السابق.

[xii]للمزيد أنظر مقالة صالح النعامي، نفقات الأمن الإسرائيلي في ظل الثورات العربية، الرابط: www.naamy.net/view.php?id=1104

[xiii]المرجع تقرير فراس أبو هلال، الموقف الإسرائيلي من الانتفاضة العربية الكبرى، مركز الزيتونة للدراسات، الرابط: www.alzaytouna.net/permalink/5608.html

[xiv]أنظر مقالة "الموقف الاستراتيجي الأمريكي الإسرائيلي من التحولات السياسية في المنطقة العربية"، موقع الجزيرة نت، 23/11/2011.

[xv]أنظر مقالة صالح النعامي "نفقات الأمن الإسرائيلي في ظل الثورات العربية".

[xvi]المرجع هيثم مقالة محمد أبو الغزلان، إسرائيل في ظل التحولات والمخاطر الإستراتيجية، صحيفة الأهرام، 2/12/2011.

[xvii]المرجع السابق.

[xviii]المرجع أنظر مجلة السياسة الدولية-الأهرام، آلان جريش يحلل تأثيرات الثورات العربية في إسرائيل.