بين "الربيع العربي" والقضايا القومية

بقلم: جوزف أنطونيوس*

بعد مرور ما يقرب العام على مقتل العقيد الليبي معمر القذافي (20 تشرين الأول/أكتوبر 2011[1])، الذي كان نظامه آخر الأنظمة الثلاثة التي نجح ما سُمِّي "ربيعاً عربياً"[2] في إسقاطها، لا بدّ من النظر إلى ما حققته الانتفاضات العربية حتى الآن، وخصوصًا في البلدان الثلاثة المعنية.

بداية، ثمة ما يجب التوقُّف عنده، وهو الحدث الذي خُتمت به الثورة الليبية (أو لنقل: الحرب الأهلية الليبية). أقُتِل القذافي أم أعدِم؟ هو السؤال الذي لا بدّ من طرحه؛ إذ تعددت الروايات في شأن مقتله، إحداها تقول إنه أصيب في قصف لقوّات حلف شمال الأطلسي (الناتو)، فاختبأ في أنبوب للصرف الصحّي وخرج حاملًا مسدسًا سائلًا عما يحصل، فتعرض لإطلاق نار واعتُقل ولم يتحمل الإصابة بسبب مرضه، فمات. بينما تؤكد رواية أخرى في الوقت عينه، أن "ثوار" مصراتة قتلوه وحدهم،[3] واللافت هنا أن بيان حلف شمال الاطلسي في هذا الخصوص لم يؤكد وجود القذافي في الموكب الذي قُصف، وهو ما عزّز غموض دور الحلف في العملية.[4]

من ناحيتها، حاولت صحيفة (ذا تايمز) البريطانية تحليل اللحظات الأخيرة من حياة القذافي، فتوصلت إلى أن طائرة فرنسية قصفت موكبًا من إحدى عشرة سيارة من دون أن تعرف أنه موكب القذافي، وأن عشرين مقاتلًا لجأوا مع "العقيد" إلى أنابيب الصرف الصحي، قبل أن يعثُر عليهم "الثوار". وتؤكد الصحيفة أمرين: الأول بأن القذافي أصيب برصاصة في معدته، والثاني، "أن الصور التي نُشرت بعد تنظيف رأسه تُظهر نقطتي دخول الرصاصتين بدقة",[5] ما يرجِّح ــ برأي كاتب هذه السطور ــ أن يكون القذافي قد تعرض لإعدام فوري (وهذا ما لا تُؤكّده الصحيفة)، وخصوصًا أن الفيديو يُظهر مسدسًا موجَّهًا إلى رأسه قبل أن ينقطع التصوير على حين مفاجئ.

ما يفاقم من ريبة الأمر، أن جثّة القذافي مدفونة في مكان سرّي،[6] الأمر الذي يعيق إعادة نبش القبر وإجراء التحقيق الملائم في مقتله؛ وأن الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون كان مستعجلًا لـبدء "حقبة جديدة"، مؤكدًا أن مقتله "يوم تاريخي للشعب الليبي"،[7]  وفي ذات إطار التوجه المماثل نستطلع إلى جانب بان كي مون كلا من رئيسي الوزراء الإنكليزي والإيطالي، مضافا إليهما الرئيس الأميركي، حيث جهدوا جميعاً بالحديث عن مستقبل ليبيا بدلًا من إدانة القتل.[8] وحدهما المفوضية العليا لحقوق الإنسان،[9] ومنظمة العفو الدولية طالبتا بالتحقيق.[10] هذا بالطبع علاوة على أفراد من أسرته. بل إن إدانة الطريقة الهمجية التي قُتل بها، شبه غائبة على المستوى العربي، رسميًا وشعبيًا، كأن المقتول ليس إنسانًا، وهو ما كان يُروّج له الإعلام منذ قيام تظاهرات شباط/فبراير2011.

لماذا إذًا قُتل القذافي؟ حتى لا يثير الفضائح التي أثارها الرئيس العراقي المخلوع صدّام حسين إذا ما حوكِم؟ سؤال تُترك الإجابة عنه للتاريخ.

كان ضروريًا الحديث عن مقتل القذافي قبل النظر إلى المستقبل، إلى السياسات التي يبنيها جيل خلال وما بعد الثورات. كيف ينظر نظام الحكم الليبي الجديد إلى القضايا القومية؟ أين موقع ليبيا "ما بعد 17 فبراير" من قضايا العالم العربي؟

انطلاقاً وبنشوء الوضع الليبي الجديد، تحدّثت الصحف الإسرائيلية عن اتصالات إسرائيلية ــ ليبية سرّية، ترمي لإقامة سفارة إسرائيلية في ليبيا، ومن هذه الأحاديث الصحفية ما قدمته "هآرتس"، التي نقلت عن أحمد شعباني،[11] المتحدث باسم المجلس الانتقالي الليبي، حديثه عن (ضرورة إقامة علاقات مع إسرائيل)؛ أما ال "جيروزاليم بوست"، التي تحدّثت عن ضرورة (تسريع العلاقات الإسرائيلية ــ الليبية التي لا مفرّ منها).[12] هذه الاتصالات، إن صحّت، فهي تُظهر المستفيد الأول من "الثورة"، دونما تجني أو مواربة، كما تُظهر تماهيًا ما بين السياستين الليبية والمصرية، لناحية مهادنة إسرائيل، بل أكثر من ذلك، أي الارتماء في أحضانها. وللحديث عن "مصر ما بعد الثورة" مكانه عبر هذه المقالة (وهذا العدد ايضا).

ثمّة ما يمكن تسميته خيبة الأمل من سياسات ليبيا ما بعد الثورة، فبعد وصول الإسلاميين إلى الحكم، وبعد سقوط الطاغية، كان من المفترض أن تتبدّل سياسة ليبيا، بالحد الأدنى، من سياسة طأطأة الرأس التي مارسها القذافي، إلى سياسة رفع الرأس في وجه من يُفترض أنه العدوّ. لكن هذا خلاف ما وقع، فالجماهير نزلت إلى الشارع للتنديد بفيلم سخيف، حتى في مستوى  المحاكمة الفنية أيضًا، مسيء للرسول مدّته أقل من ربع ساعة، وقتلت السفير الأميركي،[13] وفتحت المجال للولايات المتحدة للتدخل في التحقيق بمقتله، للملاحظة العابرة: إن مستشار البيت الأبيض لشؤون مكافحة الإرهاب جون برينان يزور ليبيا لحظة الشروع بكتابة هذه المقالة،[14] وتحريك قوات المارينز على شواطئ ليبيا.

 هذه الجماهير نفسها لم تحرّك ساكنًا لدى اعتداء المستوطنين على المسجد الأقصى بحماية جنود الاحتلال،[15] كأنّ العقول المخدَّرة بـ (الدِين) تتوقف عن التفكير في السؤال القومي، فحتى أولى القبلتين ومسرى الرسول لا يُحرّكها إذا ما كان في الأمر دفاع عن فلسطين؛ وتعمل وفق أجندة خلق الذرائع للصراع الأميركي ــ الفرنسي على ليبيا، وتقسيم البلاد إلى شرق وغرب، وقد بدأت فعلًا عبر خطوة إنشاء ما بات يعرف عنه ب (مجلس إدارة شؤون المحافظة).[16]

ما ينطبق على ليبيا، ينطبق ما هو أخطر منه على مصر؛ فـ"الإسلاميون"، الذين اغتالوا الرئيس المصري أنور السادات في يوم 6 تشرين الأول/أكتوبر 1981، عادوا وكرّموه على يد الرئيس المصري الحالي محمد مرسي، الذي أصدر "قرارًا جمهوريًا قضى بمنح الرئيس الأسبق محمد أنور السادات قلادة النيل العظمى ووسام نجمة الشرف، تقديراً لقراره التاريخي في حرب أكتوبر 1973"!. اللافت في هذا المنحى أن مرسي لم يكرِّم الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر في ذكرى ثورة 23 تموز/يوليو 1952.[17]

بعد انتصار الثورة المصرية في 11 شباط/فبراير 2011، علت الآمال بعودة مصر رأسَ حربة في مواجهة العدوّ. وتعززت هذه الآمال لدى تفجير أنابيب الغاز أكثر من مرّة،[18] والتظاهر ضدّ السفارة الإسرائيلية في القاهرة،[19] ومطالبة محمد سيف الدولة، مستشار مرسي، بـ"تعديل اتفاقيه كامب ديفيد"، مشيرًا إلى "أن هذه الاتفاقية تحفظ أمن إسرائيل وتتهدد الأمن القومي المصري".[20] إلا أن هذه الآمال نُسفت في نيويورك، عندما صرّح ياسر علي، المتحدث باسم مرسي، "أنه لا حاجة حاليًا إلى تعديل اتفاقية كامب ديفيد"![21] كأنّ (التعليمة) أعطيَت في نيويورك، مثلما كانت قد أُعطِيَت قبلًا للتخلُّص من السادات بعد انتهاء دوره.

من ثم ماذا على العربي أن يتوقَّع من عقلية سياسية تقترح تشريع الزواج من فتاة بعمر التاسعة، أو بعبارة أخرى تشريع البيدوفيليا!؟ ماذا يتوقّع من عقلية ثيولوجية تُصدر فتوى بتحريم ركوب الدرّاجة لأنها تُثير الفتاة جنسيًا؟ "وماذا عن المختونات؟، بهذه العبارة سخرت إحدى الناشطات بسوداوية حزينة مضحكة!

أما في تونس، مُطلِقة الانتفاضات العربية، فما زال لرفض التطبيع قوّة أكثر فعلًا، مع أن زعيم حركة النهضة التونسية راشد الغنوشي أثار جدلًا كبيرًا حين نُسب إليه تصريح إلى إذاعة "صوت إسرائيل".[22] ومهما يكن مضمون حديثه، فمجرَّد حديثه إلى إعلام العدوّ يجعله وسطيًا في الصراع العربي ــ الإسرائيلي، وسطيًا بين الظالم والمظلوم. ومع أن نجيب الغربي، المسؤول عن قسم الإعلام بحركة النهضة، نفى الأمر، إلا أن لا أحد يستطيع أن ينفي مثلًا قول الغنوشي: "إن دستور تونس الجديد لن يحوي على مواد تدين إسرائيل"، وهو ما نقلته مجلة "ويكلي ستاندارد" الأسبوعية الأميركية، من دون أن ننسى أن كلامه هذا جاء على هامش ندوة شارك فيها في معهد واشنطن للدراسات المؤيد لإسرائيل.[23] لكن توقُّعات الغنوشي لم تصحَّ، لأن المجلس الوطني التأسيسي في تونس صادق على سنّ بند في الدستور الجديد يُجرِّم التطبيع مع الكيان الصهيوني والصهيونية.[24]

قد يكون في التميُّز التونسي هذا تفسير أو تأكيد لما كتبه محمود محارب في شأن ما تخشاه إسرائيل من الثورة التونسية؛[25] إذ رأى أن الثورة التونسية قد تتسبب بقطع العلاقات "غير الرسمية" بين تونس وإسرائيل، كما رأى أن إسرائيل تخشى أن تكون تونس نموذجًا تحتذي به الشعوب العربية الأخرى، فتنتشر الديمقراطية في العالم العربي، وهو ما يُعَدُّ قاتلًا للكيان الصهيوني. استند هذا التحليل إلى المخاوف الإسرائيلية بُعيد انتصار الثورة التونسية، ونُشر في 6 شباط/فبراير 2011، أي حتى قبل انتصار الثورة المصرية. هذه المخاوف يجب أن تؤخذ في الحسبان لفهم طريقة تعاطي إسرائيل مع الثورات العربية، ولفهم السبب الذي جعل الأميركيين يدعمون وصول الإسلاميين إلى الحكم، وتراخي النظامين الليبي والمصري الجديدين في التعاطي مع إسرائيل، وتخبُّط النظام التونسي الحالي في هذا الشأن، بين التطبيع، والاستجابة لما يريده الشعب.

-----------------

*جوزف انطونيوس:صحافي لبناني ومحرر في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.



[1] موقع «الجزيرة.نت»، معمر القذافي، <http://www.aljazeera.net/news/pages/a8fa00c0-b0ad-4c0f-8d12-0e40b300fb2a>

[2] تسمية لا يتبناها كاتب هذه المقالة، أطلقها الباحث الفرنسي بينوا ميشان في كتاب بعنوان الربيع العربي، وعادت إلى الظهور فجأة في الإعلام الغربي مع الانتفاضات العربية الحديثة. انظر: «’الربيع العربي‘.. تسمية تعود إلى خمسينيات القرن الماضي»، على الرابط الإلكتروني: <http://www.marocpress.com/almassae/article-97076.html>.

[3] اعتمد كاتب المقالة هنا على عدد من المصادر، لكن الأكثر تفصيلًا منها (من دون أن يكون شاملًا): موقع «الجزيرة.نت»، «كيف قتل القذافي؟»، <http://www.aljazeera.net/news/pages/d87f4c62-2c66-4504-b458-4bbc2d2b6cc3>.

[4] Financial Times, «Confusion over Nato role in Gaddafi death», <http://www.ft.com/intl/cms/s/0/af362fc0-fb2e-11e0-8756-00144feab49a.html#axzz28teWxFMi>.

[5] Laura Pitel and Roger Boyes, «A tyrannicide for the 21st century: how hi-tech and hate killed Gaddafi», <http://www.thetimes.co.uk/tto/news/world/middleeast/article3202989.ece>.

وباللغة العربية:

جريدة القدس اللندنية، «’ذي تايمز‘ تصف لحظة بلحظة كيف قتل معمر القذافي بالتكنولوجيا والكراهية»، <http://www.alquds.com/news/article/view/id/303775>.

[6] موقع «الجزيرة.نت»، «دفن جثمان القذافي بصحراء ليبيا»، <http://www.aljazeera.net/news/pages/10cea599-0873-4e3f-97dd-471352e9c896>.

[7] صحيفة المصريون، «بان كي مون: مقتل القذافي هو يوم تاريخي للشعب الليبي»، <http://www.almesryoon.com/news.aspx?id=83129>.

[8] انظر موقع «روسيا اليوم» على الرابط الإلكتروني: <http://arabic.rt.com/news_all_news/news/569584>.

[9] موقع «بي بي سي»، «مفوضية حقوق الإنسان تطالب بالتحقيق بظروف مقتل القذافي»، <http://www.bbc.co.uk/arabic/multimedia/2011/10/111021_gaddafi_killing_questions.shtml>.

[10] موقع «يو بي آي»، «منظمة العفو الدولية تدعو إلى التحقيق في كيفية مقتل القذافي»، <http://arabic.upi.com/News/2011/10/21/UPI-30911319212792>.

[11] جريدة صدى البلد اللبنانية، «أول سفير لإسرائيل في ليبيا يزور طرابلس قريبًا»، <http://www.el-balad.com/8744.aspx>.

[12] The Jerusalem Post, «Accelerating inevitable Israeli-Libyan relations», <http://www.jpost.com/Opinion/Op-EdContributors/Article.aspx?id=243069>.

[13] جريدة الأخبار اللبنانية، «’غزوة بنغازي‘ تودي بالسفير الأميركي»، <http://www.al-akhbar.com/node/167055>.

[14] جريدة المصري اليوم، «مصدر ليبي: مستشار البيت الأبيض لشؤون مكافحة الإرهاب يزور ليبيا الثلاثاء»، <http://www.almasryalyoum.com/node/1163511>.

[15] موقع «الجزيرة.نت»، «إصابة خمسة باقتحام قوات الاحتلال للأقصى»، <http://aljazeera.net/mob/f6451603-4dff-4ca1-9c10-122741d17432/7d251b03-1729-4ad9-976a-a0a19e4746b4>.

[16] موقع «العربية»، «برقة تستقل ذاتيًا وسط مخاوف من تقسيم ليبيا»، <http://www.alarabiya.net/articles/2012/03/06/199010.html>.

[17] جريدة السفير اللبنانية، «مرسي يكرّم الســادات!»، <http://www.assafir.com/Article.aspx?EditionId=2273&ChannelId=54554&ArticleId=606&Author=>.

[18] جريدة المصري اليوم، «تفجير خط الغاز بسيناء للمرة الـ15.. والأولى في عهد مرسي»، <http://www.almasryalyoum.com/node/1001546>.

[19] موقع «الجزيرة.نت»، «مظاهرة لإغلاق سفارة إسرائيل بمصر»، <http://www.aljazeera.net/news/pages/edeecbaf-d752-4087-a38e-a42d183d60ea>.

[20] جريدة الوفد المصرية، «مستشار مرسي: كامب ديفيد تحفظ أمن إسرائيل»، <http://www.alwafd.org>.

[21] جريدة المصريون، «ياسر علي: لا حاجة حاليًا لتعديل اتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل»، <http://www.almesryoon.com/permalink/29166.html..

[22] جريدة الأخبار اللبنانية، «بين الغنوشي والصحافي الإسرائيلي: من نصدّق؟»، <http://www.al-akhbar.com/node/34119>.

[23] The weekly Standard, «Rached Ghannouchi: A Tunisian Islamist Looks to the Future», <http://www.weeklystandard.com/keyword/Rached-Ghannouchi>.

[24] موقع «قناة العالم الإخبارية»، «تونس تقر مبدأ تجريم التطبيع مع الكيان الإسرائيلي»، <http://www.alalam.ir/news/1236294>.

[25] محمود محارب، «ما الذي تخشاه إسرائيل من الثورة التونسية؟»، موقع المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، <http://www.dohainstitute.org/release/fbf11d47-9b17-4c5c-9f71-b87188428834#a3>.