دون الميثاق وبرنامج المقاومة ما حاجتنا لإعادة بناء المنظمة؟

بقلم: وسام رفيدي*

كليشيه جديد أضيف للكليشيهات المعروفة في الخطاب اليومي الفلسطيني، هو إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية، فقد غدا لازمة تتردد في البيانات والتصريحات والبرامج المعلنة والمؤتمرات والتقارير الصحفية، والأهم أنه يقدّم كما لو كان الدواء الشافي للأزمة المركبة للنضال الوطني الفلسطيني، أزمة الانقسام وأزمة عدم إنجاز المهام، لا بل أزمة وضع المشروع الوطني برمته في مهب الريح.

أما ماذا يعنون بإعادة بناء منظمة التحرير، فبالأساس هو إجراء عملية انتخابية، حقيقية، للمجلس الوطني الفلسطيني، ولا أعرف متى يمكن لأي انتخابات أن تكون حقيقية، أصلاً، بضم ممثلي حماس والجهاد إليها وتفعيل مؤسساتها، أي مدخل تقني أساسا. وعادة ما يتم إلحاق هذا الشرح بالتأكيد على ضرورة بنائها على قاعدة البرنامج الوطني، أي برنامج تقرير المصير والعودة والدولة الفلسطينية المستقلة، الكليشيه الأساس لكل الكليشيهات الدارجة!

أما أن منظمة التحرير فقدت الاهتمام الشعبي بوجودها ودورها وبرنامجها، على الأقل داخل الوطن، فتلك مسألة لا نعتقدها تحتاج لكثير من البراهين. فهنا، في الداخل الفلسطيني، سيد الموقف هو سلطة أوسلو لا المنظمة. وحتى في الخارج تراجع الالتفاف حولها بعد توقيع اتفاقية أوسلو بدليل الشروع بمبادرات لتشكيل هياكل تمثيلية مثل لجان حق العودة، ولجان ومؤتمرات تمثيلية للجاليات، وذلك ما كان ليتم لولا الشعور أن المنظمة، الممثل الشرعي والوحيد المعترف به، ما عاد أصلاً يقوم بدوره التمثيلي ولو بحده الأدنى والمرتكز على: التمسك بالحقوق الوطنية التاريخية والنضال من أجلها. إن تأكيد تلك الهياكل على اعتبار المنظمة ممثلا شرعيا لا يعني بالضرورة انتفاء ممكنات الاستنتاج ما لتشكيلها من موقف من خط قيادة المنظمة وما آلت إليه.

 منهجية الاستبدالية

يصعب بتقديرنا فهم ما آل إليه النضال الوطني دون فهم تلك المنهجية التي نعتقدها كانت الأساس في خلق ميكانيزمات التغيير، غير الإيجابي على أية حال، ونعني منهجية الاستبدالية: برامج وآليات وهياكل تستبدل برامج وهياكل وآليات. وما قد يبدو سياقاً موضوعياً للنضال الوطني قاد بالضرورة، رغما عن إرادتنا، لهذه الاستبدالية، هو في الحقيقة نتاج قرار سياسي/ طبقي اتخذ شكل الحلف بين قيادة منظمة التحرير البيروقراطية والرأسمال الفلسطيني المقيم في الخارج. هذا الحلف جرى تدعيمه باندراج الهياكل التنظيمية الفصائلية بنسب متفاوتة ما بين فصيل وآخر، في الداخل في التحالف الجدي لتحقيق الوظيفة الأمنية الأساس لنشوء السلطة (او ما يحلو للبعض تسميته الالتزام بالاشتراطات الأمنية): إنهاء المقاومة المسلحة والحفاظ على وتيرة مضبوطة أمنياً للإحتجاج الفلسطيني بحيث لا يصل لمستوى المقاومة الفاعلة، حتى لو كانت مجرد اشتباك شعبي عند الحواجز. ذلك كان السياق وتلك كانت التحالفات، وهي بقرار فلسطيني ومدعوم من الرجعية العربية (ما اصطلح على تسميته بمحور الاعتدال) ، وبقيادة مصر تحديداً، ومباركة الصهاينة والإمبرياليين. وذلك السياق توج سلسلسة الاستبدالات التي كان بعضها، كما سنلحظ، قد شُرع به من ذي قبل تهيئة للنتائج المرجوة: مصالحة الاستعمار الصهيوني في فلسطين.

الاستبدال الأول

وقد شُرع به، وبتوجه واعٍ، منذ العام 1974، عام طرح البرنامج المرحلي وبرنامج السلطة الوطنية، كبديل فعلي لا كلامي، لبرنامج تحرير فلسطين. ليس من نقاش، من حيث المبدأ، في منطقية وعملية مرحلة العملية النضالية، ولكن الإشكالية تكمن في قيام قيادة تلك العملية من قوى اليمين السياسي بتحويل المرحلية لإستراتيجية، ومن ثم مرحلة المرحلية، حتى بات فتح شارع هنا أو هناك أقصى انجازاته "النضالية". كانت الإشكالية هنا بالذات، خاصة عندما تبرع اليسار بتقديم التخريجات النظرية للبرنامج الجديد، لا بل تفاخر بواقعية برنامجه الذي صار برنامج الحركة الوطنية!

لقد تسلسل الفكر السياسي من تحرير فلسطين مروراً بسلطة وطنية ودولة مستقلة حتى دولتين لشعبين بما يتضمنه من اعتراف بشرعية الكيان الصهيوني، وفي كل الحالات كان برنامج/ شعار التحرير هو الضحية، والأهم من ذلك أن الطرف الفلسطيني قام، واستجابة للمطلب الصهيوني والامبريالي، بشطب الميثاق، في "حفلة" تنازلية صاخبة اسمها اجتماع المجلس الوطني في العام 1996. إن شطب الميثاق كان يعني برنامجيا شطب فلسطين التاريخية لإحلال فلسطين جديدة أوسلوية إسمها الضفة والقطاع، بما يعنيه ذلك من اعتراف بكيان الصهاينة، وأيضا شطب الكفاح المسلح. إن شطب الميثاق شطب للرؤية الوطنية التاريخية للشعب الفلسطيني كشعب.

الاستبدال الثاني

وقد أُعلن عنه صراحة بإهالة التراب على برنامج المقاومة واستبداله ببرامج المفاوضات. كانت رسالة أبو عمار لرابين في العام 93 وكجزء مكمل لاتفاقيات أوسلو صريحة: إدانة أعمال العنف والإرهاب! كانت بمثابة صفعة لتاريخ الكفاح المسلح الفلسطيني وإعلاناً بأن المفاوضات والصفقات التسووية هي الطريق. ومع أن الراحل أبو عمار ظل يلجأ للمقاومة المسلحة، واهماً بأنه يحسن أوراقه التفاوضية، إلا أن القيادة المتنفذة حاليا أعلنت تبرؤها من المقاومة المسلحة متعهدة صراحة بلجم إمكانية قيام انتفاضة ثالثة بدعوى رفض الفلتان الأمني.

ويخطئ من يعتقد أن الاستبدالية طالت الكفاح المسلح فقط؛ بل وكل أشكال المقاومة الشعبية بما فيها الاشتباك الشعبي مع المحتلين على الحواجز. لقد تم رفع شعار المقاومة السلمية من قيادات عديدة ومعظم أوساط المنظمات غير الحكومية، ولما قوبل، على أقله، بالاستهزاء، لجأت تلك الأوساط للشعار المضلل: المقاومة الشعبية. لم يكن شعار المقاومة الشعبية، كمفهوم، ليضيف شيئاً جديدا لتاريخ المقاومة الفلسطينية، فظاهرة الكفاح المسلح بالالتفاف الشعبي الساحق حولها كانت مقاومة شعبية، والانتفاضة الأولى، انتفاضة المسيرات والحجارة والمولوتوف، وبعض الرصاص كانت مقاومة شعبية، باختصار: إن كل مقاومة تحقق الالتفاف الشعبي في لحظة ما وتخدم النضال الوطني هي بالضرورة مقاومة شعبية، ولكن كان المقصود من هذا الشعار في اللحظة المحددة للفعل السياسي لفريق أوسلو هو رفض المقاومة المسلحة، والعنفية بكل أشكالها، وأي حالة اشتباك فعلي مع قوات الاحتلال بدعاوى كثيرة مثل عدم الجدوى، وتقليل الخسائر، أو تجنيب شعبنا الويلات، او حفاظا على المصلحة الوطنية العليا؛ أي رفض المقاومة كمقاومة! وعليه، صار منذ زمن لزاما علينا ان نتفحص بدقة الداعمين للمقاومة الشعبية بتصريحاتهم وأموالهم؛ اذ علينا أن نتساءل: عن أي "مقاومة" يتحدثون؟ وما الذي يريدونه من دعمهم بالضبط؟

أما الاستبدالية الثالثة

فقد كانت نتاج طبيعي لكل مسار التشكيل الطبقي والسياسي الجديد الذي وقف خلف القرار السياسي في أوسلو، ولاحقاً على رأس النظام السياسي الجديد. كانت المنظمة أصلا قد تم تهميشها لصالح ما صار يعرف بالقياد الفلسطينية، وهو اصطلاح مطاط لا شرعية له، قد يعني أفرادا بعينهم، او تشكيلا يجمع ما بين رجال السلطة والمنظمة، أو ما بين الأخيرة وفصيل معين، او ربما فرد ما لا تدري من اين استمد تمثيله في الصف القيادي المتبدل بحسب القدرة على التنازل. لذلك لا غرابة أن لا كامل اللجنة المركزية لحركة فتح ولا كامل اللجنة التنفيذية كانت على علم بطبخة أوسلو. أمام هذا الواقع ليس من الغريب أن يتم استبدال منظمة التحرير بجهاز الحكم الإداري الذاتي المسمى لاحقا بالسلطة الوطنية، في تتويج تاريخي لواقع سياسي وطبقي جديد يميز الحقل السياسي الفلسطيني الناشئ. ولا غرابة أيضا، أن يضيع التمثيل خارجيا ما بين المنظمة والسلطة، مع طغيان كفة الأخيرة بالطبع، ولا غرابة ان يضعف الحزبي مقابل السلطة- المفترض أنها سلطة إدارية وحسب- عند تقدير موازين قوة القرار ونفوذه.

دولة الضفة والقطاع بدلاً من فلسطين، المفاوضات والاستسلام بدلاً من المقاومة، وسلطة الحكم الإداري الذاتي تحت الاحتلال بدلاً من منظمة التحرير. بذاك يكون مشهد الأزمة البنيوية للنضال الوطني الفلسطيني قد أكتمل، ولا مندوحة، إن رغبنا بالخروج من هذا المأزق/ الأزمة من معالجة تلك الاستبداليات الثلاث.

أداة وطنية وبرنامج وطني للمقاومة

عود على بدء! لكل ما سبق نعتقد أن كليشيه إعادة بناء منظمة التحرير وفق الصيغة اليومية للخطاب الفلسطيني، الفصائلي أو الشبابي المبادر، رغم صدق نوايا الثاني، لا تعدو كونها صيغة تقنية تتلهى بموضوعة الديمقراطية والانتخابات وكأنها الكفيلة بخروج النضال من مأزقه الحالي. لا يصعب، أمام هذا الاندلاق الليبرالي باتجاه شعارات الديمقراطية والانتخابات وصناديق الاقتراع إلا ملاحظة اللغة الجديدة التي تطبع لغة الخطاب الفلسطيني بيمينه ويساره بديلاً لخطاب التحرر الوطني. فالخطاب الحالي، بمجمله، لا يقيم وزنا مثلاً لإعادة الاعتبار للميثاق وشعار تحرير فلسطين ومنظمة التحرير كحركة تحرر وطني تمثل التعبير لتنظيمي الكياني عن الهوية المجسدة بالميثاق، بقدر ما يتلهى، إرضاء للغرب الإمبريالي واستجلابا لرضا الليبرالية الجديدة، بالحديث عن الانتخابات والصناديق والديمقراطية، فيما لم تكن تلك في يوم ما هي أزمة الشعب الفلسطيني، في الجوهر. كانت الديموقراطية الفلسطينية تاريخياً تتجسد أساسا في المشاركة الشعبية الواسعة في العمل المسلح والانتفاضة الشعبية الأولى، ومع أنها، في المحطتين، لم تكن ديمقراطية الصناديق إلا أنها وفرت، بالنضال، لا منَّة من أحد، بيئة ديموقراطية تعددية للعمل السياسي والنضال، فرضها النضال ذاته. فالديمقراطية أولاً وأخيرا المشاركة الشعبية، بغض النظر عن الآليات التي تتجسد عبرها تلك المشاركة، لجان شعبية، قواعد فدائية، ميادين تحرير، مسيرات وتظاهرات ضخمة، برلمان منتخب، ولكن بالمطلق ليست الصيغة الليبرالية الأخيرة هي الأكثر ديموقراطية بل وليست صيغة ديموقراطية أصلا من حيث الجوهر، إذ أنها تستبدل المشاركة الشعبية بوكلاء فرضهم توازن قوى طبقي وسياسي وفصائلي محدد.

لذلك فإن شعار إعادة بناء منظمة التحرير إن لم يعنِ إعادة الاعتبار للميثاق الوطني وبرنامج التحرير والمقاومة بكافة أشكالها، وبناء المنظمة كجهاز تنظيمي لتحقيق تلك الأهداف وحمل تلك المهام، فلن يكون سوى إعادة إنتاج للأزمة وفي أسوأ الأحوال سيلعب دوراً في امتصاص كل القوى في جهاز للتسوية السياسية بدلا من تعبئتها في جهاز للمقاومة.

--------------------------

*وسام رفيدي: كاتب فلسطيني وناقد أدبي، أستاذ علم الاجتماع في جامعتي بير زيت وبيت لحم.