بين الطريق الثالث والسلام الاقتصادي: توافق أيديولوجي؟

بقلم: طارق دعنا*

أثارت استقالة رئيس الوزراء الفلسطيني سلام فياض الجدل في الشارع الفلسطيني حول "ماذا يأتي بعد؟وطرحت تساؤلات عديدة حول مرحلة ما بعد فياض، فيما ذهب بعض المتفائلين إلى اعتبار أن استقالة فياض تضع نهاية لحقبة مريرة تمثلت في نهج سياسي، اقتصادي، اجتماعي أدى الى تدهور الأحوال المجتمعية والمعيشية، وأثر سلبا على المسار السياسي التفاوضي الذي تتبناه النخبة السياسية في السلطة الفلسطينية. إلا أن إعلان الإدارة الأمريكية بلسان وزير خارجيتها جون كيري عن البدء في خطة لضخ مليارات الدولارات لتطوير اقتصاد السلطة الفلسطينية عبر تنفيذ رزمة من مشاريع تستهدف البنية التحتية وخلق آلاف فرص عمل في الضفة الغربية، والتي تأتي كاستجابة لقناعة الإدارة الأمريكية بنهج اليمين الصهيوني المعروف بـ "السلام الاقتصادي"،  قد أزالت الغموض عن ملامح مرحلة ما بعد فياض لتؤكد بأنه رغم الاستقالة فان النهج الذي اتبعه فياض سيظل مستمرا، معه أو بدونه.  

لم يخفِ فياض عندما تم تعيينه في منصب رئيس الوزراء سنة 2007 عن ميوله نحو تبني "الطريق الثالث"، وهو نفس الاسم الذي حملته القائمة التي ترأسها هو في انتخابات المجلس التشريعي عام 2006 وحصلت على مقعدين. تعزى "الطريق الثالث" إلى نهج غير مسبوق في السياسة الفلسطينية، فهي تعتمد على فرضية أن الطريق الأول المتمثل بالكفاح المسلح والانتفاضات الجماهيرية قد فشل، وان الطريق الثاني المتمثلة بالمفاوضات قد وصل إلى طريق مسدود، وبالتالي فان النهج الجديد يتمثل ببناء مؤسسات حديثة وتحقيق تنمية اقتصادية تعتمد على مبادئ الليبرالية الجديدة من أجل فرض أمر واقع أمام العالم، مفاده أن الفلسطينيين قادرون على إدارة أنفسهم بطريقة تسمح لهم الحصول على دولة معترف بها دولياً. وهذا ما عبرت عنه البرامج الحكومية المتوالية منذ العام 2008 والتي ركزت على أبعاد ثلاثة: بناء المؤسسات، "التنمية" الاقتصادية، الأمن. ما يلفت الانتباه في هذه البرامج الحكومية بأنها تتميز بالتقنية المفرطة، تماماً على نمط البنك الدولي، وتستبعد أي شكل من أشكال المواجهة السياسية مع الإحتلال الاسرائيلي. وقد حظيت هذه البرامج الحكومية بصدى واسع في الأوساط الأكاديمية والإعلامية ودوائر صانعي القرار في الغرب، وأصبح من المألوف تداول مصطلح "الفياضية" في التقارير والأبحاث

وفي واقع الحال، إن جوهر ما تقدمه الظاهرة الفياضية في المشهد الفلسطيني الجديد، هو رزمة مستوردة من سياسات الليبرالية الجديدة المصممة في أروقة أعرق المؤسسات الرأسمالية المحافظة والتي لا تقتصر بدورها على سياسات اقتصادية كلاسيكية تشدد على التحرير الاقتصادي والخصخصة وإلغاء دور الدولة في إدارة عملية التنمية وإزالة القوانين الحمائية من طريق الشركات الضخمة ورأس المال العابر للقارات. بل يتجاوزها إلى حد التغلغل الثقافي العميق في البنى الاجتماعية، وذلك عبر خلق حقل مؤسساتي كامل من الهيئات الإعلامية والأكاديمية والمنظمات غير الحكومية والمشاريع التنموية التي تبث بشكل موجه قيما وأفكارا ورؤى تنسجم وأهداف التيار السياسي الاقتصادي المهيمن. يتفق العديد من الباحثين بأن الليبرالية الجديدة لا تمثل بحد ذاتها سياسات اقتصادية فقط بقدر ما هي ايديولوجية ذات منبع فلسفي وثقافي، وأن تمكنها من تحقيق اختراق الوعي المجتمعي يمثل أحد أشكال الإمبريالية الثقافية.

من ناحية أخرى تمثل حكومة اليمين الصهيوني الحالية استمرارا لنهج "السلام الاقتصادي"، والتي عبر عنها بنيامين نتنياهو بقوله "من الضروري العمل على خلق أجواء محددة ومتحكم بها من الرفاه الاقتصادي وتغليب دور الأمن، إن الإقتصاد وليس السياسة هو مفتاح السلام في المنطقة". يأتي هذا النهج في التعامل مع مسألة الصراع كاستجابة لمتطلبات إعادة هيكلة الاقتصاد الإسرائيلي المستند على تبني اقتصاد السوق الحر الذي بدأته اسرائيل في أواسط الثمانينات، وتطلب خلق أجواء مناسبة من الاستقرار السياسي لاجتذاب الاستثمارات الأجنبية وضمان سلاسة عمل الشركات الإسرائيلية وتحقيق أكبر قدر من الربح وتراكم رأس المال. إن تحول النمط الاقتصادي الإسرائيلي إلى نظام السوق الحر وما تطلبه من استقرار بدون التطرق الى حل أسباب الصراع يعتبر أحد أهم العوامل التي دفعت اسرائيل إلى البحث عن إتفاقية مع منظمة التحرير الفلسطينية بصيغة أوسلو وما تلاها من اتفاقيات كبرتوكول باريس الاقتصادي والتي هدفت بالأساس إلى تحويل المناطق المحتلة لعام 1967 إلى مشروع استثماري ربحي ضخم لأجهزة وشركات الاحتلال. وفي حقيقة الأمر لم تؤدِ هذه الاتفاقيات إلى خطوات تدريجية نحو فك الارتباط الإقتصادي والسياسي بين البنية الاستعمارية والأرض المحتلة، بل على العكس تماما لقد مثلت هذه الإتفاقيات نقطة تحول في شكل وأسلوب الهيمنة الاستعمارية على المصادر والمقدرات الفلسطينية بحيث تم إعادة إنتاج السيطرة من شكلها القسري المباشر إلى تبعية ممأسسة وتوافقية معترف بها فلسطينيا وعربيا ودوليا، ساهم في خروجها إلى حيز الوجود الحبر الفلسطيني الموقع على هذه الاتفاقيات.  

 ورغم الانتقادات الفلسطينية اللاذعة الموجهة إلى إستراتيجية "السلام الاقتصادي، الا أنه من اللافت للاهتمام بأن المكونات الأساسية للسلام الاقتصادي تتقاطع في العديد من النقاط مع حيثيات نهج الطريق الثالث، فكلاهما يرتكزان على مبادئ الليبرالية الجديدة، وكلاهما يميل إلى تغليب عنصري الاقتصاد والأمن على حساب السياسة من أجل تحقيق السلام، وكلاهما أيضا يسد على نفس القاعدة النظرية والأيديولوجية. ان نقاط الالتقاء هذه تنسجم إلى حد كبير مع حيثيات ما يسمى بنظرية "الليبرالية المالية" والتي تشكل بحد ذاتها أحد الركائز الأيديولوجية التي قامت عليها المؤسسات المالية الدولية والتي توجه السياسات الخارجية للعديد من الحكومات الغربية ووكالات التنمية والممولين الدوليين. تدعي هذه النظرية بأن تكثيف التعاون الاقتصادي بين دولتين يؤدي إلى زيادة مطلقة في مستوى الرفاه الاقتصادي وذلك قد يؤدي إلى تجنب التكاليف الباهظة والخسائر المدمرة للمواجهة السياسية. ولقد أثرت هذه النظرية في الأطروحات الساذجة  للكاتب الصحفي الأمريكي توماس فريدمان الذي قدم نظرية تستند على ترويج ثقافة الإستهلاك الأمريكية لتحقيق السلام العالمي والمسماة "القنطرة الذهبية"، نسبة إلى سلسلة الوجبات الامريكية السريعة ماكدونالدز، والتي تدعي بأن "أي دولتين تمتلكان سلسلة الوجبات السريعة الأمريكية ماكدونالز لا يمكن أن يشنا الحرب ضد بعضهما البعض". علاوة على ذلك يعتبر فريدمان من أشد المتحمسين لنموذج الطريق الثالث في الحكم وإدارة المؤسسات نظرا لتماثله مع قناعاته بأن تطبيق نظرية "الليبرالية المالية" في سياق الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي كفيل بتحقيق الرفاه الاقتصادي المطلوب من أجل خلق السلام.

إذن أنه من الضروري بمكان فهم مسار العلاقات الفلسطينية-الإسرائيلية الحالي ضمن إطار التوافق الأيديولوجي بين نهج الطريق الثالث وإستراتيجية السلام الإقتصادي وما أنتجه هذا التفاعل على مدى السنوات الأخيرة من انعكاسات مباشرة وغير مباشرة على القضية الفلسطينية وتحولات على مستوى المجتمع والصراع. فلقد تجسدت ملامح هذا التفاعل على الأرض خلال السنوات الماضية عبر تنفيذ رزمة من المشاريع في العديد من الحقول المجتمعية والتنموية والثقافية والمؤسساتية والاقتصادية والأمنية.

إن القصور الذي تشوبه مثل هذه الأفكار والتطبيقات تتمثل في إغفالها للبنية الإستعمارية من جدول أعمالها وتتعامل مع تعقيدات السياق الفلسطيني المعقد بمعزل عن الخلل البنيوي الناتج عن سيطرة الإحتلال على الأرض والحدود والقاعدة الإقتصادية المحلية. فمثلا يمكن فهم مستوى الإزدهار الإقتصادي في هذا السياق بعملية مبرمجة ومبنية على الوهم، بحيثتخفي لغة الإحصاءات والأرقام الدارجة في قياس ارتفاع أو انخفاض معدلات النمو الاقتصادي بعدا مضللا إلى حد كبير، حيث أن قياس معدلات النمو الاقتصادي لا تعكس حجم الضرر الاجتماعي الناجم عن السياسات الاقتصادية الهادفة إلى خدمة أصحاب رؤوس الأموال والشركات على الفئات الاجتماعية الفقيرة وحتى التأثيرات السلبية على الطبقة المتوسطة. إن معدلات النمو الإقتصادي المعمول بها في إطار النظام الاقتصادي النيوليبرالي التي تتبناه الحكومة الفلسطينية تستبعد بشكل تام مؤشرات العدالة الاجتماعية وإعادة التوزيع العادل، ولا تأخذ بعين الاعتبار مسائل مثل دور الإنتاج المحلي والرفاه الاجتماعي والأمن الاقتصادي الاجتماعي للمجتمع ككل.

 ففي الحالة الفلسطينية أثبتت معدلات النمو الاقتصادي العالية في السنوات السابقة مدى عقمها في رفع مستوى المعيشة للأغلبية الساحقة من السكان الفلسطينيين. فعندما احتفل المسؤولون الفلسطينيون في عام 2010 بمعدل نمو مرتفع يقدر ب 7% والذي اعتبره المراقبون الاقتصاديون بغير المسبوق رغم الإعتماد الفلسطيني شبه التام على المساعدات الأجنبية وليس على القدرة الذاتية. وقد أثنت الحكومة الإسرائيلية على مثل هذا النمو وعزت ذلك إلى دور "سياساتها المتعاونة" مع السلطة الفلسطينية وذلك من خلال إزالة بعض الحواجز العسكرية وتسهيل الحركة التجارية. ومع ذلك، تحدى تقرير صادر عن وكالة الأونروا هذه الصورة المخادعة لازدهار الاقتصاد الفلسطيني والتي يتم ترويجها بشكل مضلل عبر وسائل الإعلام المحلية والعالمية، حيث أكد التقرير ارتفاع نسبة البطالة بوتيرة أسرع بكثير من فرص العمل التي يتم توفيرها من قبل مشاريع السلطة والمجتمع المدني والقطاع الخاص. بالإضافة إلى ذلك ينبه التقرير إلى انخفاض حاد في معدلات القوة الشرائية لمتوسط الأجور وذلك في مواجهة الأعداد المرتفعة لطوابير العاطلين عن العمل واستمرار تضخم أسعار السلع الاستهلاكية الأساسية.

بشكل عام يستخدم هذا الشكل من الاقتصاد كأداة للضبط الاجتماعي- السياسي بحيث تقضي بتحويل شرائح واسعة من المجتمع الفلسطيني الى مجموعات استهلاكية على مستوى الثقافة والممارسة عبر إغراءهم على ممارسة مستوى معيشة قد يفوق بكثير الدخل الحقيقي للفئات المستهدفة. ومن هنا يبرز دور البنوك التي تم الايعاز لها بفتح أبوابها وتسهيل عملية الحصول على قروض لمشاريع استهلاكية طويلة الأمد لقطاع واسع من الموظفين والعاملين. فقد يندهش الزائر لمدن الضفة الغربية من الكم الهائل من السيارات الفارهة والمطاعم الفخمة والمقتنيات الاستهلاكية والوتيرة المتسارعة في اقتناء الشقق السكنية، وقد تزداد دهشة الزائر عندما تستوقفه الأسعار الباهظة لهذه المقتنيات نظرا للضرائب غير المسبوقة على البضائع. فعلى سبيل المثال، تعتبر أسعار السيارات في الضفة الغربية مرتفعة جدا مقارنة بإسرائيل والدول العربية بسبب وصول الجمارك المفروضة عليها إلى 75%، ورغم ذلك شهدت السنوات الخمسة الماضية اكتظاظا بالسيارات الحديثة بسبب التسهيلات في القروض والتي يصل فترة تسديدها إلى سنوات طويلة.

 تحمل مسألة القروض البنكية في طياتها أبعادا نفسية وسياسية، فرواتب الموظفين هي نتاج لنظام اقتصادي ريعي يعتمد على المانحين الأجانب والذين لا يترددون في إثبات أن هذا المال هو أداة سياسية بامتياز يرتبط توفيرها بسلوك السلطة الفلسطينية السياسي. ففي حالة عدم تماشي السلطة ورغبة الحكومات الغربية، والتي بطبيعة الحال تبدو دائما متوافقة مع الأجندة الإسرائيلية، يتم وقف التمويل كأداة عقابية بما تحمله من تداعيات اجتماعية واقتصادية ونفسية خطيرة على أوضاع الموظفين وخصوصا أولئك الذين وقعوا في شرك القروض البنكية. لقد ساهمت سياسات القروض في تحييد شرائح واسعة من الفلسطينيين عن الهموم السياسية العامة وحجزتهم في بوتقة الهموم المادية والانشغالات الشخصية. ويعتبر ذلك مؤشرا على اختراق القيم الثقافية والاجتماعية الفردانية للنسيج الاجتماعي الفلسطيني، فمن الممكن ملاحظة تحولات عميقة في العقلية والسلوكيات والعلاقات الإجتماعية باتجاه ممارسة نمط حياة يتعزز فيها قيم الفردية والنزعات الاستهلاكية وتضعضع قيم التضامن الاجتماعي والنزوع نحو تفضيل المصالح الشخصية على حساب القضايا المجتمعية والوطنية العامة. وفي خضم هذا الواقعيبدو أن العديد من الفلسطينيين قد تكيفوا فعلا مع واقع الليبرالية الجديدة والتفاعل مع نمط الحياة تحت الاحتلال بشكل اعتيادي. مثل هذا التعايش اللاسوي يتجسد في ثقافة "رامي ليفي" أحد المدراء الرئيسيين للحملة الانتخابية لبنيامين نتنياهو وأحد مروجي مشروع "السلام الاقتصادي" والمعروف بامتلاكه لسلسلة المحلات التجارية الشهيرة، والتي تحمل اسمه، والملحقة بالمستوطنات والتي اكتسبت شهرتها بسبب استقبالها الزبائن الفلسطينيين والمستوطنين على حد سواء.

 ففي مثل هذا المشهد الصادم، تقف المرأة الفلسطينية بالقرب من مستوطن مغتصب للأرض أمام رفوف المواد الاستهلاكية حيث يبدون متساوين أمام ثقافة الاستهلاك، لكن حينما يغادرون المحل يذهب كل منهم إلى موقف سيارات منفصل لا يختلف نظامه عن نظام الفصل العنصري المفروض على الفلسطينيين.

أما على المستوى التنموي، فثمة العديد من الأمثلة لمشاريع ضخمة تتجسد فيها حميمية اللقاء بين رؤوس الأموال الفلسطينية والإسرائيلية والإقليمية بلا أي اكتراث لقضايا كانت حتى وقت قريب ذات حساسية عالية ومرفوضة بشكل مطلق من قبل الحركة الوطنية الفلسطينية كالتطبيع بكافة أشكاله. أحد أهم الأمثلة التي يمكن طرحها في هذا السياق هو المدينة الفلسطينية الجديدة "روابي" والتي تستهدف إسكان الطبقات المتوسطة العليا والرأسمالية، وهو أمر من شأنه زيادة حدة التقسيم الطبقي وتغييب العدالة الاجتماعية في مجتمع يعاني من الفقر والبطالة ويعيش قطاع مركزي من سكانه في مخيمات اللاجئين. لقد تم إسناد مهمة بناء هذه المدينة الحديثة لما يزيد عن عشرة شركات اعمار اسرائيلية، ورغم ادعاء القائمين على المشروع بتحديد شروط مقاطعة اقتصاد المستوطنات من قبل هذه الشركات كشرط للتعاقد، لكن تبقى هذه المشاركة الإسرائيلية بحد ذاتها دعوة صارخة لمشاركة أجهزة الاحتلال في "تنمية" المناطق المحتلة وهي بذلك تحلل أحد أخطر أشكال التطبيع الممؤسس وغير المسبوق في تاريخ فلسطين الحديث. واستمرارا لهذا النهج التنموي القائم على تراكم رأس المال، تكشف بعض التحقيقات عن وجود استثمارات فلسطينية-إسرائيلية مشتركة تشمل أشكالا متفاوتة من "التعاون الاقتصادي" بين رجال أعمال إسرائيليين وفلسطينيين تتراوح ما بين استثمارات فلسطينية داخل المناطق الصناعية التابعة للمستوطنات، أو عبر مشاريع شراكة تتم ما بين رجال أعمال فلسطينيين وإسرائيليين داخل هذه المناطق الصناعية-الزراعية الاستعمارية، تتكثف هذه الاستثمارات في مناطق مثل بركان وعطروت ومعاليه أدوميم والمستعمرات الزراعية-الصناعية في منطقة اريحا الأغوار، أو عبر عمليات سرية للغاية يتم من خلالها التلاعب ببضائع المستوطنات المجهزة للتصدير للخارج وتحويلها إلى فلسطينية المنشأ بحيث يتم تصديرها على أساس أنها "صنعت في فلسطين" وذلك بهدف الالتفاف على حملات المقاطعة العالمية للمنتج الإسرائيلي. 

لقد بدأت تتوضح ملامح هذا المشروع وتأثيراته المجتمعية في أكثر الحقول المعرفية والثقافية حساسية وذلك بوتيرة متسارعة. فقد توصلت بعض الدراسات التي تناولت الواقع التعليمي في فلسطين إلى نتيجة أنه وضمن رؤية الحكومة الفلسطينية الحالية لتنمية قطاع التعليم العالي؛ أبعاداً أكثر خطورة، تكمن في تحويل التعليم، وبالتحديد التعليم العالي، إلى سلعة للتداول، وإفراغه من حساسيته للسياق الفلسطيني وخصوصيته بشكل خاص، والخصوصية الجنوبية بشكل عام. وتركيز التعليم العالي اليوم؛ وكما هو واضح في الخطة؛ يركّز على التكنولوجيا وبعض التخصصات التي تهدف إلى تشغيل الخريجين، ولكن بدون ثقافة، فهناك كفاءَة في التخصص، ولكن بدون ثقافة اجتماعية سياسية. إن مثل هذا الانحراف في أهم الحقول الحيوية في إنتاج المعرفة والثقافة لابد أن ينعكس على الأجيال الفلسطينية الناشئة ويهدد مستقبل الهوية الوطنية الفلسطينية التي صقلت خلال عقود طويلة من النضال والتضحيات. ففي سياق تغيير المناهج التعليمية المدرسية توصلت بعض الدراسات إلى أن فلسطين غيبت في المنهاج المدرسي، كما غيبت الهوية، والوطنية، لتحل محلها ثقافة جديدة، تختزل فلسطين في الواقع المصنع، أجزاء من الضفة وغزة، والفلسطيني في هذا المنهاج هو من يسكن فيها، ويخضع للسلطة الوطنية الفلسطينية، ما أدى إلى انتقال الذاكرة الجمعية من ذاكرة الوطن إلى اللاذاكرة. أو إحلال ذاكرة جديدة منطلقة من قيم المركزانية الأوروبية التسامح، والمواطنة، والعيش المشترك. 

علاوة على ذلك، يتم التلاعب بمفهوم المجتمع المدني وإخضاعه لخدمة رأس المال وبث قيم الليبرالية الجديدة كاستجابة لرؤية الطريق الثالث. يبرز ذلك في قيام بعض الرأسماليين الفلسطينيين وقيادات المنظمات غير الحكومية في العديد من المناسبات بترديد نفس المنطق القائل بتفوق التعاون الاقتصادي على المواجهة السياسية في تحقيق السلام. ترى إحدى الشخصيات اللامعة في القطاع الخاص الفلسطيني والتي بنفس الوقت تترأس مجلس إدارة إحدى المنظمات غير الحكومية المدعومة من البنك الدولي؛والمؤمن بمبادئ الليبرالية الجديد وقوة الماركات العالمية في التغيير الاجتماعي والسياسي بأن "أفضل محرك للسلام والاستقرار والنمو الاقتصادي هو خلق بيئة صحية للأعمال الاقتصادية". تلعب المنظمات غير الحكومية الممولة من الغرب دورا محوريا في تعزيز المسار التنموي الحالي بحيث أن العديد منها، وأكثرها ثقلا وتأثيرا، قد عدلت برامجها ومشاريعها لتنسجم مع برنامج حكومة سلام فياض. وهنا تتطرق الخطط الإستراتيجية للعديد من هذه المنظمات إلى البرامج المتوالية لحكومة سلام فياض منذ عام 2008 والتي تحدد أولويات الحكومة بالنسبة إلى الموازنة والحكم والاقتصاد والخدمات الاجتماعية والبنية التحتية. ترى هذه الخطة الإستراتيجية بأن برامج الحكومة ستساعد المنظمات غير الحكومية بشكل فاعل على إعادة مراجعة برامجها وتعديل مسار المشاريع التنموية لهذه المنظمات للمساهمة في دعم واستكمال مجهودات الحكومة في تحقيق الأولويات الوطنية. علاوة على ذلك؛ تدعو الخطة الإستراتيجية إلى فتح أبواب جديدة لإدخال واسع النطاق للمنظمات غير الحكومية للعمل على صياغة الإطار العام للمشاركة في وضع أولويات التدخل في القطاعات المجتمعية المختلفة.

إن مثل هذه الظواهر الناتجة عن التفاعل ما بين الطريق الثالث والسلام الاقتصادي قد ساهمت في إظهار الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني بحلة جديدة ليس لها مثيل في نظريات إدارة الصراع. إن تحويل المناطق المحتلة في الضفة الغربية الى حقل صراعي تديره عقول الليبرالية الجديدة و مأسسة أنظمة التجزئة الجغرافية والعزل والفصل العنصري والتحكم بالأرض والمصادر وفرض منظومة عالية من التقنيات العسكرية التكنولوجية قد ساهم في إضفاء سمات جديدة تتمثل في زيادة القدرة الإسرائيلية العالية في التحكم والسيطرة وضبط مسار ومجريات الصراع إلى أدنى درجات الكثافة بشكل يتناسب ومخططات إدارة الاحتلال في تعميق سيطرتها على المناطق بدون عراقيل أو مقاومة. ورغم أن بعض توجهات السلطة غير المرغوب بها إسرائيليا مثل التوجه للحصول على عضوية دولة مراقب في الأمم المتحدة قد أدى إلى تدهور الأوضاع المعيشية في الضفة الغربية بسبب وقف التمويل الأمريكي، واحتجاز اسرائيل لمستحقات السلطة من أموال الجمارك، إلى الحد الذي أوصل السلطة المتأزمة ماليا إلى حالة مأزق خطير أمام الجماهير الغاضبة في الشارع، خشيت اسرائيل من خروج الاحتجاجات عن السيطرة واندلاع انتفاضة ثالثة وسارعت بتحويل الضرائب الجمركية إلى السلطة كمحاولة لإسكات الشارع الفلسطيني المتذمر. وبالفعل ساهمت هذه الخطوات، رغم قصورها في إنقاذ السلطة من أزمتها البنيوية، في تهدئة الشارع الفلسطيني مما أثبت للعديد من المراقبين بأن نجاعة مشروع السلام الاقتصادي حسب مفهوم نتنياهو يعتمد على تقزيم القضايا السياسية الجوهرية والحقوق الفلسطينية التاريخية إلى مجرد مجموعة من المطالب الأساسية المرتبطة بلقمة العيش وضمان استمرار عجلة الاستهلاك، وبذلك تضمن المؤسسة الاستعمارية الصهيونية ضبطها لمجريات الأمور بشكل فعال.      

لعل أخذ مسألة التوافق الأيديولوجي بين السلام الاقتصادي والطريق الثالث كنقطة انطلاق لتحليل التحولات السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية الهائلة التي ألمت بالمجتمع الفلسطيني خلال السنوات الأخيرة قد تساعدنا في فهم درجة الإحباط واللامبالاة والسلبية الشعبية في الاستجابة لنداءات القضايا الوطنية الملحة كما في حالة إضراب الأسرى في السجون. ففكرة تحول مركزية المقاومة إلى داخل السجون وفي مقابلها بضع عشرات من المتضامين المتواجدين في خيمات الاعتصام لهو ذو مؤشرات جد خطيرة ومهينة للمنظومة المعرفية والعملية لمفهوم المقاومة التي بنتها عقود من النضالات والتضحيات الشعبية في سبيل التحرر. ففي هذه المرحلة العصيبة من تاريخ القضية الفلسطينية التي يحكمها مزيج من التنازلات السياسية والإقتتالات الداخلية والعصبيات الفصائلية المفتقرة إلى أرضية وطنية حقيقية، وفي ظل تراجع الوعي التحرري وضياع البوصلة الوطنية، يبقى الشعب الفلسطيني مشتتا بلا قيادة تمثل طموحاته وترجع حقوقه المسلوبة. إن المسار الحالي الذي ابتدأ منذ أوسلو انتهاءً بنهج الطريق الثالث يحمل في طياته بذور انحدار كارثي على كافة الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأخلاقية. ففي الوقت الذي انتهكت فيه الأرض وسلبت واقتلع منها سكانها الأصليون، تجري محاولات حثيثة، مدروسة وممنهجة، مصدرها من الخارج ومنفذها من الداخل، لاستهداف الإنسان الفلسطيني وتجريده من آخر أسلحة يمتلكها: الوعي والهوية. لقد آن الأوان لمراجعة شاملة للمسار الفلسطيني من أجل خلق تغيير جذري شامل في كافة المفاهيم والأنظمة وطرق التفكير السائدة، هذا إن أردنا فعلا أن ننقذ ما يمكن إنقاذه.

------------------------------

*طارق دعنا: أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية.