والآن صار لزاما علينا أن نتصرف كدولة

بقلم: عبد المجيد حمدان*

قبل بضع سنوات، وأثناء إدارتي لحوار حول القضية الفلسطينية مع مجموعة من الشباب، سألني أحدهم: كيف ترى ما سيكون عليه حالنا في العام 2012؟ فأجبت بتلقائية: مثل حالنا اليوم إن لم يكن أسوأ بعض الشيء. وأضفت: وفي العام 2020، إن بقينا نسير على هذا المنوال، ربما سيكون حالنا أسوأ بكثير. ردوا محتجين ومستنكرين، وبنفس واحد: أنت هكذا تحبطنا، فلماذا كل هذا التشاؤم؟ قلت: لا علاقة للتفاؤل أو للتشاؤم بقضايا السياسة. هي لا تقوم ولا تبنى على حسابات العواطف. وهي تعمل خارج هذه الحسابات تماما. وأحد مشاكلنا أننا نتصرف ونعمل، منذ بدء قضيتنا منذ أكثر من 130 عاما، وفق حسابات العواطف هذه، وفي كثير من الأحيان وفقها فقط. 

وأضفت: في مراجعتنا اليوم لتاريخ القضية رأينا كيف أن شعبنا تصدى للعدوان على وطنه وحقوقه منذ اللحظة الأولى، وتواصل كفاحه على طول مسار قضيته. لم يتوانَ يوما، ولم تفتر همته يوما، ولم يبخل بالتضحيات، التي قدمها سخية، في هبة، في انتفاضة، في ثورة، مرة بعد أخرى. ولقد دفع في كفاحه هذا ثمنا باهظا، دما ومالا واقتصادا وحرية ونفيا وتشتيتا، والقائمة تطول. وفي مراجعتنا هذه طرحنا السؤال: وماذا كان حصاد هذه التضحيات المتواصلة والهائلة؟ وأظننا اتفقنا أن الحصاد حافظ على مساره الثابت، خسائر متواصلة في جانبنا، ومكاسب متواصلة لعدونا. كان ذلك منذ البدايات، وما زال مستمرا حتى اليوم.

لماذا؟

 لأننا نتبع ذات النهج السياسي الذي، كعامل هام من بين عوامل عدة تتضافر على قضيتنا، تسبب في كل ما أصابنا من نكسات وويلات ونكبات.

من يماري في هذا عليه أن ينظر حوله، ويتوقف عند تمدد المستوطنات، وكيف تلتهم المزيد من أرضنا يوما بعد يوم. وأخيرا توقفنا عند السؤال: ولكن لماذا وكيف يحدث هذا؟ نحن شعب يواصل تقديم قوافل التضحيات، ورغم كل ما أصابه ويصيبه لم ييأس، لم يحبط، يواصل النضال، يواصل الكفاح، ومع ذلك ما زالت خسائره تتلاحق. ومرة أخرى كيف ولماذا يحدث لنا هذا؟

نكبات متلاحقة:

قلت لهؤلاء الشباب: في حوارنا هذا حاولنا الإجابة على السؤال، ووقفنا على عدة أسباب ومسببات. لكن دعونا نتذكر مرة أخرى، ونحن على مشارف الذكرى الستين للنكبة الكبرى، أنه سبقتها، ومهدت  لها، سلسلة من النكبات الصغيرة، إن صح وصف نكبة ما بالصغيرة. نكبات تمثلت في تشريد مزارعي أراضي التجار، كبار الملاك، المقيمين في دمشق، وبيروت وغيرهما، والتي بيعت للحركة الصهيونية، ومزارعي الأراضي الأميرية التي وهبتها حكومة الانتداب البريطاني للحركة الصهيونية، في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. ولنتذكر أنه تم اقتلاع هؤلاء المزارعين، وتدمير قراهم، وتعدادهم تجاوز عشرات الألوف، بقوة سلاح درك الخلافة العثمانية أولا، ثم بسلاح شرطة ودرك الانتداب البريطاني ثانيا.

 ومع أن وقع النكبات تلك كان شديد المرارة على شعبنا في حينها، إلا أن تهجيرهم داخل الوطن، واستيعابهم في أسواق العمالة الرخيصة، ربما ساعد في تخفيف حدة المرارة تلك، والأهم أنه موه على ضعف قدرة قياداتنا السياسية في قراءة المستقبل، بما يعنيه من ضعف رصد نذر النكبة الكبرى، التي كانت تلوح في الأفق، والتي تحققت في العام 48.   

لقد تعددت العوامل التي تسببت في نكباتنا منذ البداية والمستمرة إلى يومنا هذا. بديهي أن المؤامرة الصهيونية، بأبعادها الدولية والإقليمية، تقع على رأسها. وطوال الوقت كانت قوى أطراف هذه المؤامرة، رسمية وشعبية، متفوقة على قوانا، الذاتية والحليفة، بمراحل كبيرة. وكان واضحا، لكل من يملك جانبا من سلاح المعرفة، ضعف فرص كسب حربنا على المؤامرة، وتواضع احتمالات نجاحنا في تحقيق الشعارات التي رفعناها. لكن كان ممكنا، لو توفر لنا العامل الذاتي، منع وقوع مسلسل النكبات والكوارث التي جلت بنا، أو تخفيض درجات حدتها في أسوأ التقديرات، وفي المقدمة منها نكبة عام 48 الكبرى.

في  كل مراحل نضالنا، أعدنا نكباتنا إلى هذا العامل الخارجي، قوة حلف الصهيونية. ولأن الصهيونية استندت إلى دعم قوي وثابت من قوى دولية عظمى، بريطانيا العظمى في البداية، وأمريكا منذ تصدرها لائحة القوى الكبرى، فقد أرجعنا كل خيباتنا إلى هذا العامل، وعلقنا كل قصوراتنا على مشاجبه. ودوما دفعنا ذلك إلى تجاهل فعل العامل الذاتي، الخاص بنا شعبا وقيادات. ومن تجربتي أقول أن العامل الذاتي لم يكن بحال، وبعيدا عن جلد الذات، أضعف فعلا، من العوامل الأخرى، في التسبب بوقوع نكباتنا. ومع ذلك ظل التحصن خلف ما وصف برفض جلد الذات، الدرع الآخر الذي أشهره السياسيون، لتجنب المراجعة والنقد، فالوقوف على الأسباب والمسببات، لما وقع على رأس شعبنا من نكبات. وقد يسأل سائل: ولكن كيف؟

وقفة مراجعة:

وأقول: هلت علينا بداية النكبات ونحن جزء من الخلافة العثمانية. ورغم ما يقال عن أن الخليفة/ السلطان عبد الحميد، رفض المشروع الصهيوني باستعمار فلسطين، إلا أن الخلافة رحلت بعد أن تم دق سلسلة من خوازيق الاستيطان في بلادنا. ومن بينها مدينتان كبيرتان هما، ريشيون ليتسيون في العام 1882، وهي رابع أكبر مدينة في إسرائيل الآن، وتل أبيب في العام 1909. ولأنه من غير الممكن أن تقوم جماعة قادمة من خارج المنطقة ببناء مدينة، وتفعل ذلك بالسر عن الدولة، وبدون موافقتها. وأكثر ولأن ريشيون ليتسيون بنيت في موقع عيون قارة، حيث تشكل مياه هذه العيون سبخات ومستنقعات، فقد حصلت الحركة الصهيونية بتجفيفها، على مادة دعائية هائلة، لم تتوقف عن استخدامها حتى يومنا هذا. وحين رحلت الخلافة وقعنا في مصيدة اتفاق سايكس بيكو لتقسيم ميراثها، وهو الهلال الخصيب عندنا. وبهذا التقسيم حرمنا من مساندة أخوتنا، ولنقف كشعب صغير أعزل في مواجهة قوة عالمية عاتية. وحين صدر وعد بلفور بعد سنة، ولحقه الاحتلال فالانتداب البريطاني، الموكل بتنفيذ ذلك الوعد المؤامرة على وطننا، وجدنا أنفسنا نرسف تحت عبء تركة الخلافة الثقيلة، والأكبر كثيرا من كل ما سبق. وجدنا أنفسنا وقد ورثنا من الخلافة، الجهل والفقر والمرض. كنا شعبا تتجاوز نسبة الأمية فيه أل 95 %. وبدون أية قيادات ذات إمكانات أو قدرات سياسية. وبديهي أن القيادات التي نشأت كانت مثقلة بتراث الجهل ذاك. والمصيبة أن تراث الخلافة العثمانية، وثقافتها السياسية لاحقتنا، وذلك بإضفاء القدسية على تلك القيادات الجاهلة، وتحريم مساءلتها ونقد مراجعة أفعالها. والأدهى أن هذا التراث تحول إلى ثابت من ثوابت السياسة الفلسطينية، سرى فعله حتى يومنا هذا. وهكذا، ومنذ بداية القضية وحتى اليوم، ورغم الأخطاء والخطايا في كل مرحلة، ظلت المراجعة وإعادة التقييم، فاستخلاص العبر والتصحيح من المحرمات. وظل تراكم الأخطاء والخطايا هو الثابت. وهذا الحمل، أو العبء، ظل ينتقل إلى، ويثقل كاهل كل قيادة سياسية جديدة تحاول السير إلى المستقبل. وبعد هذا نتعجب من إخفاقاتنا المتتالية بعد أن أصبح لنا سلطة.

وماذا الآن؟

الآن كلنا ننسى، أو نتناسى ربما، أن سلطتنا هي الابنة الشرعية لاتفاقية أوسلو. وبموجب هذه الاتفاقية، الإعلان، هي سلطة حكم ذاتي، تدير شؤون السكان دون الأرض، محط نظر حكومات إسرائيل المتعاقبة، وتقوم بدور البديل، "المقبول" منا، للإدارة العسكرية الاحتلالية. والسلطة بهذا الوضع ليست لها أية ولاية على الأرض لمنطقتي ب وج، والتي تشكل 82 % من أرض الضفة المحتلة. صحيح أن الاتفاقية نصت على أن حل الحكم الذاتي هذا هو برسم الاستقلال، وأنه محدد بخمس سنوات، لكن إسرائيل رأت فيه حلا دائما. ومن يراجع تصريحات إسحق رابين، رئيس وزراء إسرائيل الذي وقعنا معه الاتفاق، وتقاسمنا معه ومع بيرس، جائزة نوبل للسلام، ثم تصريحات إسحق شامير، رئيس الوزراء التالي، يتأكد أن إسرائيل، ومن البداية، ظلت ترى في حل الحكم الذاتي حلا نهائيا لقضيتنا.

 ولأن مناطق عديدة في العالم يقوم الحكم الذاتي فيها كحل للقضايا القومية، ولأننا في السنوات الأولى بادرنا إلى إفهام العالم بأن قضيتنا حلت، فقد قبل هذا العالم منطق إسرائيل، برؤيتها للمفاوضات قضية في حد ذاتها. وهي، أي المفاوضات، معنية بالبحث عن حل للمشاكل الصغيرة، والتي تنشأ في إطار الحل الدائم بالحكم الذاتي. وعلى مدار كل السنوات السابقة لم تتجاوز موضوعات المفاوضات، على كثرة ما تعددت جلساتها، تلك القضايا الصغيرة، وفي مقدمتها إفراج عن مجموعة أسرى.

ومع ذلك، وبعد ذلك، يخرج علينا من يتحدث عن عبثية المفاوضات، وعن رفضها، دون أن ينتبه، وربما هو ينتبه، إلى حقيقة أن السلطة سلمت منذ زمن بالصيغة التي ارتأتها إسرائيل للحل، أي الحكم الذاتي في إطار الدولة الواحدة، بديلا لما يقال عن حل دولتين لشعبين، بدليل مواءمة أحوالها معه، والاكتفاء بمظهر السلطة، بدءا باستبدال التسمية للوظائف بالوزارات، والاستعاضة بأبهة المواكب عن الصلاحيات الفعلية. والغريب أن يطالعنا اليوم من يقول أنه يأتي بجديد، فيقول بالعودة لمطلب الحل على أساس الدولة الواحدة، ثنائية القومية، وهو الحل المطبق فعلا من جانب إسرائيل، ومنذ بدء العمل بتطبيع إعلان أوسلو، بالحكم الذاتي لنا، في إطار الدولة الأم، إسرائيل.

كسر الدائرة:

ولأننا درنا سنوات طويلة في هذه الدائرة، جلسات مفاوضات على قضايا صغيرة، فقد سعدت شخصيا، بقرار الرئاسة محاولة كسر هذه الدائرة. قررت الرئاسة التوجه للأمم المتحدة، طالبة منها استبدال الحكم الذاتي بدولة مستقلة، والاعتراف بهذه الدولة عضوا في الهيئة الدولية. وكان غير مفاجئ، بل وبديهي، أن توظف إسرائيل كل قدراتها، لمنعنا من كسر الدائرة، وإبقائنا في حظيرة الحكم الذاتي. وكان غير مفاجئ أيضا أن تنهض أمريكا لمساندة إسرائيل، لمنعنا من تحقيق مطلبنا. وهكذا كان إحباط مسعانا في مجلس الأمن، ثم محاولة إحباطه في الجمعية العامة، وحيث فزنا فيها، بدعم من أصدقائنا الكثر في العالم، بمقعد عضوية غير مشاركة.

وكانت جهود الرئاسة، ومجابهتها لمختلف أشكال الضغوط، موضع تقدير وإعجاب منا ومن شعبنا. ولكن بَيَّن إضراب الموظفين، الذي أعقب هذا الإنجاز، أن الرئاسة، والحكومة، وبرغم الجهود التي استحقت التحية عليها، كانت قد وقعت في أخطاء، والتي كان من السهل تجنبها.

كان معروفا لديها، ولدينا جميعا، أن الضغوط ستشتد، عقابا لنا على الخروج عن المقرر. وكان واضحا أن عقوبة وقف المساعدات المالية، بعد انصياع الأخوة العرب للأوامر الأمريكية، بسحب حزام الأمان، أو بالتكاسل عن قذف طوق النجاة، أن هذه العقوبة ستكون الأكثر تأثيرا علينا. بديهي أن تعجز الحكومة، بعد وقف هذه المساعدات، عن دفع رواتب الموظفين. وجاء رد نقابة الموظفين بإعلان الإضراب، بغض النظر عن النوايا، وعن الحقوق أيضا، فعلا مساعدا، صب في صالح موقعي هذه العقوبة، وفعلا مقيدا للرئاسة عن التفكير في خطوة نضالية لاحقة.

ولو أن الرئاسة والحكومة استعادت شيئا من مسيرتها النضالية، ولو أنها رأت فيما حدث معركة تتطلب حشد الشعب وراءها، ما كان لهذا الفعل القادم من داخل البيت، والمساعد لموقعي العقوبة أن يحدث.

كان على الرئاسة، ومعها الحكومة بالطبع، وقبل خطوة الذهاب لمجلس الأمن، أن تصارح المواطن بطبيعة العقوبات التي ستتعرض لها. كان عليها أن تساعده لأداء دوره، بتحمل العبء الذي سيقع. وكان عليها أن تتفق مع القوى الوطنية على برنامج لمواجهة الضغوط والعقوبات المتوقعة. وقبل هذا كان عليها أن تلزم نفسها بجملة خطوات، تقنع المواطن، أنها تشاركه العبء، ولا تلقي هذا العبء عليه وحده. كان عليها البدء في سلسلة خطوات، تظهر نتائجها بخفض للإنفاق الحكومي، وفي المقدمة منه تقليص متدرج، ولكن متسارع، يؤدي إلى وقف الصرف على مظاهر الأبهة الحكومية، مرورا  بالعلاوات والبدلات...الخ. كان بذلك سيقنع متقاعد مثلي، ينتظر آخر الشهر لشراء أدوية لا غنى عنها، بالحصول على نصف الراتب وتدبير نفسه به. ولكن ذلك للأسف لم يحدث. وما حدث، بعد تراجع العقوبات، أن الرئاسة والحكومة باتت تحسب ألف حساب، قبل أن تقدم على خطوة، تدفع نجاحنا في الأمم المتحدة، خطوة جديدة إلى أمام.

تصرف دولة:

وعليه فقد كانت الخطوة المطلوبة تتمثل في تحويل النجاح الرائع، الذي تحقق في الجمعية العامة للأمم المتحدة، من مكسب معنوي إلى مكسب متجسد على الأرض. وبديهي أن تبدأ هذه الخطوة بتغيير جذري للعلاقة مع الاحتلال. أي بنقل علاقاتنا من علاقات حكم ذاتي، تابع للدولة الأم، التي هي إسرائيل هنا،  بصلاحياته المحدودة، والتي تتطلب تشاورا واتفاقا على كيفية تطبيقها، إلى علاقات دولة مع دولة. وهنا يبرز أمام المرء سؤال: وكيف يكون ذلك؟ والجواب أن إداراتنا للحكم الذاتي، التي نسميها بالوزارات، هي ملزمة بنصوص اتفاق أوسلو، على التشاور مع المرجعية المحددة لها في وزارة الدفاع الإسرائيلية، أو في غيرها من الإدارات. وكانت الخطوة الأولى التي فرضها الوضع الجديد، تبدأ بالتوقف عند ذلك. ويليها مباشرة أن تصبح الرئاسة الفلسطينية، والحكومة هي مرجعية نفسها، تخطط وتضع برامج عملها بما يحقق مصلحة شعبها، وإن تَعارضَ، وهو سيتعارض، مع  رؤى وخطط الحكومة الإسرائيلية. ومرة أخرى سيبرز السؤال: ولكن كيف؟ وفي الجواب سأكتفي ببعض الإشارات، حتى لا يقال بأن هناك من يرى، ويضع، نفسه معلما مرشداً لأحد.

·          نحن الآن على أبواب أزمة مياه خانقة، تتجدد كل صيف. سبب الأزمة معروف، وهو أن إسرائيل تسرق مياهنا، وتعطينا نسبة لا تتجاوز ال 20 % منها. علينا أن نبدأ المطالبة باسترجاع مياهنا كحل لما نواجهه. أو في الحد الأدنى، تغيير معادلة تقاسم المياه القائمة، وبما يوفر حلا، ولو مؤقتا، سنة، سنتين للأزمة. ولأن إسرائيل سترفض الاستجابة لطلبنا، فيتوجب علينا أن نعد العدة لطلب العون الدولي، عبر الهيئات والمنظمات المعنية. وهذه العدة تشمل تنظيم واستفادة من خبرات وقدرات العاملين في ميدان المياه، من منظمات أهلية وكوادر حكومية وغير حكومية. وضروري أن يكون معها طواقم قانونية، قادرة على، ومؤهلة لرفع القضية أمام المحافل الدولية المختلفة. ذلك يعني خوض معركة على قضية ظلت مؤجلة للمفاوضات النهائية، التي لن تأتي حسب المخطط الإسرائيلي. ولأننا سنخوض معركة، ستتكرر مواجهتنا للضغوط والعقوبات المتنوعة، وفي المقدمة منها وقف المعونات المالية، التي يجب أن لا تساندها إضرابات الموظفين.

·        إذن وحتى ننقل نجاحنا من خانة المكسب المعنوي إلى خانة المكسب الحقيقي على الأرض، يلزمنا البدء فورا في وضع برنامج نضالي يشمل ويفعل كل جبهاتنا.  ومثال آخر يتمثل في جبهة التربية والتعليم. إذ من غير المعقول أو المقبول أن يستمر رضوخنا للإملاءات الإسرائيلية في تعليم أبنائنا. كما أنه من غير المعقول أو المقبول أن نواصل وقفة المتفرجين على انحدار التعليم، دون أن نفعل شيئا. نحن كلنا نعرف أن الاحتلال ألغى أنشطة كثيرة في مدارسنا، وأنه كرس نظام التلقين، المسؤول الأول والأساس عن حالة التجهيل والأمية التي تتفاقم سنة بعد سنة. ومن غير المعقول أو المقبول أن تواصل إدارة دولة، تخوض مع شعبها، معركة حياة أو موت، السكوت على هذا الحال. فهي لو فعلت تحكم على شعبها، حتى لو نال الاستقلال، بالهزيمة الدائمة في معركة التنافس، القادمة لا محالة، مع إسرائيل، دون أن يذهب بي الشطط للقول بالخروج من التاريخ. إذن يتوجب على حكومة الدولة أن تبدأ، وفورا، بتنظيم عملية الانتقال من نظام التلقين القائم الآن، إلى النظام الحواري، المخاطب للعقل، والعامل على تنشيطه، كي يكون المتخرجون من مدارسنا متعلمين حقا، نعتمدهم حقا وفعلا لبناء المستقبل، ولكي يكونوا مؤهلين لخوض معركة التنافس القادمة مع إسرائيل، ولكي نضمن لنا مكانا بين الأمم أيضا. ومرة أخرى هذا لن يرضي إسرائيل، وسيضعنا في مواجهة تضطرنا للاستعانة بالمنظمات والهيئات الدولية، وحيث سيكون النجاح مؤكدا، إن عبرنا معركتنا الداخلية مع الضغوط والعقوبات المتوقعة.

·         وإذا قلنا أن ذات الأمر ينطبق على العلاقة مع الأرض والزراعة، لا بد أن نستذكر أنه من غير المعقول، كما هو غير مقبول، استمرار موقف اللامبالاة القائم من الأرض ومشاكل التسجيل والملكية، كما من دعم المزارعين، وتثبيتهم فيها، وهي بؤرة الصراع مع الاحتلال، منذ أن نشأت القضية. فغير مقبول وغير معقول استمرار هذا الموقف اللامسؤول تجاه تصريف منتجات المزارعين، وتواصل تكديسها عندهم سنة بعد أخرى، بسبب التزام السلطة بقيود اتفاقية الحكم الذاتي.

·         ولأن أمر الأرض والزراعة والبحث عن أسواق للتصريف، والانتقال لسياسة التعامل بالمثل، يطول بحثه، سأكتفي بالإشارة إلى مثال أخير، وهو الموقف من البيئة. وأعيد وأكرر أنه بات من غير المعقول، كما من غير المقبول، استمرار هذا الموقف اللامبالي من التخريب الحاصل للبيئة، والمتمثل في مواصلة قطع الشجر، والقضاء على الحياة البرية.

 

ولأن ما ذكرت من أمثلة، وما يمكن عمله فيها، هو مما هو معروض، مرئي، ومعروف لكل مواطن، فإن مراجعة الحكومة، وانتقالها إلى فعل الدولة، في دوائرها ووزاراتها الأخرى، هو أكبر، أوسع وأشمل بكثير مما سبق ذكره. لكن ولأن كل فعل منا سينقلنا إلى مواجهة مع الاحتلال ولأن كل مواجهة مرشحة للانتقال إلى الساحات الدولية، فتوقع للعقوبات والضغوط، يأتي دور السؤال: هل تملك قياداتنا السياسية، بمختلف مستوياتها، الإرادة السياسية الكفاحية لفعل ذلك وربما ما هو أكثر منه؟ هل ما زال لديها نفس نضالي، رؤية كفاحية، قدرة وطاقة، على خوض هكذا معركة؟ والأهم: هل تملك من المؤهلات والكفاءات، ما يؤهلها لتعبئة ودفع وقيادة شعبها لخوض وتحمل أعباء، وتقديم تضحيات، تتطلبها مثل هكذا معركة كفيلة بأن تخرجنا من مآزق ودوامات مفاوضات تحكمها قواعد العمل لحل الحكم الذاتي؟ وهل سيأتي العام 2020 ونحن بحال أفضل من حالنا اليوم؟!

-------------------

*عبد المجيد حمدان (أبو وديده): كاتب فلسطيني، الأمين العام السابق لحزب الشعب الفلسطيني.