قراءة في كتاب: هوامش على دفتر الثورة

إعداد: جنان عبده*

“هوامش على دفتر الثورة” للكاتب أحمد بلال، الصادر عن وزارة الثقافة - الهيئة العامة لقصور الثقافة/ القاهرة- مصر، 2012. الكاتب شاب وناشط سياسي، وعضو قيادي في حزب التجمع والإتحاد الاشتراكي المصري، يقوم بتصوير واقع الثورة المصرية وتبلورها من خلال تفاصيلها الدقيقة التراكمية على مدى سنوات، وينبه القارئ لعدة  محاور علينا أن ندركها لنفهم كيف تبلورت الثورة وكيف انطلقت وأين.

يُهدي بلال كتابه إلى "كل الذين ناضلوا من أجل هذه الثورة، ولم يدركوها... إلى كل من دفع ثمن هذه الثورة وفضل أن يكون جندياً مجهولاً في الميدان". ويحتل الشهداء في كتابه موقعاً خاصاً فهو ينهي كتابه بإهدائهم الثورة وبوعدهم على حفظ انجازاتها. ويتوزع الكتاب، وهو من الحجم المتوسط، على ستة عشر فصلاً إضافة للمقدمة ويبلغ عدد صفحاته 274، هي فصول الثورة منذ 25 نياير 2011 ولغاية العاشر من فبراير 2012، يوم تنحي الرئيس السابق حسني مبارك، واستلام المجلس العسكري لزمام الأمور في البلاد.

لا يترك الكاتب للقارىء أي مجال للحيادية الشعورية فهو يجعلك تعيش معه الحدث بأدق تفاصيله بوجعه وحزنه، بفرحه وأمله، بثورته وغضبه وعنفوانه. بل يجعلك شريكاً بالحدث وببنائه فتشعر أنك تسير في شوارع مصر وتُزّج مع الثوار، وكان الكاتب واحداً منهم، في الزنازين. وتشعر بحنجرتك، تتألم من شدة الهتاف فتفرح بفرحهم وتحزن بحزنهم لأنك تصير واحداً منهم. وقبل أن ينتهي الكتاب تشعر أن خارطة مصر الجغرافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، تقف أمامك بوضوح وأن بامكانك الأن أن ترسم خارطة جغرافية مصر لأنك تعرفها بكل أزقتها وحاراتها وميادينها. وتصير، مصرياً حتى وان لم تملك حقوق المواطنة. كيف لا والروح الثورية تجتاحك وتستفزك لتأخذ دوراً في هذا الحدث التاريخي العظيم.

الكتاب سردي حيناً وحواري في أحيان أخرى، آني تارة، تاريخي تارة أخرى، إلا أنه تحليلي نقدي على امتداد خط عرضه. ينطلق الكاتب من ذاته كونه جزء من الأحداث والمكان فيحدثنا عن تفاصيل الأمور ويشركنا بمجرياتها وينقلنا معه من مكان لآخر ومن حدث لآخر ويعرفنا على الأشخاص من حوله، فنعيش معه الحدث. يتنقل الكاتب بسلاسة وبأسلوب بارع لا يدع الملل يدخل قلبك، رغم ما يحويه من تفاصيل، بل على العكس يشدك أكثر. يتنقل ما بين الماضي والحاضر ويقوم بربط تاريخي منطقي بين الثورات والانتفاضات المختلفة التي حدثت في مصر ويشاركنا بمعلومات تشرح لنا وتوضح هذه العلاقة التاريخية والتي تؤكد مقولته، أن ثورة 25 يناير لم تكن وليدة صدفة وإنما سبقتها ومهدت لها ثورات سابقة، كثورة عمال المحلة عام 1980 وثورة عام 1977 التي أسماها السادات "انتفاضة الحرامية".

من خلال تصفح الكتاب تنتبه أن الكتاب لا ينفصل عن الكاتب الذي هو الثورة بذاتها، هو وأبناء جيله ومن سبقوه من رعيل مهد للثورة بتجلياتها يوم 25 يناير. فأحمد بلال، الكاتب الشاب الثوري المحلاوي، والذي يتنقل ما بين المحلة والقاهرة، بين ميدان الشون وميدان التحرير،  يعيش الحدث ويصفه ويأخذ دوراً فاعلاً في بلورته وبنائه مجنداً من حوله من الشباب متاثراً بمن سبقه من قيادات الثورة من جيل السبعينيات. محباً لهم ومتمثلاً فيهم يخلق أحمد ورفاقه حدث ثورة يناير 2011.

من خلال التقدم في صفحات الكتاب نتعرف أكثر وأكثر على عوالم الكاتب، بشخصه ومواقفه وأعماله، ونعلم أكثر أنه إضافة لعمله السياسي يعمل كصحفي مختص بالشؤون الإسرائيلية في صحيفة "المصري اليوم". وتستشعر لدى الكاتب في ذات الوقت الروح الثورية والتحدي والفخر بالانتماء المصري والمسؤولية وروح الفكاهة ببساطتها وطيبتها. وبالاشتراكية كأسلوب حياه وفكر.

يشير الكاتب إلى أن العقد الأخير على الأخص كان، عملياً، عقد الثورة حيث شهد تطوراً وتصعيداً لحركة الاحتجاج المصرية، ويبين لنا أن الثورة لم تكن وليدة صدفة وأن ما حدث في 25 يناير 2011، كان انعكاساً لذروة الحالة الثورية، وثانياً أن ما حدث ذلك اليوم ليس من فعل شباب الثورة دون غيرهم، بل ويؤكد لنا أن الكتاب يتمرد على مفهوم "ثورة الشباب" مشيراً إلى أن الثورة كانت نتاج تراكم نشاط سياسي ثوري تاريخي قام به جنود بقوا مجهولين نوعاً ما، بابتعادهم عن الأضواء “الهوليودية” التي يلهث عادة خلفها الساسة المحنكين، واختاروا أن يكونوا الجندي المجهول في ثورة "العيش والحرية والعدالة الاجتماعية" التي انطلقت علنيتها في مصر في يناير من العام ذاته. هذه الثورة التي حلمت بوطن حر ديمقراطي. هدف هؤلاء "الجنود الثوريين" لم يكن الأضواء بل الوطن وحريته.

يقول بلال بكلماته الثورة: "ليست تاريخاً منفصلاً عما قبلها، الثورة ليست إلا صفحة في كتاب التاريخ النضالي للشعب المصري، وليست إلا تتويجاً لعقود من النضال ضد القمع والديكتاتورية". ويتناول انتفاضة الطلاب والتي تلتها انتفاضة شعبية، وإقامة اللجنة الوطنية العليا للطلاب، حيث شارك الشاعر أمل دنقل فيها وكتب قصيدته الشهيرة "الكعكة الحجرية" والتي وصفت اعتصام 1972 وانتفاضة الخبز 1977 وحتى الثورة الشعبية عام 2011، والتي يسميها الكاتب “الكعكة الحجرية الثانية” وكلها أحداث وقعت في يناير. والأخيرة استمرت حتى فبراير.

من خلال الكتاب نتعرف على كثير من مراحل الثورة التراكمية في مصر وعلى كثير من الشخصيات النضالية، والكثير منها شخصيات معروفة محلياً، لكن لم تحظ بالشهرة أو بالأضواء. حيث يشدد الكاتب على أن الثورة لم تكن فقط "ميدان التحرير" الذي كان "رمز الثورة وقلبها النابض"، بل أن الثورة "موجودة في كل مكان في مصر، في الميادين المختلفة، والشوارع الممتدة على كامل التراب المصري". ويؤكد على العلاقة المباشرة  بين ما حدث هناك في ميدان التحرير في 2011 وبين ما حدث في ميدان الشون بالمحلة عام 2008، وهي البلدة العمالية ذات التاريخ النضالي، والتي كانت بالنسبة لمصر بمثابة "بروفة الثورة في انتفاضة المحلاوية، ضد نظام مبارك، التي استمرت على مدار يومي 6 و7 أبريل". ينوه بلال أن كونه ابن المحلة نفسها يجعله "متابع لتاريخها وحاضرها النضالي، كما هو الحال مع العديد من المدن المصرية".

وعن نوعية شباب الثورة يؤكد بلال من خلال نظرة نقدية، هادفة إلى إحقاق الحق، على مساهمته من خلال الكتاب ببيان الصورة الخاطئة النمطية عن شباب الثورة التي حصرتهم بشريحة الشباب المثقف الجامعي، ويشير إلى: "أن الثورة اجتذبت منذ أيامها الأولى أعداداً كبيرة من الشباب المهمشين، وساكني المناطق العشوائية والفقيرة، وأيضا أطفال الشوارع "الذين كان لهم نصيباً كبيراً في الشهادة والدفاع عن الميدان على الرغم من محاولات البعض إنكار وجودهم من الأساس". لقد أطلق بلال على كتابه اسم "هوامش الثورة" وأهتم أن يؤكد للقارئ من خلال أسلوب الحوار المباشر وعقد عقده مع القارئ أن الكتاب "لا يشكل تأريخاً ليوميات الثورة بقدر ما هو هوامش على دفترها"، إلا أننا كقراء ندرك ومنذ الأسطر الأولى للكتاب، أنَّ الكتاب ما هو إلا "الثورة" بحالها بأدق تفاصيلها وإرهاصاتها وتفاعلاتها.

يفعل بلال ذلك تواضعاً وإيماناً منه أنه ينطلق من قاعدة مفادها أن "أي تراكم كمي ينتج عنه تغيير كيفي" وأنه لا يتخيل إطلاقاً أن يستطيع شخص أن يحلل أو يقرأ أو يؤرخ لأي حدث دون أن يطبق هذه القاعدة عليه، وإلا فإنه لن يكون قادراً على معرفة الأسباب الحقيقية وراء هذا الحدث وقد ينسبها إلى أسباب أخرى، قد تكون خاطئة في مجملها أو في بعضها". لكنه لا يعرف أنه يخط لنا تاريخ الثورة بأدق تفاصيلها وبأبعادها التاريخية والسياسية الاجتماعية الاقتصادية.

------------------

*جنان عبده: باحثة مختصة في شؤون المرأة والشباب العربي، وناشطة ضمن حركة التضامن المتصاعدة مع الأسرى الفلسطينيين.