المفاوضات: بين المؤامرة والمناورة (قراءة في التطورات السياسية الأخيرة)

بقلم: م. تيسير محيسن*

قبل انتهاء المهلة المحددة لجولة المفاوضات الحالية بأيام، اتخذ المجلس المركزي الفلسطيني قراراً يربط الاستئناف بالتزام إسرائيلي واضح بمرجعية حدود عام 6719وقرارات الأمم المتحدة، وبالوقف الشامل للاستيطان وبتنفيذ الالتزامات والاتفاقات السابقة.

كان الرئيس محمود عباس قد استبق انعقاد المركزي وانتهاء المهلة الزمنية، بثلاث خطوات، بدت للبعض حاسمة وجريئة وللبعض الآخر تكتيكية وبلا جدوى: محاولة إعادة ترتيب أوضاع حركة "فتح" الداخلية بحسم الخلاف مع القيادي محمد دحلان وتياره، الاتفاق مع حركة "حماس"، وأخيراً التوقيع على طلبات انضمام لعدد من الاتفاقيات الدولية.

تباينت ردود الأفعال وتعددت مدارس التفسير والتأويل. تعنى هذه المقالة بالإجابة على سؤال: هل تندرج تكتيكات الرئيس ضمن سياق "المؤامرة" التي تحاك لتصفية القضية الفلسطينية عبر التفاوض كما يقول البعض، أم خروجاً عليها وتهيئة الأجواء لمجابهتها كما يراهن آخرون؟ وهل في الأمر، أساساً، ثمة مؤامرة؟ أم أنه منطق الصراع ضمن موازين القوى في عالم شديد التعقيد وسريع التغير ويموج بالتناقضات في المصالح والأهداف؟

في الواقع، اتسم العقل السياسي الفلسطيني، ربما منذ زمن النكبة، بالالتباس الشديد حيال تفسير ما يحدث وفي تحديد الأهداف وفي استنباط أدوات الفعل الممكن لتحقيقها. وبالرغم من وجود المؤامرة، أي التدبير والمكر والتخطيط المسبق، غير أن ارتياح العقل السياسي لنظرية المؤامرة في تفسير الأحداث، أفقده القدرة على فهم ديناميات الصراع وإدارته على النحو الذي يجنبه مزيداً من الخسائر، ناهيك عن تحقيق الأهداف والغايات الوطنية المنشودة.

قدم الفلسطيني روايته حول الصراع بوصفها "سلسة من فصول مؤامرة مدبرة". وربما هذا ما يفسر أنه غالباً فعل الأشياء الخاطئة لأسباب صحيحة. وهذا يعكس عدم قدرته في أغلب الأحوال على فهم الأزمة (بوصفها حالة من عدم اليقين أو وقوع حدث مفاجئ أو تهديده لأهداف هامة أو الحاجة إلى التغيير). يفسر الشعور بالعجز وانعدام اليقين اللجوء إلى نظرية المؤامرة وإحالة ذلك لأسباب "قدرية". اقترنت المؤامرة في الفكر السياسي الفلسطيني دوماً بالأزمة بالمعنى الذي أشرنا إليه.   

المؤامرة تعطل الفهم الموضوعي للأحداث والحقائق، تنكر مسؤولية الطرف الضعيف، تنّظر لعدم القدرة على التغيير وتخفي العجز أو القصور الذاتي. تركز على حوادث منعزلة لترتب نتائج أساسية عليها، مع إغفال الحقائق المحورية. الأهم أن المؤامرة تعطل القدرة على استخدام منهجيات ومقاربات لتحليل الصراع، طبيعته وأبعاده وأسبابه وأطرافه، لتقدم تفسيراً أدق وأعمق تستند عليه التدخلات المطلوبة والممكنة ووسائل تحقيقها. من هذه المقاربات، مقاربة الاقتصاد السياسي، أو مقاربة الهيمنة، أو توازن القوى وغيرها.

وكعادتهم، منذ عشرين عاماً، عند كل جولة تفاوضية جديدة، يثير الفلسطينيون ذات الأسئلة ويطرحون ذات الشكوك حول الجدوى والنتائج، وغالباً تحتل نظرية المؤامرة موقعاً أساسياً في تأويلاتهم وتحديد مواقفهم. بالتأكيد، يمكن اعتبار المفاوضات فضاء معتما خلف الكواليس للتآمر وتمرير المخططات. كما يمكن النظر إليها بوصفها ساحة مكشوفة للصراع تنعكس فيها موازين القوة وتتجلى الحنكة السياسية، وتؤول كأي معركة إما إلى ربح صاف أو خسارة محتمة، وإما إلى توازن يخلق حالة سكون إلى حين تبدل علاقات القوة على أرض الواقع بمؤثرات إضافية. في هذا الصدد، تصبح العبارة التي يرددها الكثيرون "فاوضنا عشرين عاما ولم نحقق شيئاً" خالية من المعنى. وأيضاً، تصبح المسألة ليست الذهاب إلى التفاوض أو عدم الذهاب، وإنما فهم السياق وتحولاته واتجاهات القوة فيه والبحث عن الفرص وإمكانية التوظيف لصالح الأهداف والغايات المعلنة، وفي العقل السياسي وكيفية إدارته للعملية من منظور صراعي/نضالي، إن لم نحقق الربح المنشود فعلى الأقل نحول دون تكبد الخسارة.

المفاوضات، شأنها شأن الحرب إلى حد كبير، لا نذهب إليها بإرادتنا أو بشروطنا بالضرورة، وذلك بالتأكيد لا يعني خسارتنا لها بسبب ذلك. يمكن أن نذهب للتفاوض بشروطنا وباختيارنا، ومرة أخرى، هذا لا يشكل ضماناً لتحقيق مكاسب أو حتى الحيلولة دون وقوع خسائر. تبدو المسألة أكثر تعقيداً مما يظن البعض، وعليه ليس من الحكمة مقاربتها من منظور المؤامرة.

لا يصعب القول أن غالبية الفلسطينيين ينظرون للعملية التفاوضية بعدم الرضا، ولديهم دائماً نفور واضح تجاهها. لا يعود الأمر إلى اعتبارات سياسية بالضرورة، أو لمعرفة يقينية بأن خيار التفاوض لن يفضي إلى تحقيق طموحاتهم ولن يجبر إسرائيل على الانصياع والتراجع. وإذا كان الأمر يتعلق بعدد السنيين التي أمضوها في المفاوضات ولم تسفر عن شيء، فالأمر ذاته يمكن قوله بخصوص المقاومة بأشكالها، فهي لم تسفر كذلك عن تحقيق أهدافهم الوطنية.

إن الأهوال التي كابدها الفلسطينيون جراء النكبة وما تلاها رسخت في وعيهم قناعة بأنه لا يمكن هزيمة المشروع الصهيوني إلا بالقوة، فما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة. ولأسباب، يقع بيانها خارج إطار هذه المقالة، اقترن مفهوم القوة لديهم أو لدى غالبيتهم، بالقوة العسكرية المجردة. ومع ذلك، وبعد 22 عاماً، احتلت العملية التفاوضية حيزا معتبرا في الخطاب والسلوك السياسي الفلسطيني، حتى يمكن القول أنه بات للتفاوض اقتصاده السياسي، وتشكل حوله حقل معرفي وثقافة خاصة به. 

انقسم الفلسطينيون فيما بينهم إلى 3 فئات فيما يتعلق بالتفاوض وعملية التسوية، تعكس إلى حد كبير الاتجاهات الثلاثة في الفكر السياسي الفلسطيني: الاتجاه التجريبي، الاتجاه العدمي، الاتجاه العقلاني. يمكن التمييز بين هذه الفئات/الاتجاهات باستخدام فكرة "المؤامرة" كمقولة تحليلية.

فأما الفئة الأولى، فتحسب غالباً على الاتجاه التجريبي. المفاوضات بالنسبة لها خيار أساسي إن لم يكن وحيدا، وهو خيار لا يمكن إسقاطه في ظل الوضع الراهن وفي ظل المعادلة الإقليمية والدولية التي تدعم هذا التوجه وتعتقد انه السبيل الوحيد لحل الصراع.

يسقط السلوك السياسي لأصحاب هذه الرؤية فكرة المؤامرة، لكنه يشي باستبطانه فكرة المؤامرة المعكوسة. إذ يرون أنه باستخدام بعض التدابير والتكتيكات الساذجة والرهانات غير الواقعية على الولايات المتحدة الأمريكية وبتقديم كل التنازلات المطلوبة وباستجداء رضا وتعاطف المجتمع الدولي، يمكن أن يحقق الفلسطينيون أهدافهم وتطلعاتهم. "الحياة"كما عبر عنها كبيرهم "مفاوضات"، أي بمثابة سلسلة لا تنتهي من المناورات. دللت التجربة العملية على مدى تهافت هذه المدرسة وعقم مقاربتها للصراع.

وأما الفئة الثانية، وتحسب على الاتجاه العدمي أو قريب منه، فلا ترى في المفاوضات سوى مؤامرة تدبر من أطراف عدة لتصفية القضية، ومن بين هذه الأطراف ثمة طرف فلسطيني. يؤمن أصحاب هذا الاتجاه أنه لا يمكن تحقيق الأهداف الوطنية والتطلعات السياسية بالتفاوض، وأن أوسلو تسببت في انقسام الشعب الفلسطيني ونظامه السياسي وأن المقاومة حق مشروع.

في الواقع، انتهى أصحاب هذه الرؤية إلى ما انتهى إليه التجريبيون. فالمقاومة التي مارسوها آلت إلى طريق مسدود، وأظهر سلوكهم اللاحق تهافت مقاربتهم وبؤس خطابهم. أغفلوا بدورهم الجانب الصراعي ودينامياته في سياق موازين القوة وتباين المصالح وتبدل الأهداف والإستراتيجيات والتحولات الكبرى في المشهد الكوني العام.

إن التدقيق خلف مواقف هؤلاء يظهر وجود مصالح أخرى حزبية ضيقة، أو مرتهنة لحسابات إقليمية أو في أحسن الأحوال قراءة قاصرة للواقع المتغير. وإذا كانت ثمة مشكلة مع من يتصرف وكأن الحياة مفاوضات وحسب، فإن المشكلة الأكبر هي مع من يصرخ أن ثمة بدائل أخرى للمفاوضات ولا يحرك ساكنا.

الواقع أنه لا يوجد بديل للمفاوضات، لأن المفاوضات، أساساً، ليست بديلاً عن أي شيء آخر: يمكن أن نقارع العدو على الأرض ونفاوض، يمكن أن نفاوض ونلجأ إلى هيئات الأمم المتحدة، يمكن أن نذهب للمفاوضات ويمكن أن نمتنع أو نتمنع وذلك باعتبارها ساحة للصراع.

وأما الفئة الثالثة، وتحسب على الاتجاه العقلاني، فتتقاطع مع الفئة الثانية من حيث أنها لا تنكر وجود المؤامرة، وأن إسرائيل تستغل المفاوضات لتمرير مخططاتها وتخفيف الانتقادات الدولية. وفي ذات الوقت تلتقي مع الفئة الأولى في إيلاء العملية التفاوضية أهمية كبيرة. لكنها تختلف عن الفئتين في تغليب المنظور الصراعي للتفاوض.

المفاوضات ساحة نضالية كأي ساحة أخرى لمواجهة الاحتلال، وهي بوصفها كذلك تستدعي تكامل الساحات وفعاليتها وليس استبعادها أو حصر الاهتمام بساحتها فقط. يرى أصحاب هذا الاتجاه أن إستراتيجية الممانعة دون تفاوض تسهل على سلطة الاحتلال فرض الفصل العنصري "الأبارتهايد" من طرف واحد، والمضي في تفكيكبنية المجتمع والأرض وتستبعد فرص استقطاب دعم المجتمع الدولي وتأييده. وأن التفاوض دون ممانعة أو إسناد شعبي لا ينطوي على إمكانية حقيقية لإنهاء الاحتلال، بل يسهم في التغطية على ممارساته ومحاولاته المحمومة لخلق وقائع جديدة على الأرض ومن ثم تكريسها.

يدعو أنصار هذه الرؤية إلى إخراج إستراتيجية التفاوض من سياق التنابذ الفصائلي والتباين الأيديولوجي، وعوضاً عن ذلك إدخالها في سياق إستراتيجية سياسية موحدة تشتمل على ما نريد وما نقدر عليه وما يجب أن نفعله ونلتزم به (ألا نستعجل النتائج، أن نوقف تأثيرات الإقليم إلى أبعد حد ممكن، أن نمتنع عن فعل الفهلوة والاحتكام للمشاعر والعمل بأجندات فئوية) ودائماً علينا أن ندرك ما لدينا من نقاط قوة ونقاط ضعف، وأن العالم من حولنا مثلما يشتمل على الكثير من التهديدات يتضمن أيضاً العديد من الفرص.

ويرى هؤلاء أن إسرائيل تحاول أن تتخلص من الفلسطينيين أو أن تجبرهم على الاستسلام، بينما الفلسطينيون لا يستطيعون التخلص منها، كما يجب ألا يستسلموا لها، وبالتالي ليس أمامهم إلا دفعها نحو شكل من أشكال التكيف مع وجودهم والانصياع إلى بعض ما يترتب على هذا الوجود. المفاوضات واحدة من الساحات الرئيسة التي يجب عليهم ألا يغادرونها برعونة أو استخفاف. ولكن، في ذات الوقت، عليهم الانتباه، فإسرائيل تجهد من أجل تحويلها إلى ممر إجباري للاستسلام وليس لحل الصراع.

أثارت الخطوات والقرارات التي اتخذها الرئيس عباس لغطا كبيراً، فمن قائل أنه يسعى إلى تهيئة الأجواء لرحيله وتسليمه السلطة بشكل آمن والحفاظ على صورة مشرقة له في وجدان شعبه (استعاد وحدتهم، عاقب إسرائيل بتحميلها مسؤولية الفشل، لم يوقع على أي تنازلات تمس بالحقوق الثابتة) وذلك كله بعد الانجاز الكبير المحسوب له بالحصول على اعتراف العالم بفلسطين دولة مراقب في الأمم المتحدة.

ومن الناس من يرى أن الأمر لا يعدو عن كونه مجرد تكتيك للحصول على غطاء للعودة غير المشروطة والإكراهية للمفاوضات تحت الضغط الأمريكي وانسجاماً مع فلسفة "الحياة مفاوضات"، إذ تخلو جعبته من أي خيار آخر، وأن رغبته في الرحيل لا تعني بالضرورة رغبته في وقف المسار الحالي للمفاوضات.

وجهة النظر الثالثة ترى بداية تحول حقيقي في سلوك الرجل انعكس في خطابه وخطواته وقراراته الأخيرة، وفي اهتمامه غير المسبوق بمجريات الأمور داخل المجلس المركزي. يفترض أصحاب هذه الرؤية أن عباس ينتقل فعلياً من منطق "الحياة مفاوضات" إلى اعتبار التفاوض ساحة نضالية تستلزم ترميم شتات قوته وتوجيه رسائل حاسمة لكل من يعنيه الأمر والإقدام على تنفيذ خطوات لم يجرؤ على القيام بها من قبل.

في كل الأحوال، ليس خافياً، أن الرجل "المصاب بالإرهاق والإحباط"، على حد قول صحيفة الغارديان، يدرك أن المفاوضات مع الحكومة اليمينية لن تفضي إلى نتيجة. وبالتالي عليه قبل مغادرته المشهد أن يفتح مسارات جديدة للفعل السياسي الفلسطيني. ولعله يصدر عن قناعة في ذلك أنه إذا كان الحل الانتقالي الذي بحث عنه دوما وسعى إليه قد فشل، إلا أن الوصول إلى حل دائم دونه خَرْط القَتاد في ظل انهيار النظام الإقليمي.

لا شك أن الرئيس فيما تبقى له من وقت سيسعى جاهداً، وقد استمال "حماس" إلى جانبه وضمن الغطاء العربي ودّعم أركان شرعيته المهزوزة، إلى "خرط القتاد" (مثل يقال في استحالة تحقق الشيئ) عبر تمديد المفاوضات وعدم إغضاب أمريكا. يقول البعض أن الحنكة السياسية التي يتمتع بها الرئيس ليست هي التي يقتضيها خيار "ما بعد رمي القفازات في الوجه" وإنما الجرأة السياسية.

لمحاولة فهم إستراتيجية الرئيس الجديدة والحكم عليها، لابد من قراءة العقل السياسي له. من الواضح أن الرئيس عباس يتعامل مع هذه اللحظة السياسية بوصفها محطة حاسمة؛ بالنسبة له شخصياً، وبالنسبة للرؤية الأمريكية في المنطقة، وبالنسبة لمصير العملية السياسية برمتها. الرئيس يؤمن أن المفاوضات هي الخيار الوحيد، وما عدا ذلك فعوامل قوة يمكن تجنيدها لصالح المعركة الرئيسة من وجهة نظره، بالاستحضار أو بالاستبعاد أحيانا.

تستند رؤية الرجل إلى قناعة مفادها أن الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين لن يحسم، إذا قدر له أن يحسم، في أي ساحة أخرى باستثناء ساحة التفاوض. ويراهن الرئيس في هذه الجولة الفاصلة بالنسبة له إما على انتزاع ما يعتقد أنه يلبي الحد الأدنى من تطلعات الشعب الفلسطيني وأهدافه، وإما أن يقطع الطريق على المخططات الإسرائيلية الهادفة للإجهاز والتبديد ويحملها وزر الفشل وتبعاته.   

التلويح بحل السلطة: ربما يدرك الأمريكان والإسرائيليون أن الفلسطيني الوحيد القادر على حل السلطة، في هذه الأوقات، هو محمود عباس بالذات. فهو عرابها والقابلة القانونية التي ولدت على يديه. ولما كانت السلطة مصلحة أمريكية وحاجة إسرائيلية ومطلباً دولياً، فإن جميع الأطراف تأخذ التهديد بحلها أو تحويلها دولة تحت الاحتلال على محمل الجد وتخشى من تنفيذه.

حل السلطة يعني خلط الأوراق وعودة الصراع المفتوح ونهاية عملية استثمرت فيها مليارات، كما يعني - وهذا هو الأخطر، عودة إسرائيل لتحمل تبعات إدارة شؤون ما يقرب من 4 ملايين فلسطيني بموجب القانون الدولي بوصفها دولة احتلال.

وعلى عكس ما يتوهم البعض، الأمر المقلق لإسرائيل ليس وقف التنسيق الأمني، فهذا أقل الشرور، وإنما اضطرارها عاجلاً أم آجلاً، إذا ما حلت السلطة، لإدامة احتلالها البشع والمكشوف مع ما سوف يجلبه من سخط دولي وقلق داخلي وردود فعل فلسطينية عنيفة. وقد تلجأ في ظل هيمنة اليمين إلى طرد السكان وضم الأراضي، أو ضم الأراضي بمن عليها من السكان، وهما خياران قاتلان لإسرائيل.

التلويح بحل السلطة هو عكس لاتجاه الضغط والابتزاز، لكن حل السلطة فعليا ومباشرة وبخطوات متسرعة قد يجلب نتائج عكسية ويوفر لإسرائيل ذرائع للضم والفصل والطرد. المناورة التي يقودها الرئيس قد تفضي إلى نتائج أفضل وأضمن، وهذا ما يروع قادة الاحتلال.   

المصالحة: عبرت إسرائيل عن غضبها تجاه المصالحة. يدرك الرئيس أن السبب الحقيقي لهذا الغضب هو عكس ما يعلنه قادتها، إسرائيل لا تخشى اقتراب عباس من برنامج حماس السياسي، بل العكس تماماً هي تخشى من اقتراب حماس من برنامجه.

في خطوته الأخيرة نحو المصالحة، أراد الرئيس أن يوطد أركان شرعيته، وأن يزيل من سجله الكفاحي وصمة عار الانقسام، والأهم أن يعيد الاعتبار لفكرة الوحدة بوصفها أداة نضالية في مسعاه الأخير وهو يواجه تعنت الحكومة الإسرائيلية على طاولة التفاوض، فإن حصل على ما يعتقد أنه يلبي الحد الأدنى من حقوقنا ضمن تأييد حماس أو على الأقل صمتها، وإن فشل نقل البندقية من كتف إلى كتف آخر.

قد يزعم البعض أن "حماس" لم تقترب من برنامج الرئيس وأنها اضطرت للمصالحة لحسابات فئوية خاصة، وأنها سرعان ما سوف تتنصل. في الواقع، الرئيس لا يراهن على أكثر من ذلك في هذه اللحظة، إذ يكفيه أن يحول ورقة "حماس" والانقسام من الضغط عليه وإضعافه في ساحة الصراع مع الاحتلال، إلى ورقة يلوح بها هو ليفزع الاحتلال وحكومته: إشارة للبدائل والخيارات، المصالحة المؤسساتية يمكن أن تتحول إلى إجماع سياسي باتجاه يصعب الأمور على إسرائيل، ليس بجلب العقلاء إلى ناحية التطرف، بل العكس تماما أي بسحب البساط من تحت أقدام التطرف الفلسطيني لتسقط ذرائع إسرائيل. تحالف الرئيس مع حركة تعلن إسرائيل أنها متطرفة، يخيف الجمهور الإسرائيلي العادي، وسحب الذرائع يربك النخبة السياسية الحاكمة في إسرائيل.

الانتخابات: نقل عن الرئيس عزمه "سأجري الانتخابات بحماس أو بدونها". والحال أنه في لقاءاته مع وسطاء المصالحة، وفي تصريحاته كان يصر دوماً على الانتخابات. وعلى أهمية هذا الأمر غير أنه من الحكمة طرح سؤال: ماذا يريد الرئيس من الانتخابات؟ ولماذا؟ لا يمكن أن نعزو الأمر إلى إيمان الرجل بالديمقراطية والتداول السلمي للسلطة، ولا إلى كونها مطلباً خارجياً ضاغطاً عليه.

في اعتقادي أن الرئيس يدرك أن الطريقة الوحيدة للتغلب على التطرف الداخلي دون حرب أهلية كما في الجوار، وبالتالي تكريس عمليات بناء الإجماع، تكمن في الانتخابات. كما يعتقد أنه فقط بالانتخابات يمكن أن ينسحب من المشهد السياسي دون أن يتسبب في انهيار النظام ودخوله حالة من الفوضى، وكما عبر هو نفسه، يرغب الرئيس في تدعيم أركان شرعيته المهزوزة بما يمكنه من المضي قدما في برنامجه، وليس من سبيل له سوى الانتخابات؛ إذ تنقصه كثيراً المصادر الأخرى للشرعية وخصوصاً الشرعية الثورية.

أخيراً، يرغب الرئيس في استخدام موضوع الانتخابات الذي ترفضه إسرائيل ولن تسمح به إلا في سياق اتفاق سياسي، أداة للضغط عليها على طاولة المفاوضات وكسب تأييد المجتمع الدولي وإحراج أطرافه المتواطئة مع إسرائيل. يدرك أن إعادة ترتيب هرم القيادة وتفعيل دور المؤسسة وتعزيز المشاركة يمكن أن يتم بدون انتخابات، بل إنها حتى لا تشكل بالنسبة له أولوية. الإمساك بورقة الانتخابات توفر للرئيس ممراً آمنا إذا ما قرر الانسحاب، وأداة لتحسين موقفه التفاوضي إذا ما أراد أن يمضي في هذا الاتجاه. 

الفرصة الأخيرة: حذرت صحيفة الغارديان من أن عباس هو الفرصة الأخيرة بالنسبة إسرائيل. وستندم حكومة نتنياهو كثيراً إذا ما فوتتها. في الواقع، يتخذ البعض من هذا القول حجة على الرجل واتهامه. فإذا كان يشكل فرصة أخيرة لإسرائيل، فهو أيضاً فرصة ضائعة بالنسبة للفلسطينيين.

يرغب كثيرون من بين ظهرانينا في تفويت هذه الفرصة، إما لحسابات فئوية وإما لتقديرات ترى أنها فرصة بائسة لا تستحق العناء، وإما لرؤية تقول أن العالم يشهد تغيرات حاسمة سرعان ما سوف تفتح أمامنا فرصاً أفضل، فلم الاستعجال؟

في تقديري أن خروج عباس من المشهد السياسي دون تحقيق حلمه وبرنامجه المتمثل في حل الدولتين، قد يؤدي إلى فرط عقد الحركة الوطنية الفلسطينية الحالية باتجاهين: انبثاق قيادة ثورية جديدة، في حاجة إلى اعتراف العالم وتثبيت أركان سلطتها وضمان الإجماع الفلسطيني والعربي عليها، ما يعني اضطرارها إلى العودة إلى البداية وانفتاح الصراع على كل الاحتمالات، بما في ذلك احتمال تمكن إسرائيل من الإجهاز الكامل على القضية الوطنية.

الاتجاه الثاني استمرار هرم القيادة الحالي مع رأس جديد، سقفه أدنى كثيراً من سقف عباس، ما يجعله يذعن لإملاءات إسرائيل ويعمل بموجبها، فيقبل بما لم يقبل بها سابقوه، بكلمات أخرى استيلاد "روابط قرى" من بين ظهراني الحركة الوطنية التي انفرط عقدها للتو.

بالنسبة لإسرائيل، الاتجاهان، من وجهة نظر عقلائها، ينطويان على خطر تفجر الأوضاع ورفض الشعب الفلسطيني الذي لن يطول حتى يتحول إلى شكل من أشكال العنف. وفي تقديري أنهما ضاران بالنسبة للفلسطينيين أيضاً، حتى وإن بدا للبعض أنهما قد يعيدانا إلى البدايات الرومانسية للنضال الوطني، فذلك لن يفيد إلا في سياق تغيرات دراماتيكية في السياقين الإقليمي والدولي لصالح الفلسطينيين، ودون ذلك لن يكون سوى مزيد من المعاناة.

المؤشرات الحالية ولفترة طويلة تقول أن عودة الصراع المفتوح سيكون لصالح إسرائيل. عباس هو النقطة الفاصلة بين زمنين: هو نتاج كل ما سبقه وعاكس له وحامل لمضامينه، وهو ضمان هذا العقد، بعده هي مرحلة انفراط العقد (رحلة تيه جديدة) وضياع فرصة لن تتكرر بالنسبة لإسرائيل.

بعضنا يفضل الولوج في هذه المخاطرة، لأنها على الأقل تفتح على كل الاحتمالات بالرغم مما سوف يصاحبها من أهوال. وهذا الانحياز سليم وضروري إذا استمرت إسرائيل سادرة في غيها متنكرة للحقوق والحلول الوسطى، إذ لا بد من قلب الطاولة وليخسر الجميع، وهذا بالضبط ما يخشاه عقلاء إسرائيل وأنصارها في النخبة السياسية الأمريكية.

يمكن رؤية هذا الانحياز الحذر والعقلاني والتدريجي في إستراتيجية عباس، أكثر مما هي موجودة في أي إستراتيجية أخرى. فإن لم نحصل على الحل الوسط العادل والمشرف، فليكن انتقالنا للمخاطرة التاريخية بأقل الخسائر وبالإصرار على تحميل إسرائيل المسؤولية أمام العالم وأمام شعبها. هذه هي الآلية التي بموجبها وعن طريقها إما أن نحقق حل الدولتين، أو نلج بداية الطريق نحو الدولة الواحدة دون كبير خسارة أو فقدان نقاط قوة موجودة.

إن الذين يمقتون التفاوض ويميلون إلى إستراتيجيات المقاومة العنيفة، يغفلون حقيقة أن المفاضلة بين الأمرين مركبة ومعقدة: مكاسبنا وخسائرنا في حال التفاوض أو المقاومة العنيفة مقابل مكاسبهم وخسائرهم. يحدث/يمكن أن يحدث أن تكون خسائر إسرائيل في التفاوض مع كل ثغراته، أهم كثيراً بالنسبة للقضية من مكاسبنا الضئيلة في المقاومة العنيفة. ومكاسب إسرائيل من العملية التفاوضية لا تقاس بفداحة خسائرنا لو اندلعت المواجهة المسلحة العنيفة، فمكاسبها في نهاية المطاف هي مكاسب قوة احتلال، بينما خسائرنا قد تخرجنا ولو إلي حين من دائرة الصراع والفعل السياسي وتوقع بنا نكبة جديدة/شتات جديد.

قد لا تكون المفاوضات الحالية على النحو الذي تدار به قادرة على تحقيق هذه المعادلة، وقد لا تكون سياسة الرئيس هي الأفضل، لكننا نستطيع تقويمها وتعديل مسارها بينما في صراع القوة المجردة نصبح أكثر عجزاً باعتبارنا الطرف الأضعف. بالطبع هذا ليس حكما قطعياً بقدر ما هو عملية تاريخية تتغير بتغير الظروف وتبدل علاقات القوة.

إسرائيل لا تقف مكتوفة الأيدي: يراهن اليمين الصهيوني الحاكم على إخراج الاتجاه العقلاني من دائرة الفعل والتأثير. المواجهة مع الاتجاهات المتطرفة بالنسبة لهم تبرر لهم فعل أي شيء، تخفيف الضغط الدولي، يتيح لهم فرصة أفضل لاستغلال لحظة انهيار الإقليم. وفوق كل ذلك، ينسجم مع الرؤية الحاكمة المستندة إلى فكرة الردع وفرض الأمر الواقع بالقوة.

إسرائيل سوف تعطي عباس فرصة أخيرة لتختبر إلى أي مدى سوف يمضي بعد التحول الملحوظ في سياسته، ستبدأ حملة دولية لإظهاره كمن انتقل إلى مواقع التطرف، ستزيد ضغوطها وابتزازها لضمان أن تكون خطوته مجرد إعادة إنتاج لذات السياسة السابقة. فإن رأت العكس، ستأخذ بتضييق الخناق عليه، محاصرته، التحريض على إخراجه من المشهد واستبداله، وقد تجازف في سبيل ذلك بإنعاش فرص بقاء غزة تحت سيطرة "حماس" أو تسهيل تحولها بقوة الأمر الواقع إلى دويلة فلسطينية وتتخذ خطوات تتعلق بضم أجزاء من الضفة الغربية كما يهدد عتاة اليمين في إسرائيل.

فإذا قلنا أن هذه هي إستراتيجية عباس الجديدة، وهي لا تقوم على مغادرة ساحة التفاوض وإنما اعتبارها ساحة نضالية، فعليه أن يعيد النظر في مضمون التفاوض؛ إذ لا معنى للمفاوضات إلا بوصفها رداً على إستراتيجية إسرائيل المتمثلة في مفاوضة العالم وذاتها من خلالنا، حيث يجب علينا أن نفاوض إسرائيل من خلال العالم وذاتنا (وهو ما يعني العودة إلى الأمم المتحدة، أو توسيع جبهة التضامن العالمي وفضح ممارسات إسرائيل، وتأكيد المضمون الكفاحي للوحدة الوطنية، تفعيل المقاومة الشعبية وتعزيز الصمود،..).

التهديدات ونقاط الضعف: لعل أبرز ما يهدد هذه الإستراتيجية في البيئة الخارجية ردود الفعل الإسرائيلية (لاسيما تحميل عباس مسؤولية وتبعات الفشل بحجة تحالفه مع حماس)، علاوة على الموقف الأمريكي وهشاشة الحالة العربية (وليس في ذلك أي غرابة).

الأخطر هو ما يتعلق بنقاط الضعف الذاتي في الوضع الفلسطيني: احتمالية فشل اتفاق المصالحة، الضغوط التي يمكن أن تمارسها النخب المستفيدة من الاقتصاد السياسي للمفاوضات على الطريقة السابقة والاقتصاد السياسي للانقسام. صعوبة فهم هذه الإستراتيجية وترويجها وكسب التأييد الجماهيري لها، وهذه النقيصة ترتبط بأهم نقطة ضعف في الإستراتيجية، وهي المتعلقة بشخص الرئيس نفسه.

ينتمي الرئيس إلى الاتجاه العقلاني، غير أن العقلانية وحدها لا تكفي لإدارة صراع من النوع الثقيل، إذ لا يكفي أن تفهم العالم وتفسره، ولكن عليك أن تسعى نحو تغييره. وينطوي السعي بالضرورة على الجرأة والمجازفة والثقة بالجماهير وتعبئتها، وهو ما يضفي البعد الثوري على السلوك السياسي العقلاني. فإذا لم يكن خلف الإستراتيجية التي يتبناها استعادة الروح الكفاحية فلن يكتب لها النجاح.

-----------------

*تيسير محيسن: عضو المكتب السياسي لحزب الشعب الفلسطيني، كاتب وباحث من غزة، عضو الهيئة العامة لمركز بديل.