حـق العــودة فــي خطــاب منظمــة التحريــر الفلسطينيــة في حُقبـة أوسلــو

 بقلم:    د. جبــرا الشوملــي

تمهيــد

خلال أقل من عامين على مؤتمر مدريد الذي عُقد في العاصمة الإسبانية في تشرين أول من عام 1991، تحت رعاية أمريكية – سوفييتية، وبمشاركة وفود من إسرائيل وسوريا ولبنان، ووفد أردني –  فلسطيني مشترك، والذي تمخّض عنه مفاوضات ثنائية بين الأطراف المشاركة، ومحادثات متعددة الاطراف لمعالجة قضايا إقليمية مختلفة، فقد أسفرت المفاوضات السرية بين منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة الاسرائيلية وبرعاية نرويجية عن اتفاق حول صيغة اعلان المبادئ بين الطرفين، وقد سبق توقيع الاتفاق النهائي في واشنطن في أيلول عام 1993، تبادل رسائل الاعتراف المتبادل بين رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات ورئيس الحكومة الإسرائيلية اسحق رابين، تضمنت تخلي منظمة التحرير الفلسطينية عن العُنف والتزامها بطرق الحل السلمي للصراع، وتعهدها بإلغاء بنود الميثاق الوطني الفلسطيني التي تُنكر حق اسرائيل في الوجود، مقابل ذلك اعترفت اسرائيل بالمنظمة كممثل للشعب الفلسطيني.

بمصادقة المجلس المركزي الفلسطيني في العاشر من تشرين أول عام 1993 على اتفاقية اعلان المبادئ (اتفاقية أوسلو 1) ثم مصادقة المجلس الوطني الفلسطيني في دورته الأخيرة في 22 نيسان من عام 1996 على الاتفاقيات الموقعة (أوسلو 1 وأوسلو 2)، يصبح من الممكن إدراج تلك الاتفاقيات خاصة اتفاقية أوسلو 1 في إطار خطاب منظمة التحرير الفلسطينية السياسي، كما يصبح ممكنا على ضوء ذلك، قراءة مكانة حق العودة في هذا الخطاب. وبالتواصل، فإن قراءة حق العودة في الخطاب السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية في إطار اتفاقية أوسلو، سيتلوه قراءة مكانة حق العودة في خطاب المفاوض الفلسطيني خلال جولات المفاوضات المختلفة، وبتسليط الضوء أكثر على مفاوضات عامي 1995 - 1996، ومفاوضات عام 2000 في واشنطن.

إتفاقيــة أوسلـــو

لم يرد في اتفاقية أوسلو أي نص مباشر أو غير مباشر يتضمن تعبير حق العودة، أو بالحدود الدنيا تعبير العودة،  وهو ما كان متوقعا بالإستناد إلى مفهوم المناخ السياسي الدولي والاقليمي والعربي الذي وُلد الاتفاق في ظله، وهو أيضا ما كان مُستبطنا في التوجهات السياسية الجديدة التي سارت عليها قيادة منظمة التحرير الفلسطينية بعد حرب الخليج الأولى. تجسد هذا الغياب أول ما تجسد في مؤتمر مدريد الذي عُقد في العام 1991، حيث أشارت وثائق المؤتمر الى أن مرجعيات عملية السلام هي قرارا مجلس الأمن 242 و338، وحيث أن هذه المرجعيات لا تتناول قضية اللاجئين من منظور حق العودة وإنما تنظر إليها في حدود المطالبة بحلها حلا عادلا، دون الإشارة الى ماهية هذا الحل العادل، فإن النتيجة الطبيعية تضحي في تناول قضية اللاجئين تناولا تفاوضيا دون مرجعية واضحة ومحددة المعالم.

على نفس القاعدة، تناول إتفاق أوسلو قضية اللاجئين الفلسطينيين. ففي النصوص الأساسية لإعلان المبادئ، نصت المادة الأولى على ما يلي: "ان هدف المفاوضات الاسرائيلية – الفلسطينية، ضمن عملية السلام في الشرق الأوسط هو أن تؤدي الى حل نهائي على أساس قرارى مجلس الأمن 242 و 338". أي أن اتفاق أوسلو هو صدى لقرار 242 وتطبيق عملي لنموذجه، من حيث الاعتراف باسرائيل ضمن نطاق جغرافي يرسم حدودها، وشكل من أشكال انسحابها من بعض الأراضي وإعادة تموضع وانتشار. بينما هبوط اتفاق اوسلو عن قرار224 بكل ما يمثله من نصوص ضبابية واختزالية، فهو في ترحيل قضية اللاجئين للتسوية النهائية، وهو ما أشارت إليه الفقرة الثالثة  في المادة الخامسة من اتفاقية أوسلو، حيث نصت: "إن المفاوضات النهائية سوف تغطي القضايا المتبقية بما فيها القدس، اللاجئين، المستوطنات، الترتيبات الأمنية، الحدود، العلاقات والتعاون مع الجيران، ومسائل أخرى  ذات اهتمام مشترك". أي أن قضية اللاجئين هي مسألة تفاوضية خاضعة للمساومات السياسية، ومتساوية مع مسألة الحدود والتعاون في إطار البحث والجدل السياسي والعملية التفاوضية. والخطورة لا تكمن فقط  بتصنيفها كقضية قابلة للتفاوض بما تحمله من خيارات مساومة مفتوحة، وإنما أيضا بافتقارها لأي التزامات تلزم الطرف الاسرائيلي بتنفيذها، كما دون تحديد ما هو المقصود باللاجئين المراد معالجة قضيتهم.

وقد تفاقمت الخطورة أكثر مع معنى المصطلح الذي ورد في المادة 18 من الاتفاق، وهو مصطلح Admission الذي يعني السماح بالدخول وليس Return الذي يعني السماح بالعودة. فالمصطلح الأول الذي ورد في نص الاتفاق ينفي معنى الاقامة الدائمة على الأرض، وحتى مصطلح Admission وحسب المادة 12 من الاتفاق فقد أشار الى امكانية السماح بدخول للمرحلين من نازحي عام 1967، أما لاجئي عام 1948 فقد استثنوا من نصوص الاتفاق، أي استثنوا من امكانية السماح لهم بالدخول، وأشير اليهم حسب المادة 5 من الاتفاق بالقضية المؤجلة.

النتيجة: إذا كان قرار مجلس الأمن رقم 242 يخلو من تعريف واضح لمضمون الحل العادل لقضية اللاجئين، وإذا كانت تسوية قضية اللاجئين ستكون بالمفاوضات الثنائية المباشرة، وإذا كانت المفاوضات الثنائية المباشرة تخضع في محصلة نتائجها لموازين القوى المادية على الأرض، فإن منهج  صياغة قضية اللاجئين كما وردت في نصوص اتفاقية أوسلو خاصة في المواد 1، 5، 12، و 18 قد خدم الموقف الاسرائيلي الاستراتيجي في نظرته التقليدية لقضية اللاجئين الفلسطينيين، والتي تقوم على رفض الاعتراف بحق العودة والدعوة الى التوطين، كما أضعف  بحدود كبيرة المستندات القانونية والحقوقية  للمطالب الفلسطينية بحق العودة.

هذا هو أبرز ما تمخض عنه وضع ومكانة حق العودة في خطاب منظمة التحرير الفلسطينية في إطار أبرز ما جاء في نصوص اتفاقية اوسلو، بما يدلل على أن حق العودة لم يهبط فقط عن قرار 194 وإنما تحوّل الى أشلاء مبعثرة ومبهمة في ديباجة اتفاق أكثر ما يميزه غموض مضامينه وآلياته.

حق العودة في خطاب المُفاوض الفلسطيني

بسبب كون قراري مجلس الأمن رقم 242 و 338 القاعدة الوحيدة  لبرتوكول  اعلان المبادئ، وبسبب كون بروتوكول إعلان المبادئ  قد حدد المفاوضات بشأن قضية اللاجئين على مستويين، لاجئي سنة 1967 الذين سُموا نازحين، يبحث وضعهم في لجنة رباعية ضمت فلسطينيين ومصريين واردنيين واسرائيليين، ولاجئي 1948 تناقش قضيتهم في المحادثات الاسرائيلية – الفلسطينية التي بدأت عام 1996، ثم فترت وتوقفت بعد شهور قليلة من بدايتها، فإن جدول أعمال المفاوضات قد أُحيل منطقيا الى تبادل للمعلومات الفنية، وإشاعة أجواء الثقة المتبادلة بين الأطراف المعنية. أي أن المفاوضات بعد ان دعُمت بتجزئة قضية اللاجئين بين نازحي عام 1967 ولاجئي عام 1948 وما وفّره ذلك للمفاوض الاسرائيلي من فرص قوية للمناورة والمقايضة  قد فُرغت عمليا من أى مضمون سياسي حقيقي.

يقول الباحث إيليا زريق أن جولات المفاوضات التي عقدت قبل وأثناء 1996، إضافة لعدة لقاءات جانبية، قد انصرفت كليا عن مناقشة قضايا سياسية جدية، وإنما تركزت المناقشات والمحادثات حول المستوى المعيشي للاجئين في الشتات، واقتراح برامج ذات طبيعة انسانية، وتنمية البنى التحتية الاجتماعية والاقتصادية لمخيمات اللاجئين، فضلا عن مشاريع صحة عامة، وجمع معلومات وبرمجتها، وتطوير الطاقة البشرية، والتدريب، وتوفير فرص العمل، حتى مسألة لم شمل العائلات فلم  تحقق سوى القليل على جدول أعمال المجموعات  المتفاوضة، ليجد المفاوض الفلسطيني نفسه جزء من جدول أعمال ينطوي في أبعاده العملية على معالجة حق العودة بالتأهيل والتوطين. ورغم أن المفاوض الفلسطيني كان في ختام مجموعات العمل الخاصة باللاجئين يشير في البيان الختامي الى قرار 194، فإن الطابع التقني للمباحثات والحشد الكبير من الدراسات التي كان يتلوها فريق كبير من المتخصيصين في مجالات إقتصادية واجتماعية مختلفة، وعدم وجود رابط قانوني بين قرار 194 وجدول أعمال المجموعات، قد أدى بقرار 194 أن يفقد زخمه بالتدريج، لتصبح الاشارة اليه عمل تقليدي ليس إلا. وحتى الإشارة الى قرار 194 في نهاية المحادثات كان يتم إضعافه دائما بواسطة تضمين البيان الختامي بإشارات عامة الى قرارات الأمم المتحدة بشأن اللاجئين، كما أن الإشارات الى قرارات الأمم المتحدة لم يتخطى مفعولها حدود موقف الإلتزام الأخلاقي للمفاوض الفلسطيني، فيما كانت معظم جلسات المفاوضات تركز على طرق مساعدة اللاجئين أكثر من تركيزها على مواجهة النزوح والتشتت. يقول محمد الحلاج الرئيس السابق للفريق الفلسطيني لمجموعة العمل الخاصة باللاجئين: "إن مواضيع المفاوضات قد أفسدت العملية التفاوضية، عبر انكارها المعايير الخلقية والقانونية المقبولة لدى المجتمع الدولي لأكثر من أربعة عقود، وبتعليق قرارات الأمم المتحدة عمليا، ووضع مستقبل اللاجئين الفلسطينيين تحت رحمة توازن القوى، ورهنت  حقوق اللاجئين الفلسطينيين في ما ترغب اسرائيل في التنازل عنه".

وعلى الرغم من استعصاء الحل الوطني لقضية اللاجئين وفق صيغة أوسلو كما دللت  تجربة جولات المفاوضات السابقة، ليس فقط ارتباطا بفقر النتائج التي تمخضت عن عمل مجموعات العمل الخاصة باللاجئين، وانما أيضا بسبب ما وفرته صيغة أوسلو من متكائات قانونية، وما وفرته أنظمة ولاية مجموعة العمل الخاصة باللاجئين من آليات مساعدة، رفعت من تشدد الموقف الاسرائيلي، وزادت من ضعف الموقف الفلسطيني وقدرته المحدودة على تمرير مواقف الحد الأدنى لصالح قضية اللاجئين، فإن التحدي الأكبر الذي واجه المفاوض الفلسطيني في محادثات مجموعة العمل الخاصة باللاجئين تمثل فيما عُرف "بمقترحات بيرون" أو"وثيقة رؤية" التي قدمتها الحكومة الكندية في آذار عام 1995، حيث دعت الوثيقة: "الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي الى التخلي دون مواربة عن المُحرّمات، وتوفير خيارات حرة للاجئين يستطيعون من خلالها أن يشكلوا خيارهم الحر"، وتتضمن هذه الخيارات نقاشا مفتوحا حول  العودة والتوطين والتعويض، كما تضمنت الوثيقة امكانية توطين بعض الفلسطينيين في دول اللجوء بحيث يتمتعون بكامل الحقوق الاقتصادية والمدنية، كما دعت الوثيقة الى بناء شرق أوسط جديد بدون لاجئين، ومنح الهوية لمن لا هوية له، وإحلال التنمية مكان الفقر، والضواحي مكان المخيمات، والتطبيع مكان عدم الاستقرار.

اعتبر المفاوض الفلسطيني أن إثارة هذه القضايا على هذا النحو تمثل تقدما، ورأى في الوثيقة عناصر تتخطى سقف الموقف الاسرائيلي، بينما اعتبر الموقف الاسرائيلي بلسان وزارة الخارجية الاسرائيلية الوثيقة تجاوز لحدود ولاية مجموعة العمل ودعا لمعالجة هذة القضايا في المفاوضات الثنائية والرباعية في الوقت الملائم، تمشيا مع الرؤية الإسرائيلية التي ترفض مجرد التلميح بمناقشة حق العودة، فهى ترفض الاعتراف بأية تبعة من تبعات قضية اللاجئين الفلسطينيين، حتى لو دفع غيرها ثمن هذه التبعات. ومع ذلك فإن اسرائيل قد نجحت في طي مقترحات بيرون رغم أن مضمونها هو زحزحة ناعمة لحل قضية اللاجئين بعيدا عن حق العودة، بل أن مقترحات بيرون وما حوته من عناصر ومفاهيم الحقوق المدنية والاقتصادية، والتطبيع، والتخلي عن المحرمات، بما هى في ديناميتها العملية صهر اللاجئين في المحيطات السياسية التي يعيشون فيها ومقايضة العودة بتأهيل وتوطين مهذب، كانت تتطلب عدم التراخي في خطاب المفاوض الفلسطيني. فالمقترحات في جوهرها كانت تستهدف نقل الموقف الفلسطيني من التعامل مع حق العودة  كأساس للحل  إلى التعامل مع حق العودة كموضوع من مواضيع العصف الذهني، الذي يتيح للديناميات التوطينية الانطلاق الفعلي بغطاء فلسطيني رسمي.

التحدي الثاني كان في مفاوضات قمة كامب ديفيد التي عُقدت في 11  تموز عام 2000 في واشنطن، والتي شارك فيها وفد فلسطيني برئاسة رئيس منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية الفلسطينية ياسر عرفات، ووفد اسرائيلي برئاسة رئيس الحكومة ايهود براك، وبمشاركة مباشرة من الرئيس الامريكي بيل كلينتون. وقد عُقدت المفاوضات على أساس رسالة الدعوة الأمريكية التي تضمنت مناقشة قضايا المرحلة النهائية - اللاجئين، القدس، الحدود والمستوطنات -  بهدف التوصل الى اتفاق سلام نهائي.

وصل الوفد الفلسطيني الى منتجع كامب ديفيد، مثقلا بالضغوط والمخاوف والشعور بالاحباط، فباراك أعاد التأكيد أمام الكنيست على "لاءاته الخمس" قبل أن يغادر تل أبيب الى واشنطن، فيما واصل مساعيه وضغوطه لخفض سقف التطلعات الفلسطينية من القمة، من خلال استمرار الهجمة الاستيطانية الاسرائيلية وتدهور الوضع الاقتصادي للجماهير الفلسطينية، وإصداره القرارات لقيادة الجيش باستكمال الاستعدادات الميدانية لوضع خطة "حقل الاشواك" موضع التنفيذ في حال فشلت قمة كامب ديفيد، بالاضافة الى استجابة الانظمة العربية للضغوط الأمريكية، ورفضها على ضوء ذلك الاستجابة لطلب الرئيس عرفات عقد قمة عربية موسعة أو مصغرة لدعم موقفه بشأن قضايا التسوية النهائية، وتعبير الإدارة الأمريكية عن موقفها من طبيعة مرجعية المفاوضات بلسان وزيرة الخارجية مادلين أولبرايت بقولها للوفد الفلسطيني الذي وصل واشنطن: "إن مفاوضات القمة هى المجال الوحيد أمامكم، وأن مرجعية المفاوضات هو ما يطرحه الرؤساء"، أي أن المفاوضات ستجري بدون الاستناد الى مرجعيات الشرعية الدولية.

في ظل هذه المناخات بدأت المفاوضات في كامب ديفيد بين الرؤساء الثلاث، كلينتون، عرفات وباراك، بعد ان تم تشكيل ثلاثة لجان للمفاوضات، الأولى خاصة بالقدس، والثانية لقضايا الحدود والمستوطنات، والثالثة لبحث قضية اللاجئين، فيما ترأس محمود عباس لجنة مفاوضات اللاجئين.

على الرغم من عدم صدور وثائق رسمية عن  مفاوضات كامب ديفيد، بما في ذلك تدوين خطي للأفكار التي  طُرحت في المفاوضات، فإن ممدوح نوفل المستشار الأمني للرئيس السابق ياسر عرفات في كتابه " الانتفاضة، إنفجار عملية السلام" قد كشف عما يمكن أن يكون مفيدا في هذا الصدد. يقول ممدوح نوفل: "لقد وافق باراك من حيث المبدأ على قيام دولة فلسطينية على قرابة 90% من الأراضي الفلسطينية التي احتلت عام 1967، ورفض الاعتراف بمسؤولية اسرائيل عن النكبة التي حلت باللاجئين عام 1947 – 1948، ورفض حق عودة اللاجئين الى أراضيهم حسب قرار 194، وحدد مسؤولية اسرائيل في حل قضية اللاجئين بالمشاركة في إطار صندوق دولي، وتكون مساهمتها كأي عضو في المجتمع الدولي وليس أكثر، ورفض إدراج عائدات أملاك الغائب، وطلب استبدال تعبير حق العودة بتعبير ينفي هذا الحق واقترح تعبير قضايا العودة". و يستكمل ممدوح نوفل: "وتحت ضغط الخوف الأمريكي – الإسرائيلي من نتائج فشل القمة على أوضاعهما الداخلية، وتمسك أبو عمار بموقفه بشأن المسائل المختلف حولها، خفض باراك  سقف توقعاته وتراجع عن بعض مواقفه، وأقر بتحمل إسرائيل مع الآخرين المسؤولية المعنوية عن نكبة اللاجئين وتشردهم، وقبل بعودة بعضهم الى أراضيهم التي صار إسمها اسرائيل". "أما أبو عمار فقد رفض الخوض في تفاصيل حجم ومصدر المبالغ المطلوبة لتعويض اللاجئين قبل إقرار باراك بمبدأ حق العودة والتعويض حسب قرار 194، ثم ركز أبو عمار على إعطاء اللاجئين في لبنان الأولوية في العودة، وشرح وضعهم الصعب في لبنان، واستفسر كلينتون حول عددهم، وبعد سماع الرقم 380 ألف، قال كلينتون بحضور باراك، يمكن تنظيم عودتهم في غضون 10 سنوات، وصمت باراك حسب رواية أبوعمار، ولم يعلق على نقاش كلينتون وأبوعمار، واعتبر أبوعمار صمت باراك موافقة على اقتراح كلينتون".

موافقة باراك على تحمل اسرائيل مع آخرين مسؤولية معنوية عن نكبة عام 1948، وصمته على اقتراح كلينتون بعودة رمزية خلال عشر سنوات، لا ينطوي  على تحولات جدية في الموقف الاسرائيلي من قضية اللاجئين وحق العودة، وأقصى ما يمكن وصفه بالتحولات الشكلية التي يبدو أنها كانت تهدف في الأساس الى إنجاز صفقة سياسية تقوم على مقايضة حق العودة بدولة فلسطينية على 90 %  من الضفة وغزة دون الولاية الكاملة للقدس الشرقية كعاصمة للدولة الفلسطينية، فضلا على ما تمثله هذه الصفقة من انجاز تاريخي غير مسبوق للرئيس الأمريكي التي إهتزت شخصيته بفعل الفضائح الاخلاقية التي كانت تلاحقه، أما باراك فمن بوابة الصفقة يكون قد أمن دخوله إلى قائمة عظماء اسرائيل.

وإن كان الموقف الفلسطيني في إطار تمسكه بحق العودة وفق قرار 194 قد أبدى استعدادا ما للربط بين قرار 194 وآليات تنفيذية تجزيئية، يجري فيها الحد من عودة اللاجئين الى اسرائيل بما يمكن أن يفضي في ظل حصر أي مفاوضات مستقبلية بقرار 242 إلى تجويف حق العودة من مضمونه، وهذا ما اتضح لاحقا في مفاوضات طابا في أواخر كانون ثاني عام 2001، فإن الموقف الفلسطيني العام بشأن قضية اللاجئين وحق العودة في مفاوضات كامب ديفيد كان الأكثر تطورا من جميع المواقف التفاوضية الفلسطينية السابقة التي تم تداولها بين الوفود الفلسطينية والاسرائيلية في اللقاءات العلنية والسرية داخل فلسطين وخارجها، بما يسمح بالقول أنها تجاوزت في تماسكها كل ما جاء قي مفاوضات آذار عام 1995 وأيار1996، وورقة أبو مازن – بيلين، والمقاربات التي ناقشها أبو علاء قريع مع جلعاد شير وبن عامي في مفاوضات ستوكهولم حول قضايا الحل الدائم. وقد تشكل انطباع عام فلسطيني وعربي يميز بوضوح بين صورة الخطاب الفلسطيني في مفاوضات كامب ديفيد، وصورة الخطاب الفلسطيني في مفاوضات اوسلو والقاهرة وطابا وواي ريفر وشرم الشيخ.

في المجمل تقف ثلاثة أسباب رئيسية وراء علو حق العودة في خطاب منظمة التحرير الفلسطينية في مفاوضات كامب ديفيد قياسا بتجربة المفاوضات السابقة:

السبب الأول: اتساع نطاق وزخم الحراك الشعبي الفلسطيني في الدفاع عن حق العودة، واتساع حجم مشاركة المنظمات الشعبية والمدنية الفلسطينية داخل وخارج الوطن، أهمها لجان الدفاع عن حق العودة، الائتلاف الفلسطيني لحق العودة، شبكة المنظمات غير الحكومية الفلسطينية، المنظمات غير الحكومية العربية والدولية، هذا إضافة الى سلسلة المؤتمرات الشعبية المتواصلة، في سوريا في أعوام 1993، 1994، 1996، وفي الأراضي المحتلة، مؤتمر الفارعة 1995، مؤتمر بلاطة عام 1996، مؤتمر غزة عام 1996، وفي بوسطن عام 2000، وفي كوبنهاجن عام 2000، وغيرها من الفعاليات السياسية والثقافية والأدبية التي اتسعت وتواصلت داخل الوطن وخارجه بعد توقيع اتفاقيات اوسلو وبدء المحادثات متعددة الأطراف عام 1993 والمحادثات الثنائية عام 1995. 

السبب الثاني: تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والأمنية في مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية من جراء الضغط والحصار الاسرائيلي  الذي تصاعد بعد صدامات عام 1996، رفع من وتائره  سياسات السلطة الوطنية الفلسطينية وسوء أدائها على المستويين الداخلي والخارجي، بما يشبه خناق مزدوج، كان ينذر بانفجار شعبي واسع، وهى مناخات  لم تكن تسمح باي خطوات أخرى للخلف خاصة في قضايا اللاجئين وحق العودة، حيث أن أي تراجع كان سيجعل الانفجار في وجه السلطة محتما، بينما ساهم عدم التراجع هذا مع  أسباب أخرى في اندلاع شرارات الانفجار في أيلول عام 2000 في وجه الاحتلال.

السبب الثالث: شخصية الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات وما تمثله من معاني وطنية وتاريخية عامة، وسيطرته المباشرة على دفة المفاوضات، وما يعتمل في داخله من رغبة طبيعية في أن يُخلد إسمه في التاريخ كقائد وطني كبير، وهو ما عبر عنه فعليا في مفاوضات كامب ديفيد في حديثه مع كلينتون عندما خاطبه بصريح العبارة: "لن أقبل لنفسي أن أدخل التاريخ كأحد الخونة العرب أو المسلمين أو الفلسطينيين أو المسيحيين العرب". هو سبب جدير بأن يذكر كواحد من الأسباب في تفسير تشبث الخطاب السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية بحق العودة في مفاوضات كامب ديفيد.

مــا هـو المطلــوب؟

بتوقيع اتفاق أوسلو عام 1993، ُرحل حق العودة الى مفاوضات الحل النهائي، كما اسقطت المرجعية الدولية قرار 194 من اسس الحل، واصبحت مرجعية الحل تستند على قرارى مجلس الأمن 242 و 338، وما يتفق عليه الجانبان الفلسطيني والاسرائيلي خلال المفاوضات الثنائية، ليدخل حق العودة في نفق المجهول. 

لقد عكست مسيرة المفاوضات السياسية الطويلة  في أهم محطاتها، أوسلو، مقترحات بيرون، مفاوضات 1996، مفاوضات كامب ديفيد، مفاوضات طابا، أن ميزان القوى على الأرض هو العامل الأول والرئيسي الذي فرض نفسه على مجمل العملية السياسية التفاوضية وفصولها، وليس قرارات الشرعية الدولية، وأن جميع المشاريع والمقترحات الاسرائيلية والامريكية بشأن قضية اللاجئين هي مشاريع توطينية، وفي أكثر أفكارها تفاؤلا  كانت دون قرارات الشرعية الدولية، كما دللت مسيرة المفاوضات أن سياسة الضغط والخداع والالهاء والتأجيل التي مارستها اسرائيل في جميع جولات المفاوضات على الجانب الفلسطيني كانت تستهدف إرغام الفلسطينيين على القبول بالأمر الواقع، وحيث لم تنجح إسرائيل في فرض شروطها على طاولة المفاوضات، استخدمت آلتها العسكرية لتعميق الإخلال بميزان القوى وفرض الاستسلام بالقوة الغاشمة على الشعب الفلسطيني، وهو الأمر الذي نفذه باراك في أيلول عام 2000، واستكمله شارون في آذار عام 2001، وبلغ ذروته في تموز وآب من عام 2001  عندما أُعيد اجتياح مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية وتنفيذ مجازر دموية جماعية، وتسوية مؤسسات السلطة الفلسطينية وبنيتها التحتية بالأرض. وفي ظل هذا الواقع، لا بد من التأكيد على التالي:

أولا: إن أحد الأسباب الرئيسية التي أدت الى تقهقر مكانة حق العودة في خطاب منظمة التحرير الفلسطينية هو بنيتها التنظيمية التي أضحت بنية بيروقراطية هرمة  يسهل إحتوائها وزجّها في مسارات سياسية خطرة، وهو الأمر الذي يستدعي كأولوية إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية على أسس ديموقراطية، ومغادرة آليات المحاصصة نحو آليات الإنتخاب المباشر الحر، وهي العملية التي تضمن انبثاق ميكانيزمات حماية جدية لحق العودة  في خطاب منظمة التحرير الفلسطينية وعملها السياسي.

ثانيا: يتبع ذلك، إعادة صياغة استراتيجية العمل السياسي الفلسطيني على أساس نقل ملف القضية الفلسطينية الى الأمم المتحدة، في إطار بلورة خطاب تفاوضي يستند على قرار 194، ويكون مدعوما بصيغة إجماع وطني فلسطيني حول حق العودة ورفض التوطين، ويصار تكريسه في تشريعات رسمية يسنها المجلس الوطني الفلسطيني والمجلس التشريعي. 

ثالثا: صمود حق العودة ودرء سياسات التوطين والتذويب يرتبط كعامل محوري في تعزيز صمود اللاجئين الفلسطينيين في المخيمات الفلسطينية، خاصة لاجئي الاردن، سوريا، لبنان، الاراضي المحتلة، وصياغة الخطط التي تمنع تغطيسهم في أولويات متناقضة، أي حماية وحدة خصائصهم الوطنية، بما يتطلب برامج سياسية- اقتصادية- ثقافية- تنموية صمودية، هذا الى جانب الابقاء على دور وكالة غوث وتشغيل اللاجئين كشاهد حي على إستمرار قضية اللاجئين، وتوسيع  وتطوير مستوى خدماتها المختلفة.

رابعا: إن كون حق العودة مكفول في مواد الإعلان العالمي لحقوق الانسان الصادر في كانون أول من عام 1948، ومكفول أيضا بحق تقرير المصير الذي أقرته الأمم المتحدة عام 1946، وأكدت عليه عام 1969، وغيرهما من التشريعات والقرارت الدولية، إنما يتطلب توسيع وتطوير ميدان البحث العلمي التخصصي في هذه المواد، بما يمثله من أهمية استراتيجة سياسية – واعلامية لتعزيز وتوسيع الدعم والإسناد الدولي لحق العودة. وفي إطار البعد الاعلامي، وفي مواجهة الاعلام الاسرائيلي يمكن العمل على اصدار "وثيقة العودة" بما هو شبيه بوثيقة الاستقلال، بينما وثيقة العودة موجهه بشكل أساسي للرأي العام العالمي والمجتمع الدولي ومؤسساته كوثيقة اعلامية - تعبوية توزع على نطاق  واسع  في قارات العالم.

خامسا: ان كون حق العودة متضمن بصورة صريحة في قرار 194 الذي ينص ليس فقط على حق العودة بمعناه الفردي، بل أيضا بمعناه الجماعي، أي حق عودة شعب كامل أُقتلع من أرضه بالقوه بما يحمله هذا المعنى من مدلولات الحقوق المدنية والسياسية والوطنية، إنما يدعو عدم البحث عن حلول تضعف مسؤولية اسرائيل القانونية والسياسية عما حل باللاجئين الفسطينيين من ظلم تاريخي ونزوح وتشرد، أو مساعدتها  في مخارج للالتفاف على قرار 194 الذي هو مخاطبة دولية مباشرة لاسرائيل لتنفيذ القرار، من نوع: العودة الرمزية، أو العودة لاراضي الدولة الفلسطينية، أو العودة في اطار كونفدرالية فلسطينية – اردنية، أو مقايضة اسرائيل بإقرارها المبدئي بالعودة وإقرار الفلسطينيين بتعذر تحقيقها، وغيرها من بدائل تصب في إضعاف وحدة الشعب الفلسطيني التي هى شرط رئيسي لصموده وقدرته على تحقيق أهدافه الوطنية، فضلا على خدمة هذه البدائل لمشاريع التوطين.

سادسا: مقابل ميزان القوى المختل جذريا  لصالح اسرائيل، ولتعديل معين  في ميزان القوى المجافي، ولتحسين شروط التفاوض في أية مفاوضات مستقبلية، فإن الخطاب السياسي الفلسطيني سيظل ضعيفا ومعرضا للوقوع في افخاخ الحلول التجزيئية ما لم يستند هذا الخطاب الى العمق العربي الشعبي والرسمي، حده الأدنى اجماع عربي يقوم على اعتبار قرار 194 هى صيغة الحد الأدنى العربية للوصول الى أي تسوية للصراع العربي – الاسرائيلي والفلسطيني – الاسرائيلي.

سابعا وأخيرا: في ظل استمرار هيمنة موازين القوى المجافية، فإن حق العودة يؤول موضوعيا على الممكن التاريخي وليس الممكن الراهن، أي أن إمكانية تطبيقه ليست قريبة، ولأن تطبيقه مرتبط بجملة تحولات جوهرية في العلاقات والسياسات الدولية والاقليمية والعربية والاسرائيلية، ولأن تطبيقه سيكون ممكنا أكثر عندما يغدو مصلحة عامة لجميع شعوب المنطقة ودولها، ومصلحة دولية تقتضيها مصالح السلم العالمي، فإن حماية حق العودة بمضامينه السياسية والقانونية والثقافية والأدبيه والفنية وتعميق وتطوير هذه المضامين في الوعي الاجتماعي الفلسطيني والعربي، تزداد أهميتها  اطرادا مع استمرار غياب الشروط الفعلية لتحقيقه، كي لا تحوله الظروف المجافية من زعزعة سياسية الى زعزعة ثقافية وروحية، وهذا يقتضي عمل اجتماعي عام تنخرط فيه جميع قوى المجتمع الفلسطيني بمختلف تكويناتها وحقولها التخصصية، كما أعلام الثقافة والتأريخ والأدب والفن والاعلام كل في مجاله، وفي سياق هذه الورشه الفلسطينية الكبيرة فإن بلورة مركز قيادي للجان والأطر والمؤسسات الشعبية والأهلية التي تعمل في مجال الدفاع عن حق العودة، كما توحيد خطابها القانوني والسياسي، وبلورة أليات عمل متطورة وفعالة، سواء على صعيدها الداخلي، أو على صعيد نشاطها العام، يجب ان يتصدر رأس الأولويات. 

__________________

د. جبرائيل جورج بشارة الشوملي هو باحث فلسطيني، من مواليد مدينة بيت ساحور في العام 1958. أمضى الشوملي سبعة سنوات ونصف في سجون الاحتلال، وأمضى ستة اشهر آخرى تحت الإقامة الجبرية.  حاصل على درجة الدكتوراة في العلوم السياسية، وله عدد من المؤلفات، منها: العصيان المدني (1991)؛ قراءة في اتفاق 11 شباط ( اتفاق عمان) (1985)؛ الديموقراطية في الفكر السياسي الفلسطيني  (2005)؛ محاكمة الرئيس (2006)؛ من الثورة إلى الهزيمة: البحث عن هوية (2006)؛  العلمانية في فلسطين ( اطروحة دكتوراه) (تحت الطباعة 2007). هذا المقال هو جزء من ورقة بحثية بعنوان: "حق العودة في خطاب منظمة التحرير الفلسطينية"، وهي الورقة البحثية الفائزة بالمرتبة الثانية في جائزة العودة للعام 2007 في حقل الأوراق البحثية.