"حماس" و "فتح" بين أولويات صمود وتضحيات غزة والمقاومة وصراع المحاور الإقليمية

بقلم: نصار إبراهيم*

مقاومة باسلة وحالة شعبية حاضنة، وتضحيات هائلة... ومأزق إسرائيلي واستعداد لمزيد من القتل والتدمير... هذا واقع الحال الميداني.

ولكن على المستوى السياسي نجد حالة من التداخل والتخبط والاستخدام والانتقام والتوظيف. تستهدف هذه المقالة استكشاف تأثير وخطورة تدخلات القوى الإقليمية في المواجهة الطاحنة التي تدور منذ ما يقارب الثلاثة أسابيع بين المقاومة الفلسطينية والشعب الفلسطيني من جهة، وجيش الاحتلال الإسرائيلي من جهة أخرى.


تتوزع دوائر الفعل السياسي والتأثير الميداني على محورين استراتيجيين:

جبهة أو قوس قوى المقاومة: الممتد من إيران مرورا بقلبه سورية وصولا لحزب الله في لبنان، وفي سياقه يتحرك العراق بحدود قدراته وما يواجهه من صراع داخلي. يتحرك قوس المقاومة سياسيا وعسكريا وفق رؤية وأولويات إستراتيجية وتنسيق كامل على مختلف المستويات، وهو يستند بذلك إلى تحالفات دولية قوية وراسخة، تشمل روسيا والصين ودول بريكس، وكل من يناصر خيار المقاومة ويناهض الهيمنة الاستعمارية.

المقاومة عند أطراف هذه الجبهة  ليس تكتيكا استعمالياً، بل هو خيار إستراتيجي ثابت في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي ومشاريع الهيمنة على المنطقة، ولهذا كانت مواقف وسلوك وخطاب هذا الحلف في مواجهة الحرب العدوانية الأخيرة على غزة واضحة وحاسمة، وهو الوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني ومقاومته وتقديم مختلف أشكال الدعم السياسي والمادي، وذلك بالرغم من الخلاف مع بعض قوى المقاومة الفلسطينية وخاصة حركة حماس في ضوء مواقفها وسياساتها تجاه سورية. ولهذا نلاحظ تماسك الرؤية السياسية عند هذا المحور، وانسجام مواقفه مع مستوى عالٍ من التنسيق، وبهذا لم يسقط في ضيق الأفق السياسي وردود الأفعال وثقافة الانتقام. فبقي ثابتا في الحفاظ على اتجاه بوصلة المجابهة والمقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي ومشاريعه في المنطقة، وذلك انطلاقا من حقيقة أن ما يتعرض له العالم العربي منذ سايكس – بيكو وصولا إلى ما يسمى بالربيع العربي، وما رافق ذلك من فتن طائفية وفوضى ومخاطر التقسيم،  إنما هي مشاريع تعكس جوهر الإستراتيجية الاستعمارية – الصهيونية التي يفترض التصدي لها ومجابهتها وفق إستراتيجية شاملة، وبالتالي ضبط مختلف السياسات والتحالفات وفق هذا الهدف الرئيسي.

المحور النقيض استراتيجيا لمحور المقاومة هو المحور الأمريكي  الأوروبي – الإسرائيلي - الرجعي العربي وبعض القوى الإقليمية، ويتوزع على ثلاث دوائر تتوافق على الأسس والأهداف الإستراتيجية، وتختلف على حجم الأدوار وبعض الأولويات:

الدائرة الأولى: الحلف الأمريكي – الإسرائيلي، ويشكل العقل وصاحب اليد العليا في القرار من حيث تحديد الأولويات والتشغيل وضبط إيقاع التناقضات الداخلية.

الدائرة الثانية: المحور المصري – السعودي - الإماراتي، وهو ينسجم على المستوى الاستراتيجي  مع سياسات الرأس المفكر والمقرر (المحور الأمريكي – الإسرائيلي)، ولكنه يتناقض معه من حيث الحسابات المحلية وبعض الأولويات الإقليمية، مثل الخلافات بخصوص الملف النووي الإيراني، ومستوى وحدود العمل والتدخل لإسقاط الدولة الوطنية السورية، ولكنه في ذات الوقت يخوض مواجهة شاملة مع حركة الإخوان المسلمين، وخاصة في مصر، وذلك في سياق عملية التنافس على الأدوار على مستوى الإقليم.

الدائرة الثالثة: وتتشكل من المحور التركي – القطري، بما يشكلانه من حاضنة سياسية لحركة الإخوان المسلمين، ويسعى هذا المحور لأن تكون تلك الحركة القوة السياسية المهيمنة في المنطقة، مما يوفر لهما الفرصة والشروط للتأثير وخدمة مصالحهما الاقتصادية ومضاعفة رصيدهما عند الولايات المتحدة.

ولكن وبالرغم من هذه التباينات والتناقضات، إلا أن المقاربات الإستراتيجية للدائرتين الثانية والثالثة لا تخرج عن الخطوط الحمراء التي ترسمها وتحددها وتتحكم بها الدائرة المقررة الأولى، أي الحلف الأمريكي – الإسرائيلي، ولهذا تبقى الخلافات والتناقضات بين المحور المصري- السعودي والمحور التركي القطري محكومة بحدود المعادلات الإستراتيجية السياسية والاقتصادية والعسكرية  المشتركة في مواجهة حلف المقاومة والممانعة.

في ضوء هذا الواقع فإن ما يهمنا في سياق الوقوف أمام هذه التناقضات والصراع على الأدوار هو امتداداتها وتأثيراتها الخطرة على سياقات الحرب العدوانية الإسرائيلية المستمرة ضد الشعب الفلسطيني في غزة، ومحاولة كل محور وكل  طرف استخدام هذه الحرب وعلاقاته مع أحد أطرافها لتحقيق بعض المكاسب والنقاط. ومما ساعد على مثل هذه التدخلات،  تموضع السلطة الفلسطينية وقيادة حركة فتح بصورة ما إلى جانب السعودية ومصر، فيما تتموضع قيادة حركة حماس في سياقات المحور التركي - القطري.

من الواضح أن المحورين المصري – السعودي، والتركي - القطري يحاول كل منهما توظيف الحرب على غزة من أجل تعزيز دوره ونفوذه، سواء في الواقع السياسي الإقليمي، أو عند المشغل الأساسي، أي الحلف الأمريكي الإسرائيلي.

من هنا يمكن تفسير فشل المحاولات للوصول إلى اتفاق لوقف الحرب العدوانية، حيث وظفت إسرائيل، مدعومة من الولايات المتحدة وبقوة هذه التباينات، من أجل الاستمرار في عدوانها وفرض شروطها على المقاومة الفلسطينية، والأهم حرمان المقاومة والشعب الفلسطيني من تحويل صموده إلى منجز سياسي يتمثل في رفع الحصار عن غزة، ووقف الحروب العدوانية عليها، حيث تضع مصر والسعودية العقبات أمام أي اتفاق، إلا إذا جاء عبرهما ووفق أجندتهما، كي لا يشكل مثل هذا الاتفاق انتصارا لحركة حماس (حسب رأيهما)، وبالنتيجة لحركة الإخوان المسلمين، مما يصب في النهاية في مصلحة حكومة أردوغان ويعزز دور قطر على حساب الدور المصري –السعودي. 

في إطار هذه التباينات السياسية الانتهازية والاستخدامية، يأتي انحياز النظام المصري وبصورة واضحة للخيار السعودي، وهو يدير سياسته تجاه القضية الفلسطينية  ضمن محددين: الأول  الانتقام من حركة حماس باعتبارها امتدادا لحركة الإخوان المسلمين التي يخوض معها نظام السيسي مواجهة شاملة وعلى كل المستويات، والثاني ضبط دور مصر تجاه القضية الفلسطينية ليتناغم وسقف الموقف السعودي المنسجم مع الموقف الأمريكي الإسرائيلي.

هذه المعادلات والمحاور المتناقضة بصورة انتهازية واستعمالية تضع قيادة حركة حماس أمام لحظة وخيار لا تنفع معهما المناورة وسياسة التقية السياسية، إنها لحظة حاسمة في حياة حركة حماس، وقد تكون فرصة ذهبية لكي تعيد قيادة حماس تقييم وتقويم خياراتها التي دفعت بها في السنوات الثلاث الماضية بعيدا عن محور المقاومة، ووضعتها في مجابهة سياسية قاسية مع هذا المحور، الأمر الذي أضر بها وبدورها وصورتها في الوعي الشعبي كثيرا، فهل ستواصل حركة حماس توظيف مقاومة ودماء وصمود وتضحيات الشعب الفلسطيني من أجل تعزيز دور حركة الإخوان المسلمين، وبهذا تلقي برصيدها ورصيد المقاومة مجددا في سلة أردوغان - قطر من جديد، أم أنها ستنحاز كحركة مقاومة لأولوياتها الفلسطينية وتعود للتموضع وبصورة نهائية في إطار جبهة المقاومة المنضبطة لأولويات التناقض مع المشروع الصهيوني ومشاريع الهيمنة الأمريكية على المنطقة؟

ذات التحدي والمأزق تواجهه أيضا القيادة الرسمية لحركة  فتح، ولكن من زاوية مختلفة، فالخيارات السياسية للقيادة الرسمية لحركة فتح والتي تتساوق مع محور مصر – السعودية، والمحكومة أيضا بسقف مشاريع التسوية الأمريكية، قد انتهت إلى الفشل وطريق مسدود، الأمر الذي يضع حركة فتح في مأزق بنيوي جدي.

هذا الواقع لم يعد بالإمكان التعامل معه ضمن السقوف السياسية والأداء السياسي الراهن، فما قبل الحرب العدوانية على غزة وما سجلته المقاومة من بطولة وتضحية شيء، وما بعد هذه الحرب شيء آخر.

وقد ظهرت في الشارع الفلسطيني مجموعة من المؤشرات الحاسمة والفاعلة، مما يعكس طبيعة هذا المأزق وخطورة التحديات التي يفرضها قسرا:

التناقض الواضح بين مستوى المقاومة والصمود الذي يبديه الشعب الفلسطيني في غزة، ومستوى الأداء السياسي المتباين والمتناقض في كثير من الأحيان، مما سمح للاحتلال والمحاور الخارجية المختلفة بالعبث في الداخل الفلسطيني من جانب، وتعميق معاناة الشعب الفلسطيني وخاصة في قطاع غزة من جانب آخر.

المؤشر الثاني، المسافة الواسعة والمتناقضة بين خطاب القوى الميدانية للمقاومة، من حيث المضمون والوضوح والقوة، وخطاب بعض المستويات القيادية الفلسطينية التي بقي خطابها يتحرك في العموميات والتركيز على الأبعاد الإنسانية في المواجهة.

المؤشر الثالث، حالة الغضب والإحباط التي تتراكم وتتسع في عموم الشارع الفلسطيني، بسبب عدم قناعة هذا الشارع بسياسة وسلوك المستويات والبنى السياسية الفلسطينية، التي لم ترتق إلى مستوى حالة الحرب والاشتباك الذي يدور مع الاحتلال.

المؤشر الرابع، تصاعد حالة التفاعل بين قواعد وجماهير حركة فتح الوطنية بطبيعتها والمنتمية للمقاومة عبر تاريخها إلى السطح، وكان التعبير الأبرز عن ذلك نداء القائد الأسير مروان البرغوثي ودعوته للتحرك الشعبي الواسع،  وهو ما يشير إلى خطورة المرحلة وجدية التناقض في أوساط حركة فتح، زاد منه وعمقه التصادم والاشتباك مع الأجهزة الأمنية التي تحاول ضبط إيقاع حركة الشارع الغاضب في الضفة الفلسطينية، وفق سقوف سياسية وتنسيق أمني تخطته أحداث الواقع وحالة المواجهة الضارية في غزة مع الاحتلال، الأمر الذي وضع القوى السياسية الفلسطينية أمام أسئلة صعبة بخصوص مبادرتها ودورها لتحريك المواجهة في الضفة الفلسطينية ضد الاحتلال. 

المؤشر الخامس؛ غياب أو تغييب مراكز القرار الفلسطيني عن الفعل والفاعلية، مثلا غياب وتأخر مواقف وردود فعل م.ت.ف. إلى جانب صمت الحكومة الفلسطينية، وضعف الأداء الدبلوماسي لوزارة الخارجية وغيرها من الوزارات.

هذا التشتت، وعدم توحيد الخطاب وإستراتيجية العمل الفلسطينية، وضعف الأداء السياسي، سمح لإسرائيل باستخدام كل ذلك وتوظيفه لتصعيد عدوانها وتوجيه الضغوط الإقليمية والدولية، في محاولة لفرض شروطها على المقاومة والشعب الفلسطيني.

لكل ذلك، فإن اللحظة فاصلة ومناسبة لإعادة بناء الواقع الفلسطيني، وعلى كل المستويات، لكي ترتقي القوى والقيادة الفلسطينية إلى مستوى صلابة وصمود ومقاومة الشعب الفلسطيني. فمن غير المقبول أن لا يتوج كل هذا الصمود والبطولة الأسطورية بمنجزات سياسية واضحة، تنهي معاناة الشعب الفلسطيني في غزة وترفع من سقف المواقف السياسية الفلسطينية بما ينسجم مع الأهداف والحقوق الوطنية العليا.

وهنا فإن على بعض القوى الفلسطينية التي أثبتت فاعلية وجدارة وتضحية في الميدان من خارج ثنائية فتح - حماس، وخاصة  حركة الجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وغيرهما من فصائل المقاومة، التحرك والضغط لتوحيد القوى السياسية الفلسطينية على أساس النواظم والمحددات الوطنية بعيدا عن  الهيمنة والتفرد، وبالتالي عليها أن ترفع صوتها وتعزز حضورها بما ينسجم مع وزنها وحجم تضحياتها ودورها الفاعل في ميادين المقاومة.

-----------

*نصار إبراهيم: كاتب فلسطيني، مدير مركز المعلومات البديلة.