هل يفضي الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية إلى إنّصاف الفلسطينيين في نهاية المطاف؟*

بقلم: جيف هاندميكر  و فريدريك هايجر**

قدّمت فلسطين طلباً رسمياً للانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية في يوم 2 كانون الثاني 2015، ونال هذا الطلب القبول على وجه السرعة. وقد سبق للمدعي العام السابق للمحكمة لويس مورينو أوكامبو (Luis Moreno Ocampo)، الذي تعرّض لسيل من الانتقادات اللاذعة، أن رفض طلب فلسطين للانضمام إلى المحكمة كدولة طرف. ومع ذلك، أوضحت المدعية العامة الحالية فاتو بينسودا (Fatou Bensouda) في شهر آب 2014 بأنّ "فلسطين تستطيع الآن الانضمام إلى نظام روما الأساسي" بالنظر إلى التغير الذي طرأ على وضعها في الأمم المتحدة. قبل تقديم الطلب بيوم واحد، أي في تاريخ 1 كانون الثاني 2015، قدّمت السّلطة الفلسطينية إعلاناً بموجب أحكام المادة (12)، الفقرة (3)، من النظام، تصرّح فيه بقبول اختصاص المحكمة بدءًا من يوم 13 حزيران 2014 فصاعدا بما يشمل كل الجرائم التي تشير إليها المادة (5) من نظام روما الأساسي والتي ارتُكبت على إقليمها.

بناءً على ذلك، ما الذي يمكننا أن نتوقعه من المحكمة الجنائية الدولية من ناحية واقعية؟

من المحتمل أن تستغرق الدراسة الأوّلية، التي تُجريها المدعية العامة حول الوضع في فلسطين، بعض الوقت قبل أن تتضح ماهية الخطوات التالية التي ستتخذها المحكمة في هذا الصدد. وفي الواقع، تملك المحكمة الجنائية الدولية الاختصاص على جميع الجرائم الواردة في نظام روما الأساسي، بما فيها جرائم الحرب. وبناءً على ذلك، يُنشئ الإعلان الذي قدمته السّلطة الفلسطينية بموجب أحكام المادة (12/3) الاختصاص بأثر رجعي بما يشمل جرائم الحرب التي زُعم ارتكابها في سياق عملية الجرف الصامد العسكرية التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة في يوم 8 تموز 2014. ومن شأن إجراء تحقيق شامل أن يساعد في إثبات الحقيقة حول ما دار في هذه الحرب الأخيرة على قطاع غزة، بما يشمل تحديد الجرائم التي ارتكبها طرفا النزاع وتحديد الأفراد الذين تجب مساءلتهم عن تلك الجرائم. وعدا عن جرائم الحرب التي ارتُكبت في غزة، يتيح نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية إنفاذ ولايتها القضائية على جرائم دولية ذات صلة أخرى، بما فيها ترحيل السكّان والاختفاء القسري والفصل العنصري.

جريمة ترحيل السكّان

لا يجوز لدولة الاحتلال أن ترحل أو تنقل جزءاً من سكّانها المدنيين إلى الأراضي التي تحتلها، حيث يُعَدّ هذا الإجراء بمثابة جريمة حرب. وتضع هذه المسألة المستعمرات التي تقيمها إسرائيل على الأرض الفلسطينية ضمن المجالات التي يمكن أن ترد ضمن نطاق التحقيق الأوّلي الذي تُجريه المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية. وبالنظر إلى القرار (446) الصادر عن مجلس الأمن الدولي في العام 1979 والفتوى الصادرة عن محكمة العدل الدولية في العام 2004، يبدو أنه لا مناص من أنّ تكون هذه المسألة هي إحدى النقاط الرئيسية التي تركز عليها المدعية العامة في تحقيقها الأوّلي.

جريمة الاختفاء القسري

تقع جريمة الاختفاء القسري عند إلقاء القبض على شخص أو احتجازه أو اختطافه من قبل دولة أو وكلاء يعملون لحساب تلك الدولة، حيث ينكرون فيما بعد أن ذلك الشخص قيد الاحتجاز أو يخفون مكان وجوده، بهدف حرمانه من حماية القانون. ويُعرف الاختفاء القسري بمسمّى الجريمة المستمرة كذلك. وهذا يعني أنه حتى لو وقع الاختفاء في الزمن الماضي، فما تزال هذه الجريمة تُعتبر كما لو أنها ارتُكبت اليوم. ويعني هذا الأمر، في جوهره، أنّ المحكمة الجنائية الدولية تملك الاختصاص على جميع جرائم الاختفاء القسري التي وقعت في الأرض الفلسطينية، والتي ما تزال دونما حل.

جريمة الفصل العنصري 

كما تملك المحكمة الجنائية الدولية الاختصاص على جريمة الفصل العنصري. ويعرّف نظام روما الأساسي هذه الجريمة على أنها "أية أفعال لاإنسانية تماثل في طابعها جرائم أخرى ضد الإنسانية وتُرتكب في سياق نظام مؤسسي قوامه الاضطهاد المنهجي والسيطرة المنهجية من جانب جماعة عرقية واحدة إزاء أية جماعة أو جماعات عرقية أخرى، وترتكب بنية الإبقاء على ذلك النظام." وقد وصف جميع المقررين الخاصّين للأمم المتحدة الوضع في الضفة الغربية باعتباره نظام فصل عنصري، حيث أشاروا إلى مجموعة واسعة من التدابير، بما تشمله من المستعمرات التي تقتصر الإقامة فيها على المستعمرين، والحواجز العسكرية، وجدار الضم والفصل العنصري، والطرق المخصصة لتنقل المواطنين الفلسطينيين عليها والنظام القانوني التمييزي الذي يستهدف المواطنين الفلسطينيين في الأرض الفلسطينية المحتلة في الضفة الغربية (بما فيها شرقي القدس) وقطاع غزة.

وبما أنّ هذا الوضع ما يزال قائماً حتى هذا اليوم، فلا يشكّل استهلال الاختصاص في يوم 13 حزيران 2014 عقبة في هذا المقام. فالتقارير التي صدرت عن المقرريْن الخاصيْن وحدها يجب أن تكون كافية للمدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية لكي تُدرج هذه الجريمة في دراستها الأوّلية حول الوضع في فلسطين. ومن المحتمل أن تمتلك المحكمة القدرة على توجيه الاتهامات للزعماء السياسيين والقادة العسكريين الذين يُنظر إليهم على أنهم العقل المدبر الذي اجترح نظام الفصل العنصري.

 الأطراف الخصوم 

الخصوم امام المحكمة الجنائية الدولية يتمثلون بصورة رئيسية من إسرائيل والدول التي تناصرها، وفلسطين ومناصريها أيضاً. وقد دأبت إسرائيل على إبداء معارضتها لبعض الجرائم التي ينص نظام روما الأساسي عليها، كما أبدت اعتراضاتها على مدى نزاهة المحكمة واستقلالها - وذلك على نحو يتواءم مع الانتقادات التي لم تفتأ تكيلها لكل منظمة وهيئة دولية أخرى تقريباً. ومؤخراً، ادّعى مسؤولون أنّ جميع الإسرائيليين يخشون من تدخّل المحكمة الجنائية الدولية، بالنظر إلى أنّ كلا الرجال والنساء الاسرائيليين يخدمون في جيش الاحتلال الإسرائيلي. ويفترض هؤلاء بأنّ المحكمة تستطيع أن توجه الاتهامات إليهم جميعاً. ولا تأخذ هذه الافتراضات الجوفاء، ناهيك عن انها تفتقر إلى الأدلة التي تؤيدها وتعززها، في الاعتبار أنّ المحكمة لن تتطرق في تحقيقها إلّا إلى أخطر الجرائم التي اقترفها القادة العسكريون من ذوي الرتب العالية وكبار المسؤولين الحكوميين. وفي الوقت نفسه، يفترض معلقون مناصرون للفلسطينيين بأنّ المحكمة الجنائية الدولية سوف تحول نطاق تركيزها من المشكلة الرئيسية محل النظر إلى التحقيق في انتهاكات فردية. وتميل هذه الانتقادات إلى التركيز بصفة حصرية على جرائم الحرب. ويبدو أننا لا نجانب العقلانية إن افترضنا أن إقامة المستعمرات وجرائم الاختفاء القسري وجريمة الفصل العنصري تنطوي في صميمها على انتهاكات فردية. ومن الأهمية كذلك أن نضع في اعتبارنا أنّ العديد من الجماعات الفلسطينية، وعلى الرغم من التوجه إلى المحكمة الجنائية الدولية، قد لا تبالغ في تحمّسها نحو استرعاء نظر المدعية العامة إلى جرائم بعينها.

وترى الانتقادات الجوهرية التي يوجهها البعض لتدخل المحكمة الجنائية الدولية، مثل مازن المصري ونورا عريقات وغيرهما، بأنّ المحكمة "مسيَّسة" وأن "النجاح لن يكون من نصيب الفلسطينيين في قاعتها". وبناءً على ذلك، ينبغي دراسة أية توقعات قد يعولها المرء على تدخل المحكمة في ضوء مجموعة من الإمكانيات الداخلية والخارجية والتحديات السياسية التي تواجهها المحكمة، والتي تفتّ بمجموعها في عضد الصفة الشرعية التي تكتسيها هذه المحكمة.

إنّ هذه الانتقادات منصفة، ونحن أنفسنا وجهنا انتقادات تماثلها للمحكمة الجنائية الدولية. ومع ذلك، فللمرء أن يتوقع أيضاً أنّ المحكمة، التي ما تفتأ في المراحل الأولى من عملها وتحرص على النأي بنفسها عن حصر نطاق تركيزها واهتمامها في الجرائم التي تُرتكب في أفريقيا، وانها سوف تتولى وعلى وجه السرعة الدور الأصيل المنوط بها بصفتها مؤسسة تلتزم بوضع حد للإفلات من العقوبة عن أسوأ الجرائم الدولية.

القيود المفروضة على المحكمة الجنائية الدولية ونطاق قدراتها 

هناك جملة من القيود المفروضة على المحكمة الجنائية الدولية. فهي لا تملك إحياء المدنيين الذين قضوا نحبهم ولا تستطيع إنهاء الاحتلال. ولا يمكن للمحكمة أن تطالب بعودة اللاجئين، وليس في يدها أن تتعامل مع القضايا الحساسة المتصلة بالحق في تقرير المصير. وعلاوةً على ذلك، فليس في إمكان المحكمة إخضاع دولة إسرائيل للمساءلة، بل الأفراد من رعاياها. كما يقتصر اختصاصها بصفة مبدئية على الجرائم التي وقعت بعد تاريخ 13 حزيران 2014 (باستثناء بعض الجرائم المستمرة التي أشرنا إليها آنفاً). وعلى وجه الإجمال، تستبعد المحكمة الكثير من المظالم الرئيسية من نطاق اختصاصها. ومع ذلك، تتمتّع المحكمة بقدرات في المقابل. فهي تستطيع أن تضطلع بدور حقيقي وأصيل في الطريق المسدود الذي ما يزال قائماً منذ قيام إسرائيل في العام 1948، والذي أفضى إلى تهجير مئات الآلاف من الفلسطينيين بعدما سُلبوا أراضيهم وبيوتهم وأسباب عيشهم.

فالمحكمة الجنائية الدولية تمثّل، في نهاية المطاف، مؤسسة تستطيع عائلات الأطفال واليافعين الفلسطينيين، الذين تفيد التقارير باختفائهم على يد قوات الاحتلال كل يوم، اللجوء إليها عبر ممثلهم الشرعي. كما يستطيع جميع الفلسطينيين الذين يعيشون تحت رحمة النظام القانوني والعسكري الذي يمارس التمييز على نطاق واسع وممنهج بحقهم أن يلجأوا إلى هذه المحكمة.

أكثر من مجرد لعبة انتظار 

لا ينبغي أن تقتصر هذه المرحلة على الانتظار فحسب. فإلى أنّ تكمل المحكمة الجنائية الدولية تحقيقها الأوّلي وتنجزه، تقتضي الأهمية أن يؤازر أي شخص يبدي الاهتمام بالعدالة الدولية نزاهة المحكمة ويساندها. وفضلًا عن ذلك، فمن الأهمية تقديم أي أدلة يملكها أي شخص حول الجرائم الواقعة. وقبل كل ذلك، لا يجوز للدول أن تتدخل لدى المحكمة في الوقت الذي تنكبّ فيه المدعية العامة على إنجاز هذه المهمة المحفوفة بالمخاطر، والتي يتوقع الكثيرون بأنّ تنطوي على إجراء تحقيق شامل، سواء جرى هذا التحقيق بتعاون إسرائيل أو أي طرف آخر أو دونه. وتنطوي المحكمة على جملة من الفوائد كذلك. فقد أوضح مصطفى البرغوثي في مقابلة أُجريت معه مؤخراً بأنّ التحقيقات الأوّلية التي أطلقتها المحكمة الجنائية الدولية قد تعزز الحملة العالمية التي ترمي إلى مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها، والتي حالفها نجاح منقطع النظر على مدى السنوات القليلة الماضية. 

إن مسيرة العدالة بطيئة، سواء اجترحتها المحكمة الجنائية الدولية أو مؤسسة غيرها، ولكن ينبغي النظر إليها باعتبارها إشارة مشجعة على أنّ المحكمة تبدي اهتماماً في الجرائم التي اقتُرفت بحق الفلسطينيين، وهو اهتمام تراه إسرائيل شائنًا ومعيبًا. والزمن كفيل بتحديد ما إذا كان لهذا التفاؤل من أسس تدعّمه، أو ما إذا كان مجرد عاطفة خاوية. 

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نشر هذا المقال بدياة في صحيفة "العربي الجديد"، ويعاد نشره هنا باذن المؤلفين. 
** نبذة عن المؤلفين
جيف هاندميكر (Jeff Handmaker): يعمل محاضرًا رئيسيًّا في المعهد الدولي للدراسات الاجتماعية في جامعة إيراسموس بروتردام (Erasmus University Rotterdam)، وكان يعمل محاميًا في سابق عهده. 
فريدريك هايجر (Friederycke Haijer): باحث في درجة الدكتواره في دائرة القانون بجامعة أوتريخت (University of Utrecht) وسبق له أن عمل محاميًا في مجال الجرائم الدولية في محكمة لاهاي الابتدائية.