بقلم: أحمد أبو غوش*

الأهميةالتاريخية والاستراتيجية لقرية عمواس وقرى اللطرون:

عمواس هي البوابة الغربية للقدس:

تنبع الأهمية التاريخية لأية منطقة من علاقتها بالانسان، فلكي تصبح  منطقة ما تاريخية يجب أن يكون الإنسان قد قطنها عبر فترات تاريخية طويلة ليصبح له فيها تاريخ.  والانسان قديما لم يكن قادرا على التحكم في الظروف المناخية، ولا العوامل الجغرافية، لذلك اضطر أن يتأقلم مع الظروف السائدة. ومن هنا، يمكن القول: أن المناطق التي صار لها أهمية تاريخية هي التي وفرت للإنسان القدرة على الاستقرار والحياة. فبالإضافة إلى العوامل المناخية والجغرافية كان لا بد أن تتوفر الأراضي الصالحة للزراعة أو الرعي.  وربما  كان لا بد للمنطقة الجغرافية أن توفر مكانا آمنا لمن يسكنها أيضا. أي أن الاستقرار والتواصل للإنسان في منطقة جغرافية ما يحقق لها تاريخيتها لأن الاستقرار والتواصل يولد العلاقة بين الأرض والانسان، والانسان والانسان على هذه الأرض .
وفلسطين، ومنها عمواس وقرى اللطرون، لها مناخ ملائم، حيث يسود فيها مناخ  البحر الأبيض المتوسط المعتدل صيفا الماطر شتاء، فمنطقة اللطرون ترتفع  375 مترا عن مستوى سطح البحر. ومعدل الامطار فيها في حدود 500 مم في السنة ومعدل درجات الحرارة العليا  فيها حوالي 27 درجة مئوية، ومعدل الدرجات الصغرى فيها  4 درجات مئوية. وفيها سهول صالحة للزراعة وتلال صالحة للرعي، وهي منطقة جبلية توفر الحماية لمن يسكنها، وفيها أيضا ينابيع  ووديان جارية وآبار.  لذلك يمكن القول  أنها كانت منطقة صالحة للاستقرار، فقامت عليها وبالقرب منها حياة نشطة عبر التاريخ وقامت علاقة فيها بين سكانها وعلاقة بين الناس والأرض، من هنا يمكن القول أن لهذ المنطقة تاريخها .

ما تحدثنا به سابقا نظريا موجود على أرض الواقع عمليا، اذ من المعروف أن أريحا أقدم مدينة عبر التاريخ، اما منطقة اللطرون فاقدم ذكر لها كان زمن الكنعانيين، حيث بنى الكنعانيون مدينة أيالون "يالو" فيها وهي على بعد ثلاثة كيلو مترات من عمواس، كما بنوا إلى الغرب منها مدينة جازر "أبو شوشة" وهي تقع على بعد ثمانية كيلومترات إلى الغرب من عمواس.

وفي زمن الرومان كانت جزءا من التقسيم الإداري للدولة الرومانية في عهد هيرودوس، وهذا يدل على أنها كانت عامرة بالسكان في هذا الزمن،  وفي زمن البيزنطيين اقيم فيها مدينة نيقوبولس، أي "مدينة النصر".

أما في زمن المسلمين، فمن المعروف أنه تم فتحها سنة 13 هـ  وانتشر فيها الطاعون سنة 18 هـ، مما أدى إلى  استشهاد خمسة وعشرين ألف مقاتل مسلم، منهم العديد من الصحابه خاصة أبو عبيدة عامر بن الجراح، ومعاذ بن جبل، ويزيد ابن أبي سفيان.                                           

في العهد الأموي كانت قرية عمواس ضيعة لعبد الملك بن مروان، ثم انتقلت لخالد بن يزيد بن معاوية. وفي العهد العباسي كانت كورة "مقاطعة" من كور فلسطين، وهذا يعني أنها  كانت مقطونة بالسكان بل عامرة بهم. وفي ظل الحروب الصليبة أحتلت من قبل الصليبيين  في 5 حزيران 1099. وفي العهد الأيوبي كانت منطقة اللطرون مهمة لريتشارد قلب الأسد، حيث تقدم إليها بعد احتلاله منطقة الرملة وحاول السيطرة عليها  باعتبارها الباب الغربي للقدس.

وفي زمن العثمانيين كانت أيضا مسكونة وإن لم تكن لها تلك الأهمية كما في السابق لشمول الإمبراطورية مناطق شاسعة ولوجود حياة مستقر هادئة في المنطقة، إلا أنها ظلت طريق الحج للحجاج المسلمين والمسيحيين القادمين من الساحل إلى القدس.

وفي الزمن الحديث كان فيها أباؤنا وكنا نحن فيها، وهي وإن كان فيها فقط قرى وادعة صغيرة فإنها مهمة بالنسبة لنا لانها وطننا العظيم الصغير.

موقع عمواس: 

تحتل قرى اللطرون موقعا مهما على صعيد فلسطين، فهي تشرف على الطريق بين الساحل وداخل فلسطين سواء باتجاه القدس أم رام الله. وتشرف في نفس الوقت على الطريق بين غزة والقدس. وهذا الطريق له علاقة بطريق بري دولي عبر الأردن نحو العراق أو بلاد الشام الأخرى، أو عبر غزة إلى مصر.  ولأن أهمية الموقع نسبية، موقع قرى اللطرون مهم جدا بالنسبة للقدس وتأتي أهميته من أهمية القدس بالنسبة لفلسطين، فهذه المنطقة هي الباب الغربي للقدس.

وفقط يكفي أن نذكر أهمية القدس الدينية لليهود والمسلمين والمسيحيين لندرك مدى أهميتها لفلسطين، فهي عدا عن كونها عاصمة فلسطين، هي أيضا عاصمة دينية لمعظم سكان العالم. ويعزز من موقع قرى اللطرون وقوعها على الحوض الغربي للمياه الجوفية في فلسطين، فهذا الحوض من أغنى أحواض فلسطين المائية .

في حرب 1948 كان لقرى اللطرون  دور مهم في الصراع الذي قام بين العرب والحركة الصهيونية في السيطرة على  فلسطين، خاصة في المعارك التي جرت للسيطرة على القدس. لقد حالت قرى اللطرون بصمودها أمام الهجمات التي شنتها الحركة الصهيونية دون السيطرة على قرى غرب رام الله، ومكن من الصمود في القدس القديمة وعدم سقوطها.

ففي قرى اللطرون كانت ترابط  قوات أردنية وقطاعات  شعبية مناضلة، وقد استطاعت هذه القوات الصمود أمام الهجمات الصهيونية المتكررة، ومنعت مرارا توصيل الإمدادات للقوات الصهيونية التي كانت تحاول احتلال كامل القدس.

مخطط "بن جوريون" كان في 24 آيار "إسقاط القدس واحتلال ضواحيها، هذا الاسبوع يجب أن تسقط القدس، المعركة على القدس هي المعركة المركزية، المدافع يجب أن تدمر الرملة واللد فورا".

الوضع في القدس خطير. كان يسمع عن سقوط القرى المحيطة بالقدس الواحدة تلو الاخرى، وسمع أيضا عن معارك 21 آيار في باب الواد. ماذا حدث في باب الواد؟ لقد حاولت قافلة اجتياز باب الواد تحت ساتر الظلام إلا انه تم كشفها مبكرا، وتم قصفها بالمدفعية، فعادت القافلة من حيث أتت. وحاولت قوة منفصلة احتلال مركز بوليس اللطرون. وصلت القوات الأسلاك الشائكة المحيطة بالمركز، واستمرت المعركة طوال الليل، الا ان هذه القوات المهاجمة اضطرت للإنسحاب.

هجوم يوم 25 ايار:

"تحركت القوات من خلدة فتصدت لها المقاومة بنيران قوية، فبدا الهجوم ينهار منذ البداية، وتراجع المهاجمون إلى حقول القمح أمام دير اللطرون، فلاحقتهم مجموعة من القرويين المسلحين بالبنادق والحراب". هذه الرواية الاسرائيلية. اما الرواية العربية، "حشد للهجوم اللواء السابع المؤلف من أربع كتائب مشاه معززه بالمدفعية، وبدا التمهيد للهجوم بقصف شديد، ورغم وقوع القوات المهاجمة في منطقة مكشوفة استمرت بالهجوم حتى وصلت القوات إلى مشارف الكتيبة الرابعة التي صدت الهجوم وأوقعت بالمهاجمين خسائر فادحة". 

هجوم 30 آيار:

حضر "بن جوريون" بنفسه إلى خلده ليتأكد من إمكانية معاودة الهجوم وارسال الامدادات إلى القدس. ارسل "ماركوس" بنفسه لقيادة القوات، (وهو ضابط يهودي امريكي احضر لتعزيز القوات الصهيونية)، ووضعت تحت امرته ثلاث كتائب مجربة وارسلت طائرات لقصف اللطرون وعمواس. هاجموا مركز الشرطة بقوة كبيرة، الا ان القوات المهاجمة  صدت على اعقابها. لم ييأس "بن جوريون"، وعزز القوات بكتيبة هرال التي يقودها رابين وفشل الهجوم الذي شن في 9 حزيران "وبقي موقع اللطرون كما هو عليه يذكر بالفشل الذريع لجيش الدفاع".

الرواية العربية، تقول انه كانت تدافع عن مركز اللطرون فئة مشاة تساندها حظيرة فكرز، ولكن الموقع كان محصنا. وصلت القوات المركز وحاصرته من جميع الجهات وحاولوا فتح الباب الحديدي إلا ان هذه القوات فشلت في اقتحامه بسبب بسالة المقاومة. وفي نفس الوقت كانت قوة تحاول احتلال عمواس، ولكن فشلت وردت على اعقابها. وحاولت قوة أخرى احتلال يالو عن طريق دير أيوب، الا انها صدت أيضا.

صمود عمواس، وقرى اللطرون، سنة 1948، أبقاها شوكة في حلق الاحتلال، إلا أن عمواس خسرت حوالي 50 ألف دونم من أراضيها السهلية الخصبة، التي أحتلت سنة 1948 أو أصبحت منطقة حرام، وبقي أهلها يطلون من جبلهم وبيوتهم على أراضيهم المغتصبة، ويتحسرون على الأيام الجميلة التي كانت فيها هذه الأرض تقدم لهم من الزرع والخير والثمرات الكثير. 

وللتواصل بين الساحل المحتل والقدس الغربية المحتلة، اضطر المحتل إلى شق شارع بعيدا عن باب الواد. وظلت عيون الاحتلال على جيب اللطرون الداخل في خاصرة الأرض المحتلة حتى حرب 1967. وظلت ثارات بين أهالي عمواس وقرى اللطرون عموما، وبين قادة الاحتلال الذين عجزوا عن احتلالها وصدتهم خاسرين. "موشيه ديان" الذي كان قائدا عسكريا في القدس، ظل يتذكر ما سببه جيب اللطرون من صعوبات له في القدس بسبب سيطرتها على الطريق المؤدي إليها، لذلك وبعد إخراج أهاليها بالقوة من بيوتهم، كان من أشد أنصار تدميرها، ففاوض مجلس وزراء الكيان الصهيوني على عدم إرجاع أهالي قرى اللطرون إلى قراهم مقابل السماح لأهالي قلقيلية بالعودة. و"اسحق رابين" الذي كلف بحماية طريق القدس، وشارك في الهجمات على عمواس لاحتلاها، ظل يتذكر هزيمته على أبواب عمواس، فأمر بهدمها من اليوم الأول من إحتلالها، وقد أعترف بذلك علنا، واعترافه موثق بالصوت والصورة. أما "أرئيل شارون"، فقد جرح على أبوابها. و"عوزي نركيس" قائد المنطقة الوسطى في جيش الاحتلال إعترف أيضا أنه أعطى أمرا بهدم بيوتها وتهجير أهلها.

تدمير عمواس وقرى اللطرون جريمة حرب:

تنص اتفاقية جنيف التي وقعت عليها اسرائيل في اهم مبادئها على حماية المدنيين زمن الحرب، وعدم اجراء اي تغيير على طبيعة الارض، وعدم نقل السكان أو نقل سكان البلد المحتل الى الاراضي المحتلة، وما حدث في عمواس أن قوات الاحتلال دخلتها في صبيحة اليوم الثاني من الحرب، أي في 7/6/1967، فاحتمى أهلها في الجبل أو في دير اللطرون. في هذا اليوم أجبر من بقي من أهلها على التجمع في ساحة القرية، وتحت التهديد بالقتل رميا بالرصاص، أمروا أن يمشوا نحو مدينة رام الله وهم شبه حفاة وعراة.

البعض حمل ما يستطيع حمله، ومشوا يوم عذاب طويل مسافة 32 كم نحو مدينة رام الله. وبعد أسبوع واحد فقط، بدأ المحتل بتدمير البيوت وتغيير معالم القرية التي كانت وادعة آمنة.

لقد دفن الاحتلال ثلاثة عشر عجوزا وشيخا تحت ردم بيوتهم. وسوى القرية مع الأرض. لقد استقر عُشر سكان قرى اللطرون  تقريبا في رام الله أو قراها، وغادرت الغالبية العظمى من السكان (حوالي 12 ألف نسمة) الأرض الفلسطينية تحت تهديد الرعب بالقتل إلى الأردن.

لماذا دمروا قرى اللطرون؟ 

نعتقد أن عمواس وقرى اللطرون دمرت للأسباب التالية:
  1. تعديل الحدود، فمن المعروف أن جيب قرى اللطرون كان داخلا في حدود الأرض المحتلة على شكل شبه جزيرة. 
  2. الإستيلاء على الأراضي الخصبة التي تحد قرى اللطرون، وكانت قد اعتبرت منذ سنة 1948 منطقة حرام . 
  3. الإستيلاء على المياه في منظقة جيب اللطرون، فمن المعروف أن هذه القرى تقع فوق الحوض الجنوبي الغني بالمياه. ففي عمواس مثلا كان هنالك عدة ينابيع مهمة ، وآبار رومانية قديمة.
  4. تعديل خط القدس حيفا، حيث عُبد بعد هدم القرية طريق سريع يمر الآن من وسط القرية المدمرة وذلك لتسهيل وتقريب المسافة. ويعملون في هذه الأيام على مد خط سكة حديد من أراضي قرية يالو.
  5. الإنتقام من أهالي هذه القرى لصمودها في وجه الاحتلال سنة 1948. 

عمواس عامرة:

لم تكن عمواس مجرد خربة خالية من السكان كما حاول المحتل الإدعاء، بل كانت عامرة بسكانها وزراعتها وتجارتها. 

لقد بلغ عدد سكان عمواس قبل هدمها حوالي ثلاثة آلف نسمة، وبلغ مجمل عدد سكان قرى اللطرون حوالي 12000 نسمة. صحيح أن عمواس خسرت معظم أراضيها في حرب سنة 1948، إلا أن سكانها اهتموا بتطوير أنفسهم تعليميا ومهنيا للتعويض عن خسارتهم لأراضيهم، والعمل في القطاع الزراعي. لذلك كان بين أهالي عمواس الأطباء والمهندسين والمعلمين، وعمل جزء مهم في قطاع البناء. كما عمل حوالي أربعين من سكان عمواس في دير اللطرون المقام على أراضيها.

كان في عمواس ثلاث عشرة بقالة وفرنين، وصالونين للحلاقة وملحمة ومحلاً للخضار، ومصنع نسيج يدوي تابع لمشروع الانشاء العلمي. وكان فيها مدرستين، الأولى اعدادية للبنين، والثانية ابتدائية للبنات، اضافة الى مسجد تم تدميره. 

اشتهرت عمواس بالطاعون الذي أدى إلى قتل عدد كبير من الصحابة، اشتهر منهم أبو عبيدة عامر بن الجراح، ومعاذ بن جبل، ويزيد ابن أبي سفيان وغيرهم، وما زال مقامي أبي عبيدة ومعاذ بن جبل قائمين.   

كما اشتهرت عمواس بظهور المسيح فيها على تلميذين من تلاميذه، ولذلك فيها آثار لكنيسة رومانية قديمة، وكنيسة معاصرة وديرا كبيرا ما زالا قائين.

رفض التعويض والتوطين والاستبدال:

اتخذ أهالي عمواس موقفا موحدا يرفض التعويض والتوطين وتبديل أراضيهم بأية أراضي أخرى، مع اصرارهم الشديد على حق العودة إلى قراهم لإعادة إعمارها.

قالت "جولدا مائير" رئيس وزراء الاحتلال الصهيوني عن الفلسطينيين "الكبار سيوموتون والصغار سينسون" مات من مات من الكبار، ولكن الصغار ظلوا يتذكرون عمواس. لقد رفض كبار عمواس، وبإصرار ما طرح عليهم من حلول تقوم على التعويض والتوطين مقابل نسيان قضية عمواس. وحمل الصغار راية القتال من أجل حق أهالي القرية في العودة إلى قراهم. ومن أجل ذلك شكلوا لجنة أهالي عمواس ثم جمعية أهالي عمواس، وواصلوا الاحتجاج والتظاهر والقيام بمسيرات عودة إلى قريتهم دون تعب أو كلل أو ملل. كبر أطفال عمواس على تاريخ عمواس وقصص أجدادهم وآبائهم فيها، لذلك تشبعوا بعمواسيتهم مع الحليب، ونما فيهم حبها مع كل  قصة روتها أمهاتهم عن الحياة فوق أرضها وفي حقولها وبساتينها وحول مياهها وفي مشاعاتها وكرومها. فكبروا ينشدون: 

عمواس بلدنا 

وعنها ما نقبل بدايل 

ألف ضعف في الجنة

أرض مزروعة بالحنة

وترويها الجداول

مطالب أهالي عمواس، وقرى اللطرون المدمرة 

يصر أهالي عمواس على حقهم في العودة إلى قريتهم لإعادة إعمارها، ويطالبون بالتعويض عن الأضرار التي ألحقها الاحتلال بسكانها، وبيوتها، ونتيجة سلب أراضيها واستغلالها بطريقة غير مشروعة، وسرقة مياهها بغير وجه حق، وبما يخالف القوانين والأعراف الدولية والإنسانية. 

يرفضون بشكل قاطع أي بديل عن عودتهم لقريتهم، وبشكل خاص مشاريع التوطين، أو التعويض غير المرتبط بحق العودة إلى قريتهم وإعمارها، أو تبديل أراضيهم وقريتهم بأراض في موقع جغرافي ثانٍ، أو إجراء أي تعديل في الحدود على حساب قريتهم وأراضيهم.
 

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 
*أحمد أبو غوش: باحث وكاتب فلسطيني