استهداف الاستعمار الاسرائيلي للهوية الفلسطينية

بقلم: أسيل عيسى، آثار جيوسي، ليندا صندوقة
المقدمة:
لم يتفق الباحثون على تعريف واحد ومحدد لمفهوم الهوية، إلا أنهم تقاطعوا في تعريفاتهم المختلفة على ملامح عامة تلخصت في كون الهوية ثقافة اجتماعية، وسياسية، وتاريخية تصبح مشتركة تربط مجموعة من الأفراد الذين يعيشون في مجتمع ما الى الحد الذي يصبح لهم فيه مصير واحد وهموم يشتركون فيها وآمال يتطلعون اليها معا. وكما أن لكل شعب من الشعوب هويته الوطنية الخاصة التي تجمعه وتميزه عن غيره من الشعوب، فإن للشعب الفلسطيني هويته الوطنية التي تشكلت معالمها وبُنيت سماتها على مر التاريخ. سيحاول هذا المقال عرض آثار النظام الإستعماري الإسرائيلي على الهوية الفلسطينية والدور الذي يلعبه هذا النظام في تشتيت الهوية الوطنية الفلسطينية وشرذمتها والمساس بمكوناتها.

لعبت سياسات الإستعمار الصهيونية المبنية على تجزئة الشعب الواحد الدور الأكبر في تشرذم وتشتت الهوية الفلسطينية. وقد ذكر فيصل الدراج في مقالة "الهوية والذاكرة"، أن الهوية الفلسطينية تتكون من نفس عناصر أية هوية في العالم والتي تتمثل في اللغة، الثقافة، الوعي الجماعي والمعايير الاجتماعية المتوارثة. إلا أن الهوية الفلسطينية لها خصوصيتها نظراً للظروف السياسية التي تشكلت خلالها، فقد خضعت الهوية الفلسطينية للعديد من الصراعات والتحولات التي عانى منها الشعب الفلسطيني تحت سياسات إقصائية ونافية لوجوده في ظل نظام إستعماري منذ ما يزيد عن ستة عقود، بهدف إبادة شعب بأكمله وإلغاء وجوده أو دمجه تحت ثقافة وحكم إسرائيليين يلغيان كيانه الاصلي.[1]

انعكس هذا الواقع الإستعماري على تعريف الفلسطيني لهويته، فقد أنتجت السياسات الإستعمارية الصهيونية أشكالاً وتسميات مختلفة من الهوية الفلسطينية مثل عرب ال 48، اللاجئون، والمهجرون، والنازحون، وعديمو الجنسية وغيرها من التسميات القانونية والإجتماعية التي رافقت الفلسطيني نتيجة تهجيره المستمر وإستهداف هويته الوطنية. رُغم ثبات الفلسطينيين أمام كل محاولات استهداف الهوية الوطنية الفلسطينية، تبقى هويتهم وتعريفهم لأنفسهم معرضة للضياع.

ومن الجوانب المهمة التي تستهدفها سياسات الإستعمار الصهيونية في الهوية الفلسطينية هو إستهداف اللغة والعادات والتقاليد العربية الفلسطينية. ويذكر عبد الفتاح القلقيلي وأحمد أبو غوش في كتاب "الهوية الوطنية الفلسطينية" بأن "اللغة والهوية هما وجهان لشيء واحد، بعبارة أخرى: إنّ الإنسان في جوهره ليس سوى لغة وهوية. اللغة فكره ولسانه وفي الوقت نفسه انتماؤه".[2] إن ترويج المستعمر الصهيوني لفكرة تخلف ورجعية ما يتمسك به الفلسطينيون من عادات وملابس ولغة لاقت رواجاً بين بعض الفلسطينيين، حتى صاروا يخجلون بهويتهم ويتزلفون للآخر. وبهذا تكون "إسرائيل" قد نجحت إلى حد ما في تحقيق هدفها في تشتيت الهوية الفلسطينية ونشر مظاهر الغزو الفكري بين صفوف الشباب الفلسطيني.

وقد استندت الحركة الصهيونية في جوهرها على مقولتها: "أكبر مساحة من الارض باقل عدد من الفلسطينيين" التي سخرت شتى الوسائل والطرق لتطبيقها مُستهدفة الثقافة والوعي للسيطرة على الفلسطيني وتشتيت معرفته بهويته. كما أنها تهدف إلى إستئصال كافة الروابط بين الفلسطيني وأرضه. ونستطيع أن نرى نتائج هذا الغزو بشكل أوضح في ثقافة الأجيال الفلسطينية التي يفاخر بعض منها باستخدام المصطلحات العبرية في حياتها اليومية، وتارة اخرى نجد ان الملابس والزي والعادات والتقاليد قد بدأت بالتغير ولم تعد كالسابق.

تأتي هذه السياسة ضمن منظومة ممهنجة وضعها الكيان الصهيوني، فمن خلال فرض المناهج التعليمية باللغة العبرية في الداخل المحتل عام 1948، تهدف إسرائيل إلى خلق وعي وذاكرة بديلة للشعب الفلسطيني يؤكد على تاريخ اليهود في فلسطين وأحقيتهم فيها. يترافق ذلك مع تغيير أسماء الأماكن العربية إلى أسماء عبرية، مما دفع المجتمع الفلسطيني على جانبي الخط الأخضر لاستخدام الاسماء العبرية وجعل هذه اللغة الدخيلة جزءاً من حياة الفلسطيني اليومية. تسببت هذه السياسة بنسيان أسماء الأماكن الفلسطينية وتاريخها، والأكثر خطورة ما يحدث من استخدام لهذه المصطلحات دون وعي بأنها كانت مناطق فلسطينية هُجِّر أهلها وكان لها إسماً عربياً وتاريخاً فلسطينياً. قد يبدو هذا امرا تافها بالمقارنة مع حجم القمع اليومي الذي تمارسه "اسرائيل"، ولكنه في الحقيقة يقع في صلب وجوهر الصراع ومعالجته تعتبر واحدة من متطلبات عملية التحرر. عبر هذه العملية الممنهجة تقوم اسرائيل بتغريب الفلسطيني عن المكان، وعن ذاته، وبالتالي شطب هويته. والمسألة هنا ليست مجرد شطب لهوية الفلسطيني، بل يقابلها تثبيت للرواية الاسرائيلية اولا، وقتل لروح المقاومة ثانيا، وهذا هو الاخطر. فمن الاستحالة مقاومة المحتل من قبل من لا يملك هوية ويعيش حالة اغتراب عن جذوره وحقوقه.

عمد الكيان الصهيوني الى تشتيت طاقة الشباب بهدف إشغالهم عن قضايا بلدهم وصراعاتهم وإدخالهم في صراع الهوية بعنوان جديد وهو "أن الاحتلال يقدم لي ما لا تقدمه لي بلدي". مما أدى إلى انطفاء رغبتهم بزوال محتل أرضهم ومقاومته، وأن الاحتلال دائما يقدم لهم ويحسن معيشتهم، وبالأخص لدى الجيل الناشئ. إن ما يزيد الأمر خطورة ليس فقط الاعتياد على وجود المحتل وعلى فكرة الحاجة له، بل إضافة الى ذلك فإن تربية الجيل الفلسطيني على التعايش مع المحتل وتقبله سيؤدي بالضرورة إلى زعزعة تعريف هؤلاء الناشئة لانفسهم ولقضيتهم ولرغبتهم في المقاومة. يبرز ضمن هذا السياق نهج تبريري يستند الى فشل المقاومة بقيادة منظمة التحرر الفلسطينية، او فساد السلطة الفلسطينية، او آثار الانقسام الفلسطيني، او فشل المفاوضات، او ضبابة الاحزاب العربية في الداخل، او تردي الاوضاع في المنطقة، او وقوف الغرب القوي الى جانب اسرائيل وغيرها من التبريرات. بلا شك، ان الوضع الفلسطيني وحال المنطقة ودعم الغرب لاسرائيل كلها عوامل تسهم في نجاح الكيان في تنفيذ سياساته، ولكن نجاحه هذا لا يجب ان ندفع ثمنه مزيدا من الانكسار، انما يقتضي الوقوف على الاسباب والنهوض من جديد.   

من ناحية أخرى، فرضت إسرائيل بشتى الطرق والوسائل واقعا من التقسيم والتفتت الجغرافي على الشعب الفلسطيني، حيث قسّمت أماكن تواجد الفلسطينيين إلى كانتونات جغرافية مختلفة وحدّت من التواصل بينهم مثل أراضي ال 1948، سُكان القدس، سكان الضفة الغربية، سُكان قطاع غزة أو الفلسطينيين في الشتات. وتقيّد "إسرائيل" حرية الحركة بين هذه المناطق وتمنعها في كثير من الأحيان من خلال منع العودة، فرض نظام التصاريح، جدار الفصل العنصري، الحواجز العسكرية، سحب الاقامة، وغير ذلك من الوسائل- التي تحد من تنقل الفلسطينيين وتواصلهم. هذا التشتيت في المحصلة لا يهدف الى صهرهم في مجتمع إستعماري يتنكر لحقوقهم وثقافتهم اصلا كما يتوهم البعض؛ بل يهدف الى تكريس الاغتراب عن الذات، والوطن والهوية ما يؤدي الى مزيد من الانكسار. يتضح هذا عندما ندرك ان هذا التقسيم لا يقتصر فقط على الجانب الديموغرافي للسكان، بل إنعكس على مناحي الحياة الاجتماعية، الثقافية، السياسية، وحتى الاقتصادية للإنسان الفلسطيني.
يأتي تنفيذ هذه السياسات من أجل خدمة رواية الحركة الصهيونية بأن الشعب الفلسطيني لم يكن يوماً شعباً وأن أحقية هذه الأرض تعود لليهود، حيث تتطلع "إسرائيل" من خلال هذه السياسات وغيرها إلى إنشاء جيل جديد من الفلسطينيين في الوطن والشتات يحيون حياة فكرية واجتماعية منفصلة عن كل ما يتعلق بقضايا وطنهم المسلوب وهموم الحفاظ على هويتهم الفلسطينية، مستغلين لأجل ذلك البعد الزماني والمكاني بين الجيل الشاب والجيل الأول للنكبة، والفصل الجيو-سياسي القسري للفلسطينيين عن بعضهم البعض.

الخاتمة

قد يكون الوضع الراهن ضبابياً ومخيفا، فلا زال المحتل يسعى بمحاولات حثيثة لطمس هوية الشعب الفلسطيني ويحاول ابدالها بتاريخ مزور لا أساس له. ورغم ذلك كله، ما نستطيع رؤيته في الآونة الأخيرة أن الفئة الشبابية تحاول العمل بشكل مضاد لتحمي وتحافظ على الهوية العربية الفلسطينية لدى الأجيال الصاعدة، إما عن طريق إنشاء مؤسسات شبابية فلسطينية مستقلة تسعى لتوفير خدمات للأجيال المختلفة بعيداً عن مغريات يعرضها الاحتلال، أو عن طريق تصاعد في الأنشطة الشبابية التي تعيد إحياء الموروث الثقافي الفلسطيني بشكل خاص، مثل التشجيع على ارتداء الثوب الفلسطيني، أو أنشطة أخرى تحاول تعزيز اللغة العربية والحفاظ عليها لدى الجيل الشاب.

أصبحنا نرى بعض الحملات للحفاظ على اللغة العربية من أي دخيل عبري او تهويدي، وحملات أخرى تهدف إلى إحياء الأسماء العربية الفلسطينية التاريخية في الأماكن التي طمسها الاحتلال واستبدلها بأسماء تهويديه أصبحت دخيلة على حديث الشارع الفلسطيني. تُعتبر هذه الأنشطة والمبادرات أساسية ومصيرية في سبيل تعزيز اللغة العربية والتاريخ الفلسطيني وأيضا في سبيل تعزيز منسوب الثقافة الوطنية بشكل عام لدى الشباب الفلسطيني، حيث أن فقدان اللغة، العادات والثقافة يجعلان الشعب الفلسطيني أعزلاً ضعيفاً بلا هوية. وهنا يجب الانتباه الى ان فقدان البدائل (النماذج الابداعية الناشئة) الى روح الثقافة الوطنية والهوية السياسية والقضية الواحدة سيؤدي إلى تراجع مستمر وواضح في مشاركة الشباب ودورهم الطليعي في مواجهة الاستعمار وتعزيز الهوية الفلسطينية. وعليه، فانه من الضرورة ربط هدف وشكل ومحتوى الابداعات الشبابية الناشئة بمكونات الهوية الوطنية. 

وبالتالي، إن هذا العبء الوطني يلقي بمسؤوليات جسام على عاتق الشباب الفلسطيني والمؤسسات الشبابية المجتمعية وخاصة تلك العاملة في حقل العمل المجتمعي الفلسطيني وحقل الدفاع عن حقوق اللاجئين والمهجرين الفلسطينيين ويضعهم في مواجهة دائمة مع الأدبيات السياسية لإسرائيل.


-------------------------------------------------
أسيل عيسى، آثار جيوسي،  ليندا صندوقة: طالبات جامعيات ومشاركات في مشروع مؤسستي بديل وبلدنا "تواصل وعودة"


[1] الدراج، فيصل. 2011.

[2] عبد الفتاح القلقيلي واحمد ابو غوش، الهوية الوطنية الفلسطينية: خصوصية التشكيل والإطار الناظم. 2013.