ماهية الإطار القانوني والسياسي الضامن لحقوق اللاجئين الفلسطينيين؟

بقلم: جابر سليمان*

تُشكل مسألة اللاجئين جوهر القضية الفلسطينية ولبّ الصراع العربي الصهيوني. وبهذا المعنى، فلا حلّ لتلك القضية، ولا نهاية لهذا الصراع إلا باعتراف المجتمع الدولي ممثلاً بالأمم المتحدة بمسؤولية القوى الإستعمارية الكبرى والحركة الصهيونية، آنذاك، عن النكبة الفلسطينية، وتصحيح الظلم التاريخي الذي لحق بالشعب الفلسطيني، عبر الإعتراف بحقوقه الثابتة وغير القابلة للتصرف وفي مقدمتها حق العودة وحق تقرير المصير، اللذين يشكلان قاعدتين إلزاميتين في القانون الدولي.

I- إهتزاز المكانة المركزية لحق العودة في الفكر السياسي الفلسطيني (1964- حتى اليوم)
انطلقت منظمة التحرير الفلسطينية (م . ت . ف) في الأساس من أجل التحرير الكامل والعودة لتتعامل مع جذور الصراع ونتائج النكبة عام 1948، وليس من أجل معالجة نتائج هزيمة حزيران 1967. ولم تنفصل فكرة العودة قبل تأسيس (م. ت. ف) وبعيد تأسيسها بسنوات عن هدف تحرير كامل فلسطين، حيث كانت العودة، بوصفها المعنى النقيض للنكبة، المحصلة الطبيعية لفعل التحرير والقوة المحركة للنضال الوطني الفلسطيني. وبالتالي كانت ثنائية "التحرير والعودة" الغاية من وراء إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية والمضمون الأساس لخطابها السياسي كحركة تحرر وطني للشعب الفلسطيني. غير أن هذا الخطاب تعرض لتحولات حاسمة منذ انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني الأول في القدس (1964) وحتى يومنا الحاضر.

وقد تمّت تلك التحولات في سياق محاولات قيادة (م. ت. ف) التأقلم مع موازين القوى والتكيف مع الاشتراطات الدولية والعربية في مجال القضية الفلسطينية. وجرت تلك التحولات على مراحل، بحيث عبّدت كل مرحلة منها الطريق أمام تحولات المرحلة اللاحقة، بدءاً بالبرنامج المرحلي (1974) وإعلان الاستقلال (1988) وتوقيع اتفاقيات أوسلو (1993)، وما تلاها من مشاريع سياسية مشبوهة أضعفت الإطار القانوني لقضية اللاجئين وحق العودة، وصولاً إلى المرحلة الراهنة التي تبدي فيها السلطة الفلسطينية استعدادها لإستئناف المفاوضات مجدداً بشروط إدارة ترامب والإحتلال الإسرائيلي هذه المرة، من دون إشتراط أي إطار قانوني مرجعي للمفاوضات يستند إلى مبادئ القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة. وهكذا تصبح المفاوضات مرجعية الحق، بدل أن يكون الحق مرجعية المفاوضات. وفي مثل هذه الحال يملي الطرف الأقوى شروطه على الطرف الأضعف، وهذا ما أكدته تجربة المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية حتى اليوم.

II- التهديد الذي شكلته مفاوضات عملية سلام أوسلو لحقوق اللاجئين الفلسطينيين
أكدت المادة الأولى من إعلان المبادئ الخاص باتفاق أوسلو أن "المفاوضات حول الوضع الدائم ستؤدي الى تطبيق قراري مجلس الأمن 242 و338، اللذين يعالجان نتائج حربي 1967 و 1973. وبهذا تجاهل الإعلان مصادر الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني في القانون الدولي وفي قرارات الأمم المتحدة على حدّ سواء، وفي مقدمها حق العودة في إطار ممارسة الحق في تقرير المصير. كما أرجأت الفقرة الثالثة من المادة الخامسة من إعلان المبادئ (5/3) حلّ مسألة اللاجئين إلى مفاوضات المرحلة النهائية، من دون أن تربط هذه المسألة بأية مرجعية قانونية. وأكثر من ذلك جزّأ الإعلان قضية اللاجئين ما بين لاجئي العام 1948 ولاجئي العام 1967 الذين أصبحوا يعرفون في لغة المفاوضات بالنازحين، انحيازاً للتفسير الاسرائيلي للقرار 242.

وشهدت الفترة اللاحقة لاتفاقيات أوسلو محاولات خطيرة ومدمرة لإضعاف الإطار القانوني لحق العودة، وتهميش قضية اللاجئين عبر طرح عدد من المبادرات والتفاهمات التي تميل الى تفسير حق العودة بموجب القرار(194) على أساس التمييز بين المبدأ وتطبيقه، بما يؤدي الى فصل ارتباط حق العودة عن فكرة "العدل المطلق"، وبالتالي التنازل عن هذا الحق في نهاية المطاف. ومن دون الخوض في التفاصيل نذكر فيما يلي أبرز تلك المحاولات: أتفاق بيلين/أبو مازن (تشرين الأول/ أكتوبر 1995)؛ معايير كلينتون (كانون الأول /ديسمبر 2000)، مبادرة السلام العربية ( (آذار/مارس 2002)؛ مبادرة أيالون /نسيبة (تموز/ يوليو2002)؛ خارطة الطريق (نيسان/إبريل 2003)؛ تفاهمات جنيف (كانون الأول/ديسمبر 2003)؛ مؤتمر أنابوليس (تشرين الثاني/نوفمبر 2007)، وما تلا ذلك من مبادرات وصولاً إلى مبادرة الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب. وتسعى هذه المبادرة إلى فرض حل إقليمي للقضية الفلسطينية من خلال عقد صفقة مع النظام العربي الرسمي يطلق عليها إسم "صفقة القرن" يتم من خلالها فرض حلّ على العرب والفلسطينيين سقفه أدنى بكثير من سقف المبادرة العربية التي ولدت ميته أو حتى سقف حلّ الدولتين كما تراه سلطة رام الله، علماً بأن مثل هذا الحل أصبح في حكم المستحيل بحكم الوقائع الإستيطانية التي أوجدها الكيان الصهيوني على الأرض.

III- ماهية الإطار القانوني والسياسي الضامن لحقوق اللاجئين الفلسطينيين
إن أي حل عادل ودائم للقضية الفلسطينية، وفي القلب منها مسألة اللاجئين، ينبغي أن يعالج جذور الصراع منذ نكبة 1948، وما نتج عنها من إقتلاع الشعب الفلسطيني من أرض وطنه وتشتته، ولا يكتفي بالتعامل مع نتائج حرب 1967 وما نجم عنها من إحتلال لبقية أرض فلسطين التاريخية. كما ينبغي لمثل هذا الحل العادل والدائم أن يتأسس على وحدة الأرض الفلسطينية ووحدة الشعب الفلسطيني ووحدة قضية اللاجئين، من دون تصنيفهم ما بين لاجئ ونازح/مهجر، حسب لغة المفاوضات التي كرستها اتفاقيات أوسلو المشؤومة.

ويستند هذا الحل، من وجهة نظرنا، إلى مجموعة من الأسس والمبادئ الناظمة، أهمها:
  • حق العودة حق من حقوق الإنسان؛ مكرس في القانون الدولي ومتساوٍ مع حقوق الإنسان الأخرى التي يؤكدها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي هو حجر الأساس في القانون الدولي لحقوق الإنسان. وأن قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة (194/1948) في حدّ ذاته ليس قراراً منشئاً لحق العودة، بل  كاشفا لانه يستند إلى القواعد العرفية في القانون الدولي. وليس من دون مغزى أن القرار 194 صدر بعد يوم واحد فقط من صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (10/12/ 1948) وقبل أن يصبح الاعلان المرجعية القانونية للقرار، ذلك أن الاعمال التحضيرية للاعلان تشير الى ان المداولات بشأن القرار 194 ومأساة الفلسطينيين كانت السبب وراء تضمين الاعلان المادة 13 التي تنص على حق العودة.
  • يتميز وضع الشعب الفلسطيني من وجهة نظر القانون الدولي بوجود فجوة بين تشتته الجغرافي ووحدته القانونية. وهذه الفجوة لا يمكن زوالها إلا بتحقيق وحدة الأرض والشعب من خلال تطبيق حق العودة كحق وطني/ جماعي.
  • حق العودة في القانون الدولي حق فردي في الأساس، كما هو حق جماعي عندما يرتبط بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، إذ لا يمكن لشعب من اللاجئين أن يمارس حقه في تقرير مصيره من دون ممارسة حقه الجماعي في العودة. وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى الأهمية الإستثنائية التي يكتسبها  قرار الجمعية العامة (3236/1974) الذي ربط ربطاً وثيقاً بين حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، والحق في الإستقلال والسيادة الوطنيين، وحق العودة، الذي اعتبره من نوع الحقوق غير القابلة للتصرف.
  • ضرورة إعطاء القرار (3236) الأهمية القانونية والسياسية التي يستحقها إلى جانب القرار (194)، حيث أن بعض القانونيين الدوليين اعتبر القرار المذكور بمثابة "شرعنة حقوق الشعب الفلسطيني"، فهو لا يميز بين لاجئي العام 1948 ولاجئي العام 1967، كما أن الأمر الحاسم فيه أنه قد ارتقى بمستوى النقاش من مستوى حق العودة الفردي إلى مستوى حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، مستخدما مصطلح "الشعب الفلسطيني" بدل مصطلح "اللاجئون الفلسطينيون".
  • عدم التنازل في أية مفاوضات تتعلق بتحديد الإطار القانوني والسياسي لحل مسألة اللاجئين عن التطبيق الكامل  للقرار 194 على أساس عدم التمييز بين المبدأ وتطبيقه. فهذا القرار تمّ تأكيده من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة عشرات المرات، بحيث أضحى عُرفاّ وقراراً ملزم التطبيق، رغم كونه قراراً صادراً عن الجمعية العامة. وأيضاً ضرورة تفسير القرار على أساس أنه يتضمن ثلاث حقوق متكاملة ومتلازمة (العودة، التعويض، إستعادة الممتلكات)، وأن لا حق منها يغني عن الآخر أو يستبدله أو يلغيه، حيث أن لكل حق منها قواعده وسوابقه في القانون الدولي. وكذلك على أساس أن القرار ينص على وجوب عودة اللاجئين إلى بيوتهم الأصلية (to their homes)، حسب النص الإنجليزي، بصرف النظر عما إذا كانت تلك البيوت في الأرض المحتلة منذ العام  1948 أم في الأرض المحتلة منذ العام 1967. وذلك بخلاف التفسيرات الرائجة في لغة المفاوضات.
  • التوقف عن اعتبار حق العودة موضوع مساومة ومقايضة من قبل المفاوض الفلسطيني ضمن معادلة الدولة مقابل العودة، وتجنب استخدام أي لغة قانونية وسياسية يفهم منها أن قيام الدولة على أجزاء من الأراضي المحتلة منذ العام 1967- أو حتى على كامل تلك الأراضي-  يعني تطبيقاً لحق العودة وحق تقرير المصير.
  • الحفاظ على المكانة التمثيلية لمنظمة التحرير الفلسطينية لمجموع الشعب الفلسطيني في فلسطين والشتات، والحرص على إبقائها في قمة الهرم السياسي الفلسطيني، مع إبقاء السلطة والدولة في قاعدة الهرم إلى حين تحقيق الأهداف الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني في العودة وتقرير المصير.
IV- خلاصة
ليس خافياً على أحد أن القضية الفلسطينية لم تعد تحظى بالأولوية في أجندات الأطراف الدولية والإقليمية والعربية، وأن نهج  قيادة منظمة التحرير منذ أوسلو على أقل تقدير، وبالذات نهج السلطة الفلسطينية الفردي والمتسلط، والمتمسك بالمفاوضات سبيلاً وحيداً لتحصيل الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني، قد فاقم من أزمة العمل الوطني الفلسطيني وأفرغ (م. ت. ف) من مضمونها التحرري، وحوّل "سلطة رام الله" إلى وكيل من الباطن لإدارة الإحتلال. وقد أدى هذا النهج  في الوقت عينه إلى تعميق الإنقسام الفلسطيني وتعطيل المصالحة الفلسطينية الداخلية، من دون أن نُعفي "سلطة غزة" بدورها من المسؤولية عن عدم إنهاء الإنقسام وتعطيل المصالحة.

وعليه، فإن التهديدات والمخاطر اليوم لم تعد تطال حقوق اللاجئين فقط، وفي الصدارة منها حق العودة، بل باتت تستهدف المشروع الوطني الفلسطيني برمته، حتى بتنا اليوم بحاجة إلى إعادة تعريف هذا المشروع، بل إلى إعادة تعريف "فلسطين" نفسها. نقول هذا لنؤكد أن الإطار القانوني / السياسي الذي أكدنا على أسسه ومرتكزاته في الفقرة السابقة يستلزم، أول ما يستلزم، إعادة ترميم المشروع الوطني الفلسطيني وإعادة تعريف فلسطين -من البحر إلى النهر- بما هي وطن الشعب الفلسطيني، وإعادة الإعتبار لمظمة التحرير الفلسطينية ومضمونها التحرري، بوصفها الإطار الجامع للحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة.

ولن يكون هذا ممكناً من دون إعادة النظر في تجربة المفاوضات "العبثية" منذ أوسلو وحتى اليوم، ومن دون التفكير في التفكيك التدريجي للمنظومة  السياسية واللوجستية والأمنية لسلطة أوسلو، كخطوة لا بدّ منها من أجل بناء استراتيجية وطنية كفاحية لا تسقط من حسابها أي شكل من أشكال القوة في مواجهة المشروع الصهيوني الكولنيالي الإحلالي. وتثبت التجربة التاريخية للشعوب التي خضعت لأشكال الإستعمار الإستيطاني مثل شعوب جنوب أفريقيا وناميبيا وغيرهما أن إسقاط خيار القوة، بأي شكل من الأشكال وتحت أي ذريعة من الذرائع، في مواجهة النظم السياسية الإستيطانية لا يؤدي سوى إلى التفكك المعنوي والأخلاقي للحركات الوطنية وخبو روحها الكفاحية. وهذا، ويا للكارثة، ما نشهد بوادره وتجلياته في الواقع المتردي والبائس الذي تعيشه الحركة الوطنية الفلسطينية، والذي تجسد بوضوح، هذه الأيام، في خذلان الحركة الأسيرة وإضاعة الفرصة الثمينة التي وفرها أبطال "الأمعاء الخاوية" إبان إضرابهم الأخير، من أجل إعادة اللحمة الوطنية وتشكيل رافعة للخروج من دهاليز الانقسام، والانطلاق نحو مرحلة كفاحية جديدة في مواجهة الاستعمار الصهيوني لفلسطين. فهل من يتفكر؟!!

***************

 * جابر سليمان: باحث ومستشار فلسطيني مستقل يعمل حاليا كمستشار للبرنامج الفلسطيني لدى منظمة اليونيسيف في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان.