الذكــرى التاسعــة والخمســون لنكبــة فلسطيـــن

بقلم: فضيــلة الشيــخ الدكتــور تيسيــر التميـــمي

جريمــة حــرب لــن تسقـــط بالتقــــادم
                                                    
يوم أليم؛ يستذكر فيه شعبنا زحف الصهاينة بحقدهم المسعور؛ فارتكبوا المجازر ضده واغتصبوا أرضه، وأقاموا فيها دولة الفساد والإفساد، وشردوا أهلها في البلاد بقوة الحديد والنار، في جريمة حرب لن تسقط بالتقادم، بل سيلاحق مرتكبوها وداعموهم ليحاسبوا أمام القضاء الدولي.
أبتلي الشعب الفلسطيني بنوع من الاحتلال لم يعرفه التاريخ، فالاحتلال الصهيوني التوسعي يستهدف أرضنا لتكون وطناً لليهود، فاستقدم إليها المغتصبين من شتى بقاع الأرض ليحلوا محل أصحابها الحقيقيين، وأعاق عودتهم إليها بشتى السبل.
 

 
العودة إلى الوطن حق تتمتع به كل الشعوب، قد تقع الحروب بين الدول فيلجئ بعض مواطنيها إلى الفرار من مناطق الصراع للنجاة، فيقيمون في مخيمات مؤقتة يتلقون فيها الإغاثة من الأمم المتحدة، وتأتيها المعونات الإنسانية من جهات عديدة، فإذا انتهت الحرب عادوا إلى وطنهم كما في البوسنة وكوسوفو وأفغانستان وغيرها. أما الفلسطينيون، فهم محرومون من هذا الحق إرضاء لبني إسرائيل، واستجابة لمنطق القوة المفروض على العالم والمنافي للقرارات الدولية التي تحرِّم تهجير المدنيين خارج أراضيهم، وتوجب عودتهم إليها وتعاقب الدول المخالفة.

إن العودة حق مقدس تجتهد إسرائيل في إنهائه واغتصابه كما اغتصبت الأرض والمقدسات لتنهي الصراع بينها وبين الفلسطينيين والعرب والمسلمين. لكن الشعب الفلسطيني عنيد في المقاومة ولا تثنيه المساومة. فهو متمسك بحقه المقدس وجوهر قضيته وركن السيادة الفلسطينية، بل هو أصلها لأنها قضية شعب شُرِّد بالحديد والنار، وهو الضمان الوحيد لإبقائها على قيد الحياة، وبالأخص أن الفلسطينيين في الشتات يقاربون الخمسة ملايين لاجئ، مما يعني أن غالبية الفلسطينيين لن يتمكنوا من ممارسة حقوقهم الكاملة التي نصت عليها تلك القرارات.

بعد مرور هذه السنين الطويلة، لم يزدد أبناء شعبنا إلاَّ تمسكاً بأرضهم وحقهم، لأنه من مقدساتهم وثوابتهم الوطنية التي لا تفريط فيها ولا بديل عنها، فذلك تصفية لقضيتهم واستسلام لإرادة عدوهم، ومخطط قديم انهار أمام صمودهم وإصرارهم، فلا يمكن التفكير فيه، فشعبنا يقبل بوطن بديل بشرط أن "يرثه" عن آبائه وأجداده، وأن يكون فيه "المسجد الأقصى المبارك"، وأن يكون "مسرى محمد" صلى الله عليه وسلم، وأن "يفتحه الفاروق" عمر و"يحرره الناصر صلاح الدين"، وأن "يُروى" ثراه بدماء المجاهدين الأخيار والشهداء الأبرار، وقبل ذلك أن "يبارك" الله حوله، وهذا لن يكون إلا فلسطين.  

فمحال أن نرضى عن فلسطين بديلاً ولو كان فردوس الدنيا، فقد علمنا المصطفى صلى الله عليه وسلم أن حب الوطن من الإيمان، حين تآمر المشركون للقضاء عليه وإخراجه من مكة؛ قال تعالى { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (الأنفال 30)، فلما أُخْرِجَ منها مرغماً خاطبها حزيناً {والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله؛ ولولا أني أُخْرِجْتُ منكِ ما خرجت} (رواه الترمذي)، لكنه واصل العمل والجهاد في دار هجرته حتى عاد إليها هو وأصحابه الذين أخرجوا بغير حق، فانهزم الشرك وتحقق وعيد الله تعالى لقريش إن أخرجته ، قال تعالى {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنْ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً} (الإسراء 76).

وتعتبر العودة حقاً قانونياً للشعب الفلسطيني، فقبول عضوية إسرائيل في الأمم المتحدة ارتبط بقبولها الاعتراف بقرار التقسيم رقم 181 الصادر في 29 تشرين ثاني 1947 بوجوب إقامة الدولة الفلسطينية، والاعتراف بقرار حق العودة والتعويض رقم 194 الصادر في 11 كانون أول 1948 والقاضي بوجوب عودة اللاجئين إلى ديارهم وتعويضهم عن ممتلكاتهم بحيث يعود الشيء إلى أصله وفقاً لمبادئ القانون. لكن إسرائيل تنكرت للمجتمع الدولي وأعاقت تطبيق الشرطين. وهذا يفقدها الاعتراف الدولي استناداً إلى مفهوم الاشتراط.

إن إحياء ذكرى النكبة لا تكفي فيه المهرجانات والمسيرات والخطابات، وإنما وجوب التمسك به والعمل على تطبيقه في الواقع، فهو حق شخصي غير قابل للتصرف يخص كل من أبعد عن أرضه، ويخص ورثته من بعده جيلاً بعد جيل حتى يعودوا جميعاً إلى أرضهم، وحق يمثل الانتماء إلى الوطن والارتباط بالهوية والوجود، وبالامتداد من الآباء والأجداد إلى الأبناء والأحفاد، فلا يجوز لأي مواطن أن يقطعه، فكل لاجئ وإن لم يمتلك أرضاً أو عقاراً في فلسطين شريك في كل ذرة من ترابها وفي كل نسمة من هوائها.
____________________________

فضيــلة الشيــخ الدكتــور تيسيــر التميـــم
قــاضي قضــاة فلسطيــن

رئــيس المجلــس الأعلــى للقضــاء الشـــرعي