مع اعتلاء اوباما كرسي الرئاسة ومن ثم خطابه في القاهرة، كثر الحديث عن إمكانية انفتاح دروب عملية السلام. وعقب فوز الليكود في الانتخابات الداخلية الإسرائيلية ومن ثم تقديمه لبرنامج حكومته انكمشت التوقعات المتفائلة من جهة، وعادت لتبرز هنا وهناك الأحاديث القديمة الجديدة حول التناقض والذي قد يصل بحسب البعض الى المواجهة ما بين إسرائيل والولايات المتحدة من جهة ثانية.

وبين هذا وذاك، أخذت الاجتهادات بشأن متطلبات تنشيط عملية السلام، المتعثرة أصلا، تعلو وتتصدر أحاديث الساسة، والمثقفين، والأكاديميين والمراقبين ...

 وما يلفت النظر، أن السائد العام في تلك الأحاديث، على اختلافها، وتنوعها ما بين مبشر ومتفاءل، وحائر متحفظ، أو متشاءم؛ أنها لا زالت تبحث وتمحص في تلك "المتطلبات" على أساس ما أفرزته الانتخابات في الولايات المتحدة وإسرائيل، وكأن المطلوب التكيف - نزولا أو انحدارا، وربما سقوطا- كي لا تضيع الفرصة؛ (فرصة وجود اوباما في سدة الحكم)، أو كي لا تنتفع إسرائيل من ضياع الفرصة؛ (ضياع فرصة حشر نتنياهو في الزاوية). وما يبكي وربما يدمي ان تلك المشاورات، والجولات، والتحركات، تبحث في متطلبات التنشيط بمعزل عن جذور الصراع، وفي أحسن الأحوال تتجنب البحث فيها خشية عرقلة الجهود، وسعيا لخلق الأجواء الملائمة للتفاوض، أو إظهارا لحسن النوايا...

 على المستوى العربي، كثر الحديث عن المبادرة العربية، وتحولت بقدرة قادر من مبادرة الحد الادني للسلام، إلى إطار السلام المنشود؛ وشتان ما بين الحد الادني والإطار. الانكى من ذلك، هو أن تحركات وتصريحات البعض في سياق مساعي التكيف تلك، و المقصود هنا التعديل المطلوب إدخاله على المبادرة، قد سبقت خطاب اوباما في القاهرة، وسبقت اعتلاء نتنياهو سدة الحكم، وكأن المخرج كان يهيئ لهما سلفا.

 صوّر قول اوباما أن المبادرة العربية تحتوي على نقاط ايجابية عديدة يمكن أن تجعلها صالحة للسلام، قولا ثوريا ونصرا عربيا وإسلاميا. واعتبر استخدام نتنياهو لعبارة "دولة فلسطينية" في خطابه مؤشرا ايجابيا. صحيح أن سلفه بوش لم يقل أن المبادرة العربية لا تحتوي على نقاط ايجابية، ولكنه لم يقل أيضا أنها لسلة المهملات. وصحيح أن اهود اولمرت وليفني لم يقولا أنهما ضد "دولة فلسطينية"، ولكنهما أيضا لم يسقطا أي من اشتراطات إسرائيل الإستراتيجية للتقدم في عملية التفاوض. ترى ما الفرق جوهريا بين الأمس واليوم، بين هذا وذاك، أو قل ما الفرق بين حديث اليوم والأحاديث التي اتصلت بدورات انتخابات إسرائيل ورؤساء الولايات المتحدة ما قبل عشرين سنة وأكثر؟

 ما يعتبر ثوريا في تصريحات اوباما لا يعدو كونه "الغموض البناء" في علم سياسة الكبار، او كما يحلو لإدارته أن تسميه. اما جوهريا، وضمن السياق الفلسطيني، فانه لا يعدو كونه الهروب من الالتزام بأي حق من الحقوق المشروعة. لماذا مثلا يهلل لمطلب وقف توسيع المستعمرات، في حين أن الاستيطان برمته ابتداء وامتدادا، مرخصا وغير مرخص، هو غير شرعي في وجوده وآثاره؟ ولماذا تصور الإشارة بجملة عابرة إلى معاناة الفلسطينيين منذ ستين سنة، دون ذكر حقوقهم الطبيعية، والإنسانية، والقانونية في العودة، واستعادة الممتلكات، والتعويض على أنها خطوة جبارة؟ لماذا يمكن أن تكون المبادرة العربية مقبولة إذا تم تعديل البند المتعلق بحقوق اللاجئين الفلسطينيين؟ ترى ماذا يبقى منها إذا ادخل التعديل، أو على الأصح إذا شطبت الإشارة إلى قرار 194؟ ان لم يكن في كل ذلك تراجعا، فانه لا يمثل جديدا، أو على الأقل لا يرقى إلى مستوى الحد الادنى من متطلبات السلام الدائم والعادل.

 وما يعتبر مؤشرا ايجابيا في تصريحات نتنياهو لا يعدو كونه جرا للعرب والفلسطينيين للمرة الألف إلى عمق دوامة التوقع، والتمني، والانتظار؛ انتظار ما ستسفر انه أزمة حكومية مرتقبة، أو انتخابات إسرائيلية جديدة... انتظار إلى ما شاء الله...

 لماذا باستطاعة نتنياهو، صاحب نظرية "السلام الاقتصادي"، أن يقف أمام الإسرائيليين والعالم اجمع بلا تردد، وبلا "غموض بناء"، وبكل وضوح وصلف، كاشفا عن إستراتيجيته في مصادرة حقوق شعبنا بالسيادة الوطنية وبكافة حقوقه الوطنية المشروعة عبر ما يعرف ب " الاشتراطات/ اللاءات المعهودة"، مضيفا إليها اشتراط الاعتراف بإسرائيل ليس كدولة يهودية وحسب بل كدولة للشعب اليهودي، في حين يهرب ساستنا/ قادتنا من الإدلاء بكلمة واضحة تؤيد حقا مشروعا؟

 ربما يقبل البعض ذلك لان "القوي عايب" كما يقول المثل، ولكن هل وصلنا إلى هذا الدرك من الضعف حتى لم نعد نجرؤ على إعلان حقوقنا؟ ولكن حتى إذا كان الأمر كذلك، فان للضعيف- مهما ضعف - كرامة، أو هكذا تقتضي طبيعة الأمور.