جنـــوب أفريقيــا نموذجــاً بيــن حــل الدولتيــن وحــل الدولــة الواحــــدة

بقلم:داود تلحمـــي 

إزاء التعقيدات التي تواجهها المسيرة النضالية الفلسطينية من أجل إقامة دولة فلسطينية مستقلة في الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967 (الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، وقطاع غزة)، وعلى ضوء مواصلة الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بشكل محموم عملية توسيع المستوطنات ومضاعفتها، خاصة في الضفة الغربية، بما يجعل المناطق الفلسطينية المأهولة في الضفة جزراً محاصرة بالمستوطنات وطرقها الالتفافية وبجيش الاحتلال الحارس لها والمدافع عنها، عاد بقوة حديث - لم يتوقف تماماً في الماضي- عن خيار العمل من أجل إقامة دولة واحدة في كل المساحة الممتدة من البحر الأبيض المتوسط غرباً الى نهر الأردن وامتداداته الغورية شرقاً، ومن إصبع الجليل شمالاً إلى خليج العقبة جنوباً، أي في حدود فلسطين التي كانت قائمة قبل العام 1948.

 

ويساق أحياناً نموذج  جمهورية جنوب أفريقيا بعد زوال نظام الفصل العنصري (الأبارتهايد) في دستور العام 1993 المؤقت، ثم دستور العام 1999 الدائم، الذي يعطي لكل مواطن في البلد، من حيث المبدأ، حقوقاً متساوية مع الآخرين، بغض النظر عن الأصل واللغة والإثنية والدين ولون البشرة، بحيث تتعايش الأقلية البيضاء، التي حكمت البلد بقوة السلاح وقوانين التمييز العنصري عملياً منذ تشكّله الرسمي ككيان سياسي في مطلع القرن الماضي (تشكّل اتحاد جنوب افريقيا في إطار الكومنولث البريطاني في العام 1910، واستقل البلد نهائياً عن بريطانيا في العام 1961)،  تتعايش  هذه المجموعة البيضاء مع الأكثرية السوداء وسائر الاثنيات (الآسيويين، "الملونين"،...) على أساس نظام  "الصوت الواحد للفرد الواحد"، الذي طبّق في عملية الانتخابات منذ العام 199 

الدولــة الواحدة كإطــار للحـــل  

لا بد من القول، في البداية، أن صيغة دولة واحدة على أساس المساواة الكاملة في الحقوق هي الصيغة المثلى لحل جذري للمعضلة الراهنة وللصراع الفلسطيني- الاسرائيلي، الناجم، أساسا عن مجيء أعداد كبيرة من المهاجرين اليهود من أنحاء العالم إلى فلسطين في سياق المشروع الاستيطاني الاستعماري الصهيوني، مما نتج عنه إلحاق الأذى بحياة وحقوق ومواطنة ووجود أهل البلد الأصليين على أرضهم. 

ففي إطار حل جذري  كهذا فقط، يمكن حل قضية اللاجئين الفلسطينيين بشكل كامل، من خلال احترام حقهم في العودة إلى وطنهم وديارهم. كما يمكن حل معضلة "الأقلية" العربية الفلسطينية في إسرائيل، والتي لحق بها الغبن أيضاً بأشكال أخرى، من بينها التهجير الداخلي من الأرض والقرى الأصلية. لكن أهم مصدر للغبن بحقها هو رفض الدولة والمؤسسة الصهيونية الاعتراف بهوية هذه "الأقلية" الوطنية، باعتبارها جزء من الشعب الفلسطيني، لا بل العمل على تبديد هذه الهوية الوطنية من خلال  التعامل معها ككتل طائفية وإثنية وجغرافية غير موحدة وغير متجانسة وغير خاضعة لنفس المعايير في المعاملة الرسمية (يجري الحديث عن ... مسلمين، مسيحيين، دروز، بدو، شركس،...). وفي المحصلة النهائية، لا تتمتع هذه "الأقلية" بحقوق المواطنة الكاملة،  وتعاني من أشكال متعددة من التمييز السلبي. وبما أن الدولة الصهيونية التي أقيمت في العام 1948، والتي يحمل "العرب" فيها كأمر واقع جواز سفرها، تصف نفسها بأنها يهودية، فمن الواضح أن غير اليهود من السكان يجدون أنفسهم، تلقائياً، في موقع أدنى، ومنقوصي الحقوق، في الوطن الذي عاشوا هم وأسلافهم فيه منذ قرون طويلة. 

ولكن، خلافاً للوضع في جنوب أفريقيا، هناك  في فلسطين تجمعان بشريان يحمل كل منهما سمات "ثقافية" واضحة ومتميزة عن الآخر. وتعبير "ثقافية" هنا مستخدم  بمفهومه الأوسع، بما يشمل الصفات والخصائص القومية والحضارية... وإن كان الأمر هنا يحتمل الكثير من الجدل والاجتهاد، من الزاوية النظرية على الأقل. 

فالعرب الفلسطينيون ينتمون إلى الثقافة العربية- الإسلامية ( حتى غير المسلمين منهم) وإلى المساحة القومية العربية. وهم ليسوا قومية بحد ذاتهم، بل جزء من قومية أوسع، وإن كانوا قد تمكنوا من إبراز أنفسهم، على تنوع أماكن تواجدهم وتشتتهم في أنحاء منطقتنا وفي العالم، كشعب واحد متماسك الى حد كبير، بحكم شعوره الجماعي بالغبن والظلم التاريخي بحقه، وبحكم تطلعه إلى هدف مشترك هو إعادة الاعتبار لوجوده وحقوقه الوطنية. فنحن، إذاً، أمام حالة نادرة من التماسك لشعب لم تعد تتوفر له الوحدة الجغرافية لمكان التواجد والإقامة والحياة والإنتاج. 

وبالمقابل، هناك اليهود الإسرائيليون، الذين، رغم تنوع أعراقهم وإثنياتهم وأماكن نشأتهم وثقافاتهم الأصلية، كما هو حال العديد من المجتمعات المهاجرة في إطار حركات الاستيطان والاستعمار في أنحاء العالم (كالولايات المتحدة واستراليا وجنوب افريقيا، وغيرها، مع فوارق بين هذه الحالات في ما يتعلق، مثلاً،  بمصير السكان الأصليين خلال عملية الاستيطان)، تمكنوا من بعث لغة قديمة كانت عملياً ميتة أو محدودة الاستعمال، وقاموا بتحديثها وجعلها ثقافتهم الموحدة الجديدة، المستندة الى دين مشترك، انطلق منه مؤسسو الحركة الصهيونية السياسية، ومعظمهم من غير المتدينين، لصناعة وترويج أساطير وروايات أعطيت أبعاداً ومضامين تاريخية، وهي في الواقع غير مثبتة في كتب التاريخ المعاصرة الجادة، حتى تلك التي تصدر عن مؤرخين في بلدان تتعاطف نخبها الحاكمة مع إسرائيل، مثل الولايات المتحدة الأميركية. 

وبمعزل عن مشكلات الاندماج واستمرار التمييز الداخلي وتعدد الأصول الثقافية في إطار هذا التجمع البشري الناجم عن الهجرة والاستيطان، لا يمكن تجاهل الواقع الذي نشأ عن وجود مجتمع له خصائص و"ثقافة" جديدة لمجموع المهاجرين المستوطنين ونسلهم. ومعروف أنه، في العقد الأخير من القرن الماضي خاصة، أعطي اهتمام متزايد في إسرائيل لمخاطبة المهاجرين من الاتحاد السوفييتي السابق ومن أثيوبيا باللغتين الروسية والأمهرا( اللغة الأكثر انتشاراً لدى الأثيوبيين)، على التوالي، بما في ذلك في وسائل الإعلام الرسمية، كالتلفزيون والإذاعة، علاوة على الصحافة الخاصة، كما كان الحال بالنسبة لكتل أخرى من المهاجرين في السابق. ولكن الرهان بقي على أن الأجيال الجديدة التي تنشأ في إسرائيل وتخدم في جيشها الموحد وتستخدم لغتها الواحدة تنتهي الى الانخراط في البوتقة "الثقافية" الإسرائيلية العبرية، وربما حتى تنسى لغات الوالدين والأجداد أو تفقد صلتها بها بشكل تدريجي، كما يحصل في بلدان المهاجرين المستوطنين الأخرى، كالولايات المتحدة. 

 ويمكن أن يجري جدل طويل حول طبيعة البنية الاجتماعية ومدى تماسكها والتناقضات الداخلية في إطار المجتمع الإسرائيلي الجديد.  لكن من الواضح أننا، لشيء من التحديد الضروري، يمكن أن نتحدث عن مجتمع يهودي إسرائيلي في سياق الفكرة الخاصة بالدولة الواحدة. أي أن الدولة الواحدة في إطار الحل الجذري، حين تنشأ، ستتألف، بالأساس، من تشكيلين ثقافيين رئيسين، التشكيل العربي الفلسطيني والتشكيل اليهودي الإسرائيلي- العبري. وهذا ربما ما يجعل بعض  المتحدثين عن هذه الفكرة  يستخدمون تعبير "دولة ثنائية القومية"، وهو تعبير يسهّل الوصف ربما، لكنه لا يعكس بشكل دقيق تعقيد الواقع الذي أشرنا اليه.

وجدير بالإشارة أن الفكر الصهيوني لا يتحدث عن شعب إسرائيلي كتشكيل قومي، وإنما عن "شعب يهودي"، يشمل ليس فقط اليهود الذين هاجروا فعلاً، وإنما كذلك كل من ينتمي إلى الدين اليهودي في العالم، حتى ولولم يكن متديناً، وهو حال المهاجرين الجدد من جمهوريات الإتحاد السوفييتي السابق، في غالبيتهم (ومعروف أن بعضهم ليسوا حتى يهوداً، وأتوا إلى اسرائيل لأسباب اقتصادية بالأساس، ولكن الرهان عند مستقبليهم هو على تهويد أجيالهم القادمة بفعل العوامل التي أشرنا إليها). وهذه مسألة، أي الفكرة القائلة بوجود "شعب يهودي" والتي ترتكز عليها أيديولوجيا الصهيونية السياسية، خلافية حتى في أوساط المواطنين من أصل يهودي في العديد من  دول العالم، الذين يعتبرون أنفسهم مواطنين كاملي المواطنة في الدولة التي يحملون جنسيتها ويرفضون فكرة الازدواجية أو مبدأ وجوب الهجرة إلى الدولة الصهيونية. ومعروف أن الفكر اليساري (الماركسي) عارض تاريخياً هذه الفكرة، واعتبرها رجعية ومسيئة لمبدأ حل مشكلة التمييز ضد اليهود، حيثما وجد، بالنضال المشترك لكل المناهضين للتمييز والاضطهاد الديني والعنصري والإثني في كل  بلد معني، علاوة على معارضة هذا اليسار للحركة الصهيونية لكونها انخرطت في سياق الحركات الاستعمارية – الاستيطانية التي قامت بها دول اوروبا، خاصة، في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ولكونها تحالفت تاريخياً مع قوى إمبريالية نافذة ساعدتها في تحقيق وتدعيم مشروعها الاستعماري الاستيطاني.   

جنــوب أفريقيــا: تعدديــة "ثقافيــة" وإثنيــة 

أما في جنوب افريقيا، فالأمر مختلف إلى حد كبير. فالسود في البلد، الذين يشكلون قرابة ثلاثة أرباع سكانه، وإن كانت أصولهم العرقية متقاربة (بالأساس من تشكيلة البانتو الكبيرة الممتدة في أنحاء واسعة من أفريقيا الوسطى والجنوبية)، إلا أنهم ليسوا تشكيلا قومياً- ثقافياً واحداً. فهم يتحدثون عدداً كبيراً من اللغات واللهجات. وفي الدستور الجديد لجنوب أفريقيا، فقد تم اعتماد تسع لغات أفريقية سوداء كلغات رسمية في البلد، بالإضافة إلى الإنكليزية والأفريكانز- لغة المهاجرين البيض الذين سبقوا البريطانيين إلى البلد، ومعظمهم من الهولنديين والفرنسيين البروتستانت والألمان والبلجيكيين-. أي أن هناك إحدى عشرة لغة رسمية في جمهورية جنوب أفريقيا وفق دستور ما بعد زوال نظام الفصل العنصري. 

والبيض، الذين يشكلون أقل من 13 بالمئة من السكان حالياً، هم بالأساس من كتلتين ثقافيتين رئيستين، هما كتلة الناطقين بلغة الأفريكانز، التي بدأت كتحوير للغة الهولندية ثم تطورت كلغة ذات خصائص متميزة استوعبت ايضاً بعض ثقافات المهاجرين الآخرين غير الهولنديين، من جهة،  ومن جهة أخرى كتلة الناطقين باللغة الانكليزية، ومعظمهم من المهاجرين في مطالع القرن التاسع عشر. 

 وجدير بالذكر أن  البرتغاليين كانوا أول الأوروبيين الذين اكتشفوا جنوب أفريقيا (ودشنوا طريق رأس الرجاء الصالح البحري... الى الهند)، لكن الهولنديين هم الذين بدأوا حركة الاستيطان في أواسط القرن السابع عشر. ولم تأت بريطانيا كدولة محتلة ومستعمرة إلا في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، عندما خاضت  حرباً ضروساً ضد الـ "أفريكانز"، الذين عرفوا، آنذاك، باسم الـ "بوويرز"، إلى أن تمكنت من احتلال البلد والسيطرة عليه وضمه إلى الإمبراطورية "التي لا تغيب عنها الشمس"، كما كانوا يسمون الإمبراطورية البريطانية، الإمبراطورية الاستعمارية الأوسع مساحة وانتشاراً في أنحاء العالم في تلك الحقبة التاريخية. 

وجدير بالإشارة أن في جنوب افريقيا أيضاً مجموعات عرقية أخرى منحدرة من أصول آسيوية، من الهند وباكستان وماليزيا وغيرها... (حوالي 3 بالمئة من السكان)، بالإضافة إلى عدد غير قليل من "الملونين"، الذين هم نتاج التزاوج بين الأعراق، وخاصة بين السود والبيض. ونسبة من  الآسيويين تتكلم أيضاً الانكليزية، التي تحتل كذلك، بحكم الواقع الدولي، مكانة متقدمة  في المجالات والنشاطات التجارية في البلد. 

نخلص من ذلك كله إلى وجود اختلاف ملموس وكبير في تكوين وسمات السكان الأصليين، كما والمهاجرين المستوطنين، في كل من فلسطين التاريخية وجنوب أفريقيا. وإن كان الإقرار بالنموذج الجنوب أفريقي، كنموذج متقدم لحل معضلة من نوع المعضلة الفلسطينية- الإسرائيلية، يشكّل خطوة هامة إلى الأمام على الأفكار التي تنطلق، عملياً، من الرغبة في إعادة التاريخ الى الوراء. والعودة الى الوراء أمر غير ممكن، طبعاً. ومجرد طرحها كرؤية استراتيجية لا يساعد على اشتقاق سياسة نضال عملية وناجحة من أجل الوصول الى الهدف المنشود. وكل ذلك بغض النظر لما ستؤول اليه الأمور على أرض الواقع حين تتوفر شروط تحقق هذا الهدف، وهو زمان غير مرئي حالياً ويصعب التنبؤ به. 

الحل الجذري لا يكون بالاعتراف بالطوائف الدينية   

ولكن، مرة أخرى، من المهم تماماً أن ينظر الى خصائص الصراع الفلسطيني–الاسرائيلي وطبيعة التشكيلين البشريين المتواجهين في اطاره، المجتمع العربي الفلسطيني، من جهة، والمجتمع اليهودي الاسرائيلي المتشكل بالأساس نتيجة الهجرة والاستيطان، من الجهة الأخرى. فليس مجدياً ولا هو مفيد سياسياً في إطار النضال من أجل تحقيق الهدف التركيز في الحديث، مثلاً، على دولة واحدة يعيش فيها المسلمون والمسيحيون واليهود في تناغم أو تعايش أو مساواة.  فالصيغة، رغم انطلاقها غالباً من استعداد انساني للتعامل، في إطارالحل النهائي، مع المجتمع الناجم عن العملية الاستعمارية الاستيطانية، بالرغم من الظلم الكبير الذي ألحقه هذا المجتمع، وقياداته، بالشعب الفلسطيني، إلا أنها تصبغ على الصراع، وعلى الحل، طابعاً دينياً وطائفياً بحتاً، وهو ما ليس حال الصراع الفعلي، الذي هو صراع شعب مضطهد ومصادرة حقوقه ضد حركة استيطانية استعمارية تسببت بهذا الظلم. ولا تغيّر الراية الدينية التي ترفعها هذه الحركة الاستعمارية واستخدامها  للدين (اليهودي) كعنصر موحد للمجتمع المهاجر من حقيقة  واقعها هذا. 

وحتى الغزوات الصليبية التي شهدتها منطقتنا قبل ثمانية قرون ونيف كانت في الواقع وفي الجوهر حروب نهب لمنطقة المشرق الغنية والأكثر تطوراً من أوروبا، في تلك الحقبة. والدين كان مجرد أداة تحريضية وتعبوية بيد الحكام والأمراء ورجال الكنيسة، وإن كان بعضهم مقتنعاً بمركزية الجانب الديني في هذه العملية، التي هدفت لجر الجماهير الأوروبية الجائعة والبائسة والمأزومة في هذه المغامرة الدموية، بهدف التنفيس عن الاحتقانات  وتصدير المشكلات الداخلية والاستعصاءات الناجمة عن الفقر والتخلف والحروب الداخلية بين الإقطاعيين والأمراء والملوك في أنحاء القارة. وأفضل دليل على كون الدين غطاء لأهداف أخرى، سلوكيات الغزوات الصليبية الدموية والمتوحشة في العديد من المناطق التي اجتاحتها، بما في ذلك الإمبراطورية الرومانية الشرقية التي كانت عاصمتها القسطنطينية (إسطنبول حالياً) والتي تعرض سكانها المسيحيون الأرثوذوكس لمذابح شنيعة على يد الفرق الصليبية. وسلوكيات كهذه لا تنم عن التخلف والهمجية فحسب، وإنما تنم أيضاً عن غياب ضوابط الدين الذي زعمت هذه الغزوات أنها ترفع لواءه. 

وعلاوة على ما ذكرناه، فإن طرح صيغة الحل على أساس التعايش أو المساواة الدينية - الطائفية لا يساهم في تقدم العملية النضالية من أجل تحقيق هذا الهدف. فاليهود ليسوا طائفة فلسطينية مثلاً، وإن كان هناك في الماضي يهود فلسطينيين عاشوا في فلسطين منذ زمن بعيد، كما عاش مواطنون يهود في العديد من الأقطار العربية المجاورة، وحصلت حتى حالات تزاوج بينهم وبين الفلسطينيين، المسلمين والمسيحيين على حد سواء (وهناك حالات معروفة لمناضلين فلسطينيين في صفوف الثورة الفلسطينية المعاصرة هم أبناء أمهات يهوديات، في الغالب من فلسطين نفسها، وبعض هؤلاء شاركوا في عمليات فدائية وأودعوا سجون الاحتلال). لكن الهجرة  اليهودية الواسعة من بلدان العالم المختلفة، خاصة منذ مطلع القرن العشرين، ومن ثم  قيام دولة إسرائيل دمجا اليهود المحليين (وأولئك المهاجرين من دول عربية)، كما سبق وأشرنا، في إطار المجتمع الاسرائيلي، العبري الثقافة. وغالباً ما كانت السمات الأصلية تختفي أو تضعف مع تلاحق الاجيال. بحيث أصبح الآن صعباً الحديث عن يهود فلسطينيين، كما نتحدث مثلاً عن سامريين فلسطينيين. كما أن هذه الصيغة، أي الحديث عن مساواة أو تعايش بين المسلمين والمسيحيين واليهود، تقفز فوق واقع كون الفلسطينيين المسيحيين عرباً، قومية وثقافة، وجزء من المجتمع والشعب العربي الفلسطيني. 

أي أفق للدولة الواحدة؟! 

لكن هنا نأتي الى السؤال الأهم في هذا السياق: هل هناك أي احتمال بأن يتحقق حل كهذا في أي أمد قريب؟ 

والجواب يفرض نفسه: موازين القوى الحالية في ساحة الصراع ومحيطها وفي العالم، علاوة على الموقف الساحق في المجتمع اليهودي الإسرائيلي، لا تسمح بأن يتحقق حل كهذا في أمد مرئي. فكل الفكرة الصهيونية تنطلق من مبدأ قيام "دولة يهودية".

والموقف من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 لدى اليمين الاسرائيلي يقوم على أساس ضم الأرض وليس السكان، وعملياً، وأحياناً علناً، هناك رغبة واضحة وأعمال ملموسة تستند الى هذه الرغبة في التخلص من السكان الفلسطينيين، إما عبر ترحيلهم (فكرة ال"ترانسفير") القسري، الذي أصبح امراً مرفوضاً ومداناً في عصرنا، أو دفعهم الى الهجرة "الطوعية"  نتيجة  الظروف المعيشية الصعبة والمضايقات والاضطهاد المتواصل.  وكان "اليسار" الصهيوني – حزب العمل، وسلفه حزب ماباي– يحمل أفكاراً لا تبتعد كثيراً في الجوهر عن هذه الفكرة اليمينية.  لكن الفروقات بين التيارين، في تعبيراتهما الأوضح، تزايدت مع تنامي دور وفعالية  الحركة الوطنية الفلسطينية في العقود الثلاثة أو الأربعة الأخيرة.  بحيث تشكّل في اطار "يسار" الحركة الصهيونية دعاة الانفصال عن الشعب الفلسطيني، عبر التخلي عن بعض الأراضي المحتلة، تحديداً لمنع تحول إسرائيل إلى دولة "ثنائية القومية" أو تحوّل اليهود الى أقلية بشرية حتى في ظل احتكارهم للسلطة. (ولا نتحدث هنا عن مواقف الأقلية اليهودية في إسرائيل التي تعارض الصهيونية والتي اتخذت مواقف مناهضة للاحتلال وللغبن التاريخي الذي لحق بالشعب الفلسطيني منذ سنوات طويلة). 

ومن الواضح، إذاً، أن التجربة الاستيطانية الأمريكية الشمالية، أي الاحتلال عبر ابادة السكان الأصليين، لم تعد قابلة للتكرار في عصر الاتصالات السريعة والوعي الإنساني الجماعي المتزايد. وطالما أن يمين الحركة الصهيونية و"يسارها" يلتقيان على فكرة "يهودية" الدولة، وهي الفكرة المركزية في الأيديولوجيا الصهيونية، وفي ظل استمرار وتفاقم  المعطيات الإقليمية والعالمية التي أشرنا اليها أعلاه، يبدو جلياً أن قيام دولة ديمقراطية واحدة على امتداد المساحة بين النهر والبحر مستبعدة التحقيق تماماً في أي مدى منظور، وإن كانت، من حيث المبدأ وكمشروع أطول مدى، تطلعاً مشروعاً لكل من يبحث عن حل جذري ودائم فعلاً للصراع الجاري. وعند الاقتراب من حل كهذا، يمكن التفكير بصيغ عملية متعددة تحترم حقوق الجميع وخصائصهم، بعد أن يزال أولاً الغبن اللاحق بالشعب الفلسطيني. ولدينا في عالمنا المعاصر نماذج غير قليلة  يمكن أن تساعد في تصور مثل هذه الصيغ، التي تراعي مصالح وخصائص كل مكونات الدولة الديمقراطية العتيدة. 

وهكذا، رغم الصعوبات الكبيرة التي واجهت النضال الفلسطيني من أجل قيام دولة فلسطينية مستقلة فوق الأراضي المحتلة عام 1967، وهو هدف نضالي تبلور في إطار الثورة الفلسطينية المعاصرة منذ مطلع سبعينيات القرن العشرين، وتم إقراره كهدف مركزي للنضال عبر عدة محطات تشريعية في إطار المجلس الوطني الفلسطيني منذ العام 1974 وحتى العام 1988، عام إقرار "إعلان الإستقلال"، إلا أن تطورات السنوات الأخيرة، على تعرجاتها وتقلباتها ومآسيها، تؤكد أن هذا الهدف يبقى هدفاً قابلاً للتحقيق في أمد منظور، حتى في ظل الاختلال في موازين القوى المادية الحالية في إطار الصراع الفلسطيني والعربي – الإسرائيلي وانكسار التوازن الدولي إثر تفكك وانهيار الإتحاد السوفييتي واستئثار الولايات المتحدة، حليفة إسرائيل القوية، بالنفوذ الكوني العسكري – الإستراتيجي المدعوم بنفوذ اقتصادي قوي، وأخيراً احتلال العراق والتواجد العسكري الاميركي الكثيف فيه وفي بعض بلدان الخليج الأخرى. ويمكن التطرق لاحقاً لآليات التعويض عن الخلل في موازين القوى المادية بموازين قوى وعوامل من طبيعة أخرى، أحسنت استعمالها واستنهاضها العديد من ثورات التحرر الوطني في القرن المنصرم.  

ويكفي أن نتحدث عن إقرار دول العالم كلها حالياً بمبدأ الاستقلال الفلسطيني، وإقرار الغالبية الساحقة من هذه الدول  بالمفهوم الفلسطيني لهذا الاستقلال، مع بقاء الموقف الأميركي وحده غامضاً في هذا الصدد، إلى جانب الموقف الإسرائيلي الرسمي، الذي يفهم هذا المبدأ حتى الآن بصيغة هي أقرب لصيغة ال"بانتوستانات" التي أقامها النظام العنصري في جنوب أفريقيا في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات الماضية. 

ومعروف أن نظام التمييز العنصري هناك أقام اربع"دول" سوداء داخل مساحة جنوب افريقيا (ترانسكاي، وبوفوثاتوانا، وفندا، وسيسكاي)، ولكنها  لم تلق اعتراف أية دولة من دول  العالم، وعادت كلها، بعد انهيارالنظام العنصري، لتصبح جزء من جمهورية جنوب أفريقيا الموحدة. ولن يكون مصير المشاريع والتصورات الشارونية المشابهة بأفضل من مصير هذه "البانتوستانات".    

__________________
الكاتب داود تلحمي هو عضو المكتب السياسي في الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين.