الدولــة ثنائيــة القوميـــة: الصعـود فــي فصـل سيـاسي جديـد

بقلم:د. فرجينيــا تيــلـي 

يجتاح فلسطين-أرض اسرائيل تغييراً أساسياً في المناخ السياسي محولاً شكل سطح الخريطة السياسية لتبدو وكأنها خريطة فصل مختلف تماماً. يختبئ  البعض في مكاتبهم أو يحاولون بغضب وقف الجدال الدائر،  لكن سفوح التلال ذاتها، تعكس مكونات أضواء الفصل الجديد: فقد انتشرت شبكة المستوطنات اليهودية في مختلف أرجاء الخريطة، لم تبد تلك المستوطنات ضخمة الحجم فقط، بل بدت وكأنها هناك لتبقى، فعلى سطح هذه الخريطة يعيش الآن مئات الآلاف من المستوطنين اليهود، يديرون شؤونهم، ويربّون أطفالهم، ويحاولون بناء حياة جيدة لهم سواء كانت علمانية أم دينية.

 

ليس هنالك ما هو أقوى سياسياً، من جماعة من المستوطنين عندما يكونوا قد غرسوا آمالهم وأحلامهم عميقا في أرضٍ ما. وفي حالتنا هذه، ليس هنالك ما هو أقوى من ذلك. ففي كل يوم يدرك المزيد من المراقبين الفلسطينيين واليهود والدوليين أن هذه الجموع الغفيرة من المستوطنين اليهود لن ترحل وأنهم لم يتركوا للفلسطينيين مساحةً كافيةً لإنشاء دولةٍ فلسطينيةٍ قادرةٍ على الاستمرار. 

هل يمكن إزالة شبكة المستوطنات كلها حسب ما يأمل ويتوقع بعض الناس؟ من المؤكد أن أيّ حكومةٍ إسرائيليةٍ لن تفعل ذلك. أحد الأسباب هو اقتصادي صرف. ففي كل سنةٍ تقوم وزارات الحكومة ومؤسساتها بدعم المستوطنات بمبالغ قد تصل في هذه الآونة في مجموعها إلى عشرات الملايين من الدولارات، على شكل استثمارات عامة وخاصة، تفوق بمئات المرات ما صرف على الكتل الاستيطانية الصغيرة التي كانت في قطاع غزة. فتكاليف الانسحاب وتدمير كل ما استثمر يفوق أي مصادر يمكن إيجادها أو العثور عليها فيما أصبحت الضفة الغربية من الناحية الاقتصادية ملحقةً بإسرائيل. 

إضافةً إلى ذلك فإن الانقسامات الأيديولوجية العميقة داخل الحركة الصهيونية ستحبط أي انسحاب. "فالعرض المسرحي" السياسي البراق الذي رافق الانسحاب من غزة، يتقزم أمام "الكارثة الوطنية" التي ستلازم أي محاولةٍ للانسحاب من "يهودا والسامرة"-الضفة الغربية، المنطقة التي شكلت مسرحاً فعلياً للممالك اليهودية التوراتية القديمة، وتحتل مكانة مركزيّة للفكر الصهيوني حتى للتيار العلماني إلى حد كبير.  وسيكون هنالك أعداد متزايدة من اليهود الإسرائيليين الذين سيشعرون بالإحباط أمام تجزئة كهذه "للوطن القومي". وفي ظل هذه المشاعر لن تتمكن أي حكومة إسرائيلية من الصمود أمام أية محاولة جديّة للانسحاب من "الوطن الصهيوني"، ولم تحاول أية حكومة صهيونية ذلك في الماضي، فعلى مدار سنوات عملية أوسلو و"خارطة الطريق"، تحدثت كافة حكومات حزبي العمل والليكود عن السلام في العواصم الأجنبية، بينما كانت تواصل بناء المستوطنات في الضفة الغربية بسرعة هائلة. 

فقط قوةً خارجيةً ما، ستكون قادرةً على الخروج بحلٍ لهذا المأزق، ولكن مثل هذه القوة لم تظهر للآن  على الخارطة الدولية. فالسياسة الخارجية الأمريكية ما زالت عالقةً في إطار شرك انحيازها لإسرائيل. ولا تظهر هنالك أي بادرةٍ لتغيير هذا الانحياز في المدى المنظور، حتى وإن تم تحييد الطغاة الجدد. يتميز موقف الكثير من الدول الأوروبية بالتعاطف، ولكن الاتحاد الأوروبي الفتيّ ما زال غير قادرٍ على صياغة سياسةٍ خارجيةٍ موحدة. أما أعضائه فلا يستطيعون منفردين دفع الحكومة الإسرائيلية إلى أن تأخذ على عاتقها ذلك المشروع السياسي المؤلم، القاضي بالتخلي عن مستوطنات الضفة الغربية. وأما الدول العربية، فلا تمتلك أي قوة تأثير، إما لكونها ضعيفة ومنقسمة على أمرها، أو لأنها توّاقة لعلاقة صداقة مع الولايات المتحدة، خاصة أثناء أجواء "الحرب على الإرهاب". حتى صفقات السلام الشامل التي اقترحتها مؤخرا سوريا والعربية السعودية، لم تستطع حثّ إسرائيل على التخلي عن الأرض. 

الأمر المحزن هو أن الفلسطينيين لا يستطيعون فرض الانسحاب أيضاً. فالسلطة الفلسطينية ضعيفةً من الناحية السياسية، بينما تبقى الخيارات المسلّحة غير كافية. صحيح أن العمل الفلسطيني المسلح قد ساهم في دفع إسرائيل باتجاه قرار الانسحاب من غزة، رغم أن أثره لم يكن بنفس القدر الذي تدعيه بعض الكوادر. لكن غزة تقع خارج الممالك اليهودية التوراتية القديمة، التي تربط خيال حتى الصهاينة العلمانيين، بشكل قوي جدا بأراضي الضفة الغربية. المقاومة الفلسطينية المتصاعدة في الضفة الغربية ستزيد فقط من مدى وحشية الاحتلال. وفي هذه الأثناء تتواصل عملية بناء الجدار بينما تتواصل عملية حشر المجتمع الفلسطيني في غيتوات جديدة. 

ومن قبيل السخرية أن يوحي هذا المشهد لكل من الفلسطينيين والإسرائيليين بالبحث عن أمل جديد في إعادة إحياء رؤيا حل الدولة الواحدة. فالفكرة ليست جديدةً بطبيعة الحال. وقد ثمّن الفلسطينيون ولوقت طويل هدف الأمة الواحدة من نهر الأردن إلى البحر. وهي خطة صادق عليها الانتداب البريطاني في فترة ما بين الحربين العالميتين. وبالطبع فقد قامت الصهيونية وهي (اتجاه سياسي عرقي قومي ولد في شرقي أوروبا) بتحطيم تلك الرؤيا في مهدها. لقد دعا ثيودور هرتسل أساساً إلى إقامة دولة يهودية، لكي توفر لليهود الحالة الطبيعية التي تمتعت بها بقية القوميات العرقية التي أعجب بها، مثل الهنغاريين والفرنسيين. وبحلول أواخر الثلاثينات من القرن الماضي سيطرت الحركة التصحيحية على الحركة الصهيونية – وجديرُ بالذكر أن الحركة التصحيحية اعتقدت بأن الوطن القومي غير كافٍ لإعادة إحياء القومية اليهودية، بل إن إقامة الدولة اليهودية فعلياً أمر ضروري. وقد أكدت الكارثة-الهولوكوست التي حلت باليهود في حينه لأعداد كبيرة أخرى منهم أن إقامة الدولة اليهودية كانت ضرورةً للبقاء. ولكن طبيعة الدولة "اليهودية الديمقراطية" تطلبت في حينه أغلبيةً يهوديةً مما تطلب تهجيراً فعلياً للسكان الفلسطينيين الأصليين الأمر الذي أدى إلى النكبة. والنتيجة التي نعرفها هي معاناة الفلسطينيين من صراعٍ مرير على مدار نصف قرن، بينما واصل التصحيحيون رفض "الدولة ثنائية القومية" باعتبارها "تهديداً" لا يمكن لحياة اليهود القومية أن تحتمله. 

ومع ذلك فقد دافع بعض اليهود الصهاينة الأوائل عن فكرة دولة مشتركة، حيث يمكن "للوطن القومي" اليهودي أن يثمر تعاونا خلاقاً مع الشعب العربي الأصلي الذي يعيش على تلك الأرض. وبرغم التهميش والسخرية التي عاناها هذا التيار من الاتجاه السائد، إلا أنه لم يمت تماماً. الآن ينبعث هذا التيار الفكري مجددا من خلال أصوات وكتابات الكثيرين من المفكرين اليهود في إسرائيل، الولايات المتحدة، أوروبا ومناطق أخرى. ففكرة الدولة "ثنائية القومية" أصبحت بالنسبة لهم أمراً جديداً، أي أملاً، بدلاً من أن تكون تهديداً، وطريقةً يمكن لإسرائيل متعددة الأعراق أن تسلكها، لإيجاد السلام الدائم "والحالة الطبيعية" بين الدول الديمقراطية في هذا العالم. 

وعلى كل حال لم يعد هذا هدفهم وحدهم فقط. فعلى مدار العديد من السنوات استمر قلق المجتمع الدولي جراء هذا الصراع. ولكن منذ أحداث 11 أيلول، واحتلال الولايات المتحدة للعراق يشترك الجميع في مواجهة مستقبل مشئوم. فقد تحطمت سيطرة الولايات المتحدة عن طريق معاملتها غير المتكافئة "للديمقراطية الإسرائيلية" والفلسطينيين. لا بد للمجتمع الدولي من أن يتصرف، وذلك ليس بمواصلة تأييد حل الدولتين الذي يروج له بوش وشارون، والذي أصبح ضرباً من الخداع والكذب، ولكن عن طريق تأييد الحل الوحيد المتبقي والذي يتميز بالاستقرار طويل الأمد والديمقراطية غير القائمة على أساسٍ عرقي. 

يتطلب النشاط الدولي، الذي لا بد من أن يتميز بالإصرار على هذا المسار الجديد، توضيح أن حل الدولة الواحدة ينسجم تماما مع الإجماع الدولي. كثيراً ما يرفض الصهاينة هذه الفكرة معتمدين ليس فقط على الموافقة على خارطة الطريق ولكن أيضاً على قرار التقسيم الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 لسنة 1947، والذي اقترح "دولة يهودية" و"دولة عربية" ضمن فيدرالية اقتصادية واحدة. وبما أن إسرائيل لم تنو قط الانصياع لقرار الأمم المتحدة ذلك بعد 1948، وبما أنها ما زالت تواصل تجاهل غالبية الأطراف الأخرى، يصبح الإصرار على ضرورة وجود "رأياً دوليا" في هذا الشأن أمراً يدعو للسخرية ولكن على أي حال فإنه يتطلب رداً. 

في الحقيقة فإن قرار التقسيم كان قراراً غير اعتيادي في قرن سادت فيه حلول الدولة الواحدة على الدبلوماسية والسياسة العالمية. لقد أوكل للانتداب البريطاني مهمة التحضير لاستقلال فلسطين  كدولة واحدة. وبعد أن فشل قرار التقسيم وأقيمت إسرائيل، لم يذكر أي من قرارات الأمم المتحدة اللاحقة دولة فلسطينية، فقد تم الحديث عن "مناطق" فقط أو "عن مشكلة لاجئين" (كما جاء في قرار 242). لقد سعى كلُ من إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية إلى حلول الدولتين عبر العقود الماضية ولكن بشروط مختلفة كما هو واضح. لقد وافقت منظمة التحرير الفلسطينية على حل الدولتين في عام 1988 فقط، أما الولايات المتحدة وإسرائيل فقد وافقتا على ذلك في عام 2002. وفي ضوء هذا العرض التاريخي فإن التأييد الجدي لحل الدولتين في "عملية السلام" هو توجه جديد أكثر من كونه إجماع ثابت منذ الأمد. ومن الجدير ذكره أيضاً هو أن قرار التقسيم لم يعكس أبداً "إجماعاً" دولياً بمفهوم أنه رأياً يتفق عليه الجميع. فالصهاينة المدافعين عن قرار التقسيم، كثيراً ما أكدوا أنه "لا وجود لشريك عربي"  يؤيد الدولة المشتركة. 

لكن حكومات أفغانستان، مصر، العراق، لبنان، باكستان، العربية السعودية، سوريا واليمن كلها أعلنت رسمياً تأييدها لحل الدولة الواحدة سنة 1947، وذلك عندما كانت أعضاء في اللجنة الفرعية الثانية التابعة للأمم المتحدة والمكلفة بإيجاد بدائل محتملة للتقسيم. ومن المهم أيضا أنهم أيدوا حق  اليهود القانوني في الوطن القومي في فلسطين وذلك لأنها انسجمت مع شروط الانتداب البريطاني. ولكنهم صمموا على أن دستور الدولة الجديدة  يجب أن يؤمّن حقوقاً متساويةً لجميع مواطنيها. لقد حذّرت اللجنة الفرعية أيضاً من نشوب نزاعٍ خطيرٍ طويل الأمد في ظل التقسيم، ولكن لم يلق تحذير اللجنة هذا أي صدىً. لقد سيطرت القوى الغربية على منظمة الأمم المتحدة الفتية حديثة العهد، وهكذا تم تمرير قرار التقسيم، ووضعت الشروط التي في ظلها حلّت النكبة. الآن تتردد تلك التحذيرات في ذهن إسرائيل بينما هي تحاول الاستيلاء على الضفة الغربية، تحت شروط تفرض على الفلسطينيين أن يحبسوا في سجون منفصلة. بينما يذكي الصهاينة القوميون المتطرفون ناراً تهدد بابتلاع المنطقة. 

هل من الممكن أن يرى اليهود الصهاينة اليوم بهذا الخطر المحدق إشارةً تستوجب تفكيك نظام الحكم الأثنوكراتي في إسرائيل بدلاً من تعزيزه؟ عظيمة هي التحديات الواقفة في طريق تغيير رأي الآخرين، خاصةً على ضوء العنف المستشري في السنوات الأخيرة.  النجاح يعتمد بشكل كلي على المعنويات والمناخ السياسي الذي يصنعه الناس داخل إسرائيل – فلسطين، وفي الخارج، لا بد لهذا المناخ – على وجه الخصوص - أن يخاطب الإرث التاريخي للكارثة اليهودية: الذي يتلخص بالاعتقاد الصهيوني الذي مفاده أنه يجب على إسرائيل أن تبقى "دولة يهودية" لتكون ملاذاً وملجئاً أخيراً لليهود. أما داخل إسرائيل، فإن تجربة إسرائيل "كوطن قومي"  لليهود يحتل أهمية أكبر. ومن كلا وجهتي النظر فإن الديمقراطية أمراً مرعباً لأن دعامة الحياة القومية اليهودية الحديثة يمكن أن تميّع بشكل مؤلم  لتتحول إلى ديمقراطية لا عرقية كاملة توفر حق التصويت لأغلبيةٍ فلسطينيةٍ وغير يهودية. فمن ناحية تعتبر هذه المخاوف ببساطة شوفينية عرقية، (تطرف عرقي) ،أي أن سبب تمجيد الدولة اليهودية هو ضمانها لأغلبية يهودية وبهذا يوفر عامل أحادية العرق، كصمام أمان دائم يسمى "دولة يهودية" تتعدى قليلاً الجماعة المنغلقة على نفسها وراء بوابة. من ناحية أخرى لا يعتبر الاعتزاز بغنى التراث والحياة الثقافية اليهودية أمراً غير مشروع إذا ما وافقنا على إعطاء القيمة ذاتها للفلسطينيين والأمريكيين الأصليين وشعوب أخرى عديدة. المعضلة أنه لا يمكن لأي مجموعة عرقية أن تدّعي منطقة نفوذ دائمة لها في إطار دولة إقليمية، وتدّعي الديمقراطية في آن واحد. فنتيجة تلك المعادلة محكوم عليها بحتمية التمييز والصراع. 

التحدي إذا هو تأسيس دولة موحدة لا عرقية في إسرائيل – فلسطين، تتيح لليهود والفلسطينيين فرصة للتجمع والتعبير عن أنفسهم كمجموعة ثقافية، بينما ترعى في نفس الوقت تطور حياة قومية إسرائيلية حقيقية. يجب أن يكون الجهد مركّزا على إيجاد التوازن الدقيق. فمثلاً حقّ عودة الفلسطينيين إلى أرضهم التاريخية هي مسألة غير قابلة للنقاش. مع ذلك فإن حماية بعض الممتلكات اليهودية (ممتلكات فلسطينية سابقا)، أمراً لا بد من التفاوض عليه باعتباره ضرورة سياسية. القوانين التي توفر جنسية إسرائيلية بشكل آلي، لأي يهودي من أي بقعة على الأرض هي قوانين غير عادلة كما هو واضح. ولكن وظيفة إسرائيل باعتبارها ملاذاً لليهود، يمكن الإبقاء عليها من خلال قوانين لجوء خاصةٍ باليهود. لا بد من التأكيد على توفير مداخل متساوية لكافة المواطنين لموارد الدولة، بينما يمكن الاعتراف ببعض المصالح الطائفية في الأماكن المقدسة. أما الحقوق اللغوية فهي أمر أسهل، حيث أن العبرية والعربية هما الآن لغتان رسميتان. ولكن لا بد من تعزيز مكانة اللغة العربية وذلك لتوجيه سكان القطر إلى الثنائية اللغوية بشكل أفضل. 

على وجه الخصوص يجب تجريد التخطيط العام من النزعة العرقية. ففي القدس كما هو الحال في بقية القطر، يجب عزل توزيع المناطق وحقوق السكن عن أي تحديدات عرقية. يمكن للمستوطنات أن تبقى في مكانها، ولكن ليس لها أن تطالب بحصة أكبر من الأموال العامة أو المياه أو استعمال مساحة من الأرض للشخص الواحد أكبر منها في المدن والقرى الفلسطينية المجاورة. الأمر الأكثر أهمية هو أن لا يسمح للمؤسسات القومية اليهودية مثل الوكالة اليهودية والمنظمة الصهيونية العالمية والصندوق القومي اليهودي والتي تروّج للحياة الثقافية اليهودية في إسرائيل والخارج أن تستمر في التحكم بالموارد العامة (مثل الأرض). لا بد من ضمان تساوي كافة الأعراق فيما يتعلق بقروض الإسكان، والتعليم ومواقع السكن وتراخيص العمل والمؤسسات الثقافية والفنية وكذلك الخدمات العامة والواجبات مثل الخدمة العسكرية. ومرة أخرى لا بد من أن تقوم هذه الإصلاحات بناءاً على أن هذه الدولة الجديدة سوف تؤمّن شروط استمرارية الحياة اليهودية الإسرائيلية الغنية وكذلك الحياة الثقافية الفلسطينية. 

كيف يمكن إحداث هذا التغيير؟ الجهد الجماعي المبذول من كافة الأطراف هو وحده القادر على النجاح، فلا بد لأي حملةٍ دولية من أن تأخذ صيغة لنشاطها، ثم تنسق ذلك مع الجهود المحلية. فعلى سبيل المثال، إذا كنا لنقبل ديمقراطية كاملة كطريق عادل ومستقر وحيد، فلا بد من أن يتوصل اليهود إلى الاعتراف بالجريمة التاريخية التي ارتكبت بحق الفلسطينيين أثناء النكبة والاحتلال. ولكي يحدث ذلك، لا بد للباحثين والصحفيين الإسرائيليين من مواصلة  نشر المؤلفات التاريخية الإسرائيلية التصحيحية، والتي من شأنها أن تبدل في نظر الجمهور اليهودي الإسرائيلي الأساطير الصهيونية الكلاسيكية القاضية ببراءة إسرائيل وعدالتها،  وكذلك العداء العربي العنيد. 

وأما الفلسطينيين فلا بد لهم من مراجعة مكونات برنامج منظمة التحرير الذي عفا عليه الزمن، والبحث مجدداً في ماهية الأهداف السياسية والقيم التي تهمهم الآن كمجتمع. فقد يكون ذلك بداية لإعادة التفكير في ما الذي تعنيه (عبارة الدولة الفلسطينية). كانت رؤيا منظمة التحرير القديمة  للدولة العلمانية الديمقراطية والتي تضم كافة المجموعات العرقية والطائفية في فلسطين. حل الدولتين في خطة بوش شارون المسماة "خارطة الطريق" مع انها رسمياً تطرح كلمة "فلسطيني" باعتبارها دالة على هوية مختلفة عن "يهودي"، إلا أنها تضفي سمة عرقية على "الصفة فلسطيني" وبنفس الوقت (إذا كان فقط "غير يهودي"). ولكن إذا ما كانت كلمة فلسطيني تشير إلى هوية قومية، عندما تكون مستقلة بذاتها أو باعتبارها هوية تدل فقط على عدم الأصالة، من شأن ذلك أن يؤثر على الأجوبة الجماعية على السؤال الحيوي، "ما إذا كانت مصلحة الحياة السياسية للفلسطينيين تلبى بشكل أمثل، في إطار دولة فلسطينية عرقية كما هي معرّفة الآن، أو عن طريق دولة فلسطينية موحدة؟". وإذا كانت الأخيرة هي الإجابة، فلا بد من تأكيد واضح على قبول سكان إسرائيل اليهود حالياً، في إطار مبدأ المساواة الديمقراطية الكاملة، لكافة مواطني الدولة. وبعبارة أخرى ما نحتاج إليه هو وثيقة تحرر فلسطينية، قد تكون مشابهة للبرنامج الذي وجه عملية النضال الديمقراطي في جنوب أفريقيا. 

تتطلب هذه المشاريع الصعبة من أجل نجاحها، عملاً مكملاً على المستوى الإقليمي. فالآن يمكن لكل مجموعة دينية أو عرقية، أن تشير إلى المتطرفين والرافضين في الجانب الآخر وذلك من أجل إضفاء الشرعية على موقفها الدفاعي. وفي حالات كثيرة تكتسب هذه المفاهيم مشروعيتها بشكل جزئي من النصوص والتعاليم المقدسة، والتي تعتبر أدوات لتقديس المقولات والتأكيد على القصص أو الحكايات الأسطورية. يجب على الناس في المجتمعات اليهودية والمسيحية والإسلامية أن يستخدموا نصوصهم المقدسة وتعاليمهم، للحض على الحكم السوي في دولة مشتركة. هنالك المزيد من الأعضاء اللذين بإمكانهم تطوير وإشاعة هذه الأفكار الجديدة، لرعاية رؤىً تتميز بقدرٍ أعلى من الذكاء، بينما يرفضون التمييز والعنصرية والتعصب والعنف الصادر عن المتطرفين من بينهم. ويمكن هنا الدمج بين علم الآثار والذاكرة الجماعية، أي ما الذي نعرفه عن التعايش بين الأعراق في قديم الزمان، فمثلاً تسليط الأضواء على ما يمكن أن ينشئ المبادئ المشرفة والموحية المتعلقة بالحياة المشتركة لمختلف الأجناس. ولدعم مثل هذه النقاشات لا بد للجنة الدولية لحقوق الإنسان من المساعدة على جعل النظام القديم قادر على البقاء بشكلٍ كافٍ لإتاحة المجال لأنماط أخرى من التفكير. أحد الأساليب الواضحة هي تشكيل المنتديات (الملتقيات) الخاصة بحل الدولة الواحدة وإطلاق وإشاعة نقاشاتها. وطريقة أخرى هي استخدام العقوبات الاقتصادية والمقاطعة لجلب الضغط على الاقتصاد الإسرائيلي وخلخلة الصورة الذاتية للمجتمع الإسرائيلي. 

لقد ركزت الحوارات الدائرة حول حملات المقاطعة بشكل خاص، على الجامعات والأكاديميين. ومع ذلك، فهنالك أهداف أكثر وضوحاً وهي وكلاء الدعاية السياسية، والعرقيين القوميين الإسرائيليين مثل المنظمة الصهيونية العالمية، والصندوق القومي اليهودي، والذي يصل بنشاطاته ومشروعاته دولاً كثيرة حيث يمكن تحديدها واستهدافها بسهولة، من قبل حملات المقاطعة المحلية. وبكل التأكيد فإن كافة هذه النشاطات قيد التنفيذ. ولكنها ما زالت مجزأة ومرتبكة أخلاقياً. "فعبارة أنهاء الاحتلال" كان شعار هذه النشاطات لمدة طويلة خلت. ولكن شعار "إنهاء الاحتلال" يجب أن يعاد النظر فيه. فلا يمكن فهمه الآن بمعنى إخلاء شبكة المستوطنات الضخمة، الأمر الذي لن يحدث. ولا يمكن الآن فهم شعار حل الدولتين، الذي يسهل في هذا الزمن إستراتيجية سجن الفلسطينيين في دوائر مغلقة ويزكي حكم النخبة اليهودية. لا بد من أن يفهم كما فهمه الناس في جنوب أفريقيا أي الإصرار على الحقوق المتساوية لكافة من يسكنون على تلك الأرض. ذلك عن طريق تبني نفس المبادئ الكونية لحقوق وكرامة الإنسان. حركة من أجل دولة ديمقراطية موحدة في إسرائيل – فلسطين حيث يمكنها استرجاع الخلق والضمير الإنساني، وأن تأخذ مساراً جديداً وتحقق قوة سياسية غير مسبوقة.

 _____________________

د. فرجينيا تيلي هي أستاذة العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جامعة هوبارت ووليام سميث في نيويورك. ومحاضرة زائرة في مركز الدراسات السياسية في جوهانسبورغ، جنوب أفريقيا (2005-2006). وهي مختصة في سياسات الشرق الاوسط والصراعات الإثنية. أصدرت تيلي حديثا كتابا حمل عنوان "حل الدولة الواحدة".