إشكاليــة حــل الدولتيــن وحلــم الدولــة الديمــوقراطيــة الواحـــدة!

بقلم:نصّــار إبـراهيــــم

شكلت قضية اللاجئين الفلسطينيين وحق العودة على المستوى السياسي والتاريخي جوهر القضية الفلسطينية، كما أنها تمثل التجسيد الكثيف لمأساة الشعب الفلسطيني. إنها تجسيد سياسي وإنساني وأخلاقي وعقدة أعصاب الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وبهذا المعنى أضحى الموقف من حق العودة خطاًّ معيارياً على أساسه يمكن قياس عدالة وجدية أي مشروع مطروح للحلّ السياسي، وأيضاً قياس مصداقية مواقف القوى السياسية كما الأفراد. 

والمقاربة هنا تتخطى بالتأكيد البعد الوجداني والأخلاقي، لأن موضوع النقاش موضوع سياسي بامتياز. فالاحتلال الصهيوني المحكوم بالفكر الصهيوني في الممارسة الايدولوجية والسياسية يدرك هذه الحقيقة، وعليه فأنه يعتبر حق العودة خطاًّ أحمرا يهدد المشروع الصهيوني برمته، ولهذا يصر الطرف الاسرائيلي دائماً على حشر قضية اللاجئين الفلسطينيين في الزاوية الانسانية التي لا يتعد التعامل معها مفهوم لم شمل بعض العائلات، وذلك بهدف إخراج القضية والنقاش من دائرة الاستحقاق السياسي والمسؤولية التاريخية.

 

ضمن هذا المنطق فإن إسرائيل تدفع وباستمرار أي مشروع سياسي للحلّ نحو التعامل مع حقائق اللحظة الراهنة في محاولة لقطع المسائل عن سياقاتها. هذه الممارسة أو المنهجية السياسية التي تحكم السلوك الاسرائيلي ليست عفوية أو صدفية، بل هي ممارسة سياسية مرتكزة الى قراءة مركبة للصراع وبالتالي اشتراطات الحل. من هنا يمكن فهم الاصرار الاسرائيلي على تخطي مرجعيات الشرعية الدولية لأي مفاوضات سياسية، وبالتالي وضع جميع قضايا الحل النهائي على جدول النقاش، والمقصود بذلك، أن جميع القضايا المتعلقة بالصراع قبل حرب الايام الستة عام 1967 تعتبر خارج النقاش والبحث.

وهذا معناه العملي، أن قضايا التفاوض والحل محصورة فقط بما بعد عام 1967، وهكذا أصبح سقف التفاوض محدوداً بمفهوم الدولة الفلسطينية على ما يمكن الاتفاق عليه في الضفة الغربية وقطاع غزة. وما يمكن الاتفاق عليه على هذا الصعيد محكوم وفق المنطق الاسرائيلي بمرجعية القوة وتحكم الحلف الاسرائيلي-الامريكي بعملية التفاوض. هذه الحقيقة هي التي دفعت وتدفع أي مشروع أو محاولة لانهاء الصراع الفلسطيني- الاسرائيلي نحو دوائر الازمة والانحباس وانسداد الامن. ينطبق هذا على أتفاقات أوسلو، وتقرير ميتشيل وبعدها خارطة الطريق وأخيراً وثيقة جنيف. فالتقييم الموضوعي لجميع هذه المشاريع أنها ولدت وهي تحمل بذور مأزقها وفشلها في منطلقاتها ومرجعياتها واهدافها. 

انها تنطلق من خط بداية مشوّه، انها تتحدث عن السلام والحلّ النهائي في الوقت الذي تتحرك فيه وفق شروط القوّة الاسرائيلية، وبالتالي أصبحت العملية السياسية هي الترجمة العملية للعنف العسكري، وبهذا تحوّلت الى أداة تستخدم لتبرير ما تفرضه اسرائيل من حقائق ميدانية سواء على صعيد السياسة أو الديمغرافيا. وما دامت مشاريع الحل السياسي المطروحة تستهدف القفز عن الأسئلة والاشكالات الكبرى للصراع، وخاصة الحقوق الوطنية الفلسطينية وفي مقدمتها حق العودة لملايين اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم التي اقتلعوا منها بقوة السلاح والارهاب المنظم، إذن فمن الطبيعي أن تتحول إلى ميدان سياسي يسعى لشطب الثوابت الفلسطينية من جانب وتأكيد الرؤية والأهداف الإسرائيلية من جانب آخر. 

تأسيسياً على ما تقدم يمكن ادراك وفهم المأزق أو الاشكالية العميقة التي يواجهها حلّ الدولتين وفق المنطق الامريكي- الإسرائيلي والمهادنة الفلسطينية في ظل العجز العربي والتواطؤ الأوروبي. ويمكن الحديث بقوّة عن نقلة استراتيجية تاريخية في حل الصراع لو جاء حل الدولتين وفق مرجعية واضحة أساسها: قرارات الشرعية الدولية بما في ذلك قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194، وانسحاب إسرائيل الى حدود الرابع من حزيران 1967، بعد إزالة كل المستوطنات الصهيوينة من الضفة والقطاع والقدس.

غير أن الممارسة السياسية والعملية لإسرائيل تذهب عكس ذلك تماماً، فالدولة التي يتغنى بها بوش وشارون ما هي إلا مصيدة وأداة لإنهاء وشطب الحقوق الوطنية الفلسطينية الثابتة. فأي دولة تلك التي تتحدد حدودها الآن عبر جدار الفصل العنصري؟ بما يعنيه ذلك من قضم وهضم المزيد من الاراضي الفلسطينية. هذا الى جانب الموقف الاسرائيلي المعلن حول استحالة تفكيك التجمعات الاستيطانية الكبرى وضرورة ضمها الى إسرائيل بما يترتب على ذلك من نهب المزيد من الارض  والاحواض المائية الاستراتيجية وتمزيق الوحدة الجغرافية والسكانية للضفة والقطاع، هذا إلى جانب مشاريع تهويد القدس وتغيير بنيتها الجغرافية والبشرية لصالح الشروط الاسرائيلية.

أما حق العودة، فهو خارج النقاش، لأنه وفق الرؤية الإسرائيلية يعني تدمير مشروع الدولة اليهودية- الصهيونية. هذه الرؤية تم تبنيها أيضاً من قبل الإدارة الامريكية. إذن نحن أمام مشروع سياسي لإنهاء الصراع على أساس الإقرار بانجازات المشروع الصهيوني التوسعي ومكافأة الاحتلال، والاعتراف الواضح بهزيمة النضال الفلسطيني وبالنتيجة القبول بسياسة الأمر الواقع وأن ليس بالامكان أفضل مما كان. 

هذه هي معالم المشهد السياسي للمرحلة الراهنة، وأية تحركات سياسية تجري ضمن هذا النسق انما هي تحركات تستهدف المناورة وإجراء بعض التعديلات الطفيفة والشكلية التي لا تمس مشروع السيطرة والهيمنة الاسرائيلية. في ضوء هذه القراءة التي حملتها التجربة منذ بداية عقد التسعينات من القرن الماضي وحتى الآن يطرح السؤال الرئيسي: ما هو البديل إذن؟ وكيف سيتم التعامل مع تحديات اللحظة ارتباطاً بالأهداف الاستراتيجية؟ 

إن المسألة الأسياسية التي يجب التأكيد عليها هنا هو أنه يجب التعامل مع ما يجري باعتباره عنوان صراع ونضال وطني، وعدم الانطلاق من نقطة التسليم بما يجرى، ذلك أن التناقضات في الواقع أكبر وأكثر تعقيداً من مجرد الحوار السياسي أو صياغة المشاريع السياسية لانهاء الصراع. وعليه، فإن مواجهة مشروع الدولة الفلسطينية الهزيل وفق الرؤية الاسرائيلية الامريكية، يصبح مسألة حيوية، على قاعدة التمسك بقرارات الشرعية الدولية وورقة المقاومة والصمود ورفض الاشتراطات الاسرائيلية. 

بهذه العملية النضالية نحافظ على دينامية الفعل والمبادرة والانتقال من حالة الدفاع ورد الفعل السلبي إلى حالة المبادرة والهجوم السياسي بكل اشكاله. المهم، صدّ المشروع الامريكي-الإسرائيلي لانه مشروع يفتقد للشرعية كما يفتقد لشروط النجاح السياسي والأهم من كل ذلك انه يفتقد للأساس الأخلاقي والقانوني والإنساني. ارتباطاً بهذا، فإن التمسك بثوابت الحقوق الفلسطينية وفي مقدمتها حق العودة للاجئين الى ديارهم هو عامل الصمود والوحدة الوطنية الجوهري. 

وفي الوقت الذي يواصل فيه الشعب الفلسطيني نضاله والتفافه حول الهدف المرحلي وهو إنهاء الاحتلال عن الاراضي المحتلة منذ عام 1967. يجب نقل النقاش والنضال الى مستوى استراتيجي بما يتعلق بحق العودة ومواجهة الطابع الصهيوني أو اليهودي لدولة إسرائيل ودورها الكولونيالي في المنطقة كأداةٍ أو كجزءٍ من المشروع الإمبريالي الذي يجري الترويج له في الشرق الاوسط. فالأسئلة الكبرى والصعوبات العميقة التي حملها الصراع العربي- الصهيوني والصراع الفلسطيني- الاسرائيلي منذ بداياته الاولى، لا يمكن حلها أو تجاوزها إلا بمشروع ديموقراطي- انساني- تقدمي شامل هو النقيض للمشروع الصهيوني على كل المستويات. نقول ذلك ونحن ندرك الحقائق الجديدة التي رافقت الصراع على مدار عقوده الممتدة في الزمان والمكان. 

بهذا المعنى، وضمن هذا السياق يمكن مقاربة مفهوم الدولة الديموقراطية الواحدة على عموم أرض فلسطين التاريخية، انها عملية ارتقاء انساني وسياسي كبرى نحو مساومة أو حلٍ تاريخي يستند إلى حقائق الواقع وجذور الصراع التاريخية، ويقدم إجابات على الأسئلة المعقدة بالمعنى التاريخي والسياسي والانساني. فالدولة الديموقراطية الواحدة تصبح بمثابة الحلم الجميل الذي يتجاوز مناورات اللحظة، كما يتجاوز التفكير والثقافة السياسية العنصرية أو الشوفينية. 

ومن خلال هذا الحلّ التاريخي يمكن السير نحو حلٍ منطقيٍ وعادلٍ لقضية اللاجئين وحقهم في العودة إلى ديارهم، كما يمكن الإجابة على حاجة الاسرائيليين بالعيش على هذه الأراض على قاعدة المساواة والتكافؤ كمواطنين طبيعيين، وأيضا التعامل مع إشكالية العلاقة بين دولة إسرائيل ومحيطها العربي، وفي سياق كل ذلك الاجابة على مضمون الدولة باعتبارها دولةً ديمقراطيةً لكل مواطنيها. الى جانب ذلك فان هذا الحل يفتح المجال على عملية تاريخية لتصفية كل هذا الحشد الهائل من الحقد والدماء والظلم، الأمر الذي يضع الشرق الأوسط على عتبة مرحلة تاريخية أساسها السلام والحرية والتنمية بعيداً عن سياسية الهيمنة والسيطرة والإقصاء. 

وبقدر ما أن هذا الحل يستجيب لحقوق الشعب الفلسطيني، فإنه يستجيب وبصورة سياسية وإنسانية عميقة لحل إشكالية المسألة اليهودية على قاعدة التعايش والاندماج في المنطقة، الأمر الذي لم يقدمه الحل الإمبريالي للمسألة اليهودية في أوروبا، وبالتالي قام بتصديرها إلى الشرق الاوسط. 

ما هو مطروح في هذه المقالة هو مجرد قراءة وأفكار تستدعي الحوار والنقاش، فهنالك مستويات أخرى للنقاش ليس هنا مجالها، من نوع: ما هي التجليات العملية لتبني هذه الرؤية، وما هو دور الحركة الوطنية الفلسطينية، وأيضاً ما هي الترجمات العملية لكل ذلك على صعيد المجتمع الاسرائيلي، وهل يمكن إطلاق عملية تفاعل شاملة في المجتمعين الفلسطيني والاسرائيلي، وأين سيكون دور العامل الدولي، وأيضا العربي..؟ أسئلة كثيرة ليس بمقدور هذه المقالة معالجتها، إلا أن ما نستهدفه من هذا النقاش هو إطلاق العقل لرؤية أكثر وضوحاً اتجاه ما يجري بعيداً عن الأوهام والاحلام الزائفة، وفي ذات الوقت الانتباه الى أن الفكرة يجب رؤيتها في سياقها التاريخي- الاجتماعي- السياسي بعيد المدى.               

__________________

نصار إبراهيم هو كاتب وباحث فلسطيني في مركز المعلومات البديلة، وهو محرر مجلة رؤية أخرى الصادرة باللغة العربية، ومجلة "News From Within" الصادرة باللغة الانجليزية. السيد إبراهيم هو ايضا مدير مركز جدل الثقافي.