ضمان حقوق اللاجئين ضمانٌ لتسوية سياسية دائمة

القضية الفلسطينية أكبر من تحجيمها ضمن محاولاتٍ لترسيم حدود جغرافية سياسية فقط؛ لأن عدالتها ترتكز في الأساس الى كونها مشروعًا ثوريًا مناهضًا للمشروع الاستعماري كما أرادت الحركة الصهيونية فرضه. لقد قام المشروع الصهيوني، أصلا، على تطهير البلاد من أكثر ما يمكن من أهلها الفلسطينيين، ولن تتغيّر ممارساته الماديّة ما لم يتم الاعتراف الكامل بحقوق اللاجئين، سياسيًا، وأخلاقيًا، وفعليًا.

أضافت المؤسسة الإسرائيلية، في السنوات الأخيرة، شرطًا جديدًا لقبول أية تسوية سياسية مع الشعب الفلسطيني، وهو يقضي بـ "الاعتراف بيهودية اسرائيل". وهذا  ما يصحّ وصفه بـ " الشرط الإستباقيّ" الذي يُملي نتائج التفاوض حتى قبل الخوض فيه. يبدو أنه لا حدود للابتكارات التخريبية الإسرائيلية بخصوص تحقيق التسوية.

 هذا المطلب الذي يُعتبر استثنائيًا، إن لم يكن عجيبًا، في منظومة العلاقات الدوليّة، لا ينبع فقط من تأصُّل الإنغلاق العنصري المتعصّب في المؤسسة الإسرائيلية؛ بل إنه تكتيك سياسيّ شديد الدّهاء. يُقال هذا انطلاقًا من التوجّه الإسرائيلي الرسمي نحو تعريف الدولة كـ "يهودية". فليست المسألة حضاريّة أو حتى رمزيّة، بقدر ما هي مسألة عدديّة تُقاس بأدوات الديموغرافيا: عدد اليهود مقابل عدد الفلسطينيين. ولأن هذه المؤسسة لا تكتفي بمطلب الاعتراف بوجود دولتها على أنه "تجسيد لحق تقرير مصيراليهود"، وهو التسويغ الشائع عمومًا لوجود الدول القومية الحديثة، بل إنها تطالب العالم بالاعتراف بتعريفها الايديولوجي لذاتها. بمعنى آخر، هذه المؤسسة تسعى لفرض العقيدة الأساس للحركة الصهيونية على أنها حقّ كونيّ يجب على الجميع الاعتراف به. أما المترتّب على هذا، " لو جاءت العتمة على قد إيد الحرامي"، فهو أولا: تنظيف ساحة الحركة الصهيونية مما اقترفته أذرعها المختلفة من تطهير عرقي ضد الشعب الفلسطيني خلال وبُعيد نكبة عام 1948. وثانيًا: منحها فرصة الادّعاء بأن تطبيق حقوق اللاجئين الفلسطينيين غير ممكن لأنه سيمسّ بيهودية الدولة.

 سياسة مخططة

 إذًا فالمسألة تتجاوز ساحة المعركة الرمزية بل إنها تندرج ضمن السياسة الاسرائيلية المخططة. ففي جميع المراحل المختلفة منذ النكبة وحتى اليوم ظلّت هناك مسألة واحدة تقلق وتؤرق المؤسسة الاسرائيلية، هي حقوق اللاجئين الفلسطينيين الذين هجّرتهم بالقوة وبالسلاح من بيوتهم ودمّرت المئات من قراهم. فقد قادت السيرورة التاريخية بمنعطفاتها السياسية المتعددة الى إجبار المؤسسة الاسرائيلية على الإقرار الرسمي بوجود الشعب الفلسطيني وبالتالي بحقه في تقرير المصير في دولة مستقلة. مع أنه حتى مطلع تسعينييات القرن الماضي لم تتعدّ القضية الفلسطينية في طروحات هذه المؤسسة إلحاقَ بعض ما احتلته من الأراضي الفلسطينية عام 1967 بالأردن وبمصر، وكأنها مسألة ترتيبات حدوديّة لا أكثر. لكن مسيرة النضال الوطني الفلسطيني، المتوّجة بالإنتفاضة الشعبيّة في كانون الأول1987، فرضت، بقوّة نوعيّة غير مسبوقة، حق هذا الشعب في تقرير مصيره، بحيث لم يعد بإمكان المؤسسة الاسرائيلية مواصلة تجاهله.

 وهكذا، فمنذ بدء مسيرة التفاوض الاسرائيلي-الفلسطيني، باتت المؤسسة الاسرائيلية تقرّ (أشدّد: على مستوى التصريح فقط) بإمكانية إقامة كيان فلسطيني (ما!). ولو أجرينا مسحًا سريعًا للخارطة السياسية الاسرائيلية الراهنة لأمكننا القول إن غالبية مركباتها باتت تصرّح بذلك، وإن قسرًا. لكن المسألة لا تتجاوز الفعل التصريحي بطبيعة الحال. فالممارسات الاسرائيلية الفعلية تضع علامة سؤال حادّة على النوايا والأهداف المخبّأة خلف جميع التصريحات البروتوكولية. وقد انعكس هذا في عدم احترامها ما وقعته من اتفاقات، وكذلك في عمليّات الاجتياح العسكرية الوحشيّة المتكررة التي حرّكها هدف سياسيّ هو تقويض البنية المؤسسيّة السياسيّة الفلسطينية، سواء في الضفة الغربية مطلع سنوات الألفين، أو في قطاع غزة لاحقًا - وكل هذا منعًا لنشوء ولو نواة مؤسسيّة لكيان فلسطيني مستقلّ.

 وحتى لو حاججت المؤسسة الاسرائيلية وادّعت موافقتها رسميًا على إقامة كيان فلسطيني مستقلّ، فستظل هناك حاجة بنا لاختراق جدار الصوت التصريحي هذا، وصولا الى المضمون. وهو المضمون الذي سيكشفه، بالأساس، الموقف الاسرائيلي الرسمي والفعلي من قضيّة حقوق اللاجئين الفلسطينيين. فحتى اليوم يقوم التوجّه الاسرائيلي على تفكيك القضية الفلسطينية، بل بعثرتها: من ناحية، تصرّ المؤسسة الاسرائيلية على صيغة المراحل، وهو ما بدأ منذ ما عُرف بـ "غزة وأريحًا أولا"، ومن ناحية أخرى تنثر ملفّات القضية الفلسطينية على محطات زمنية مستقبلية، تهتمّ بإرجائها على الدوام بأدوات القوّة، العسكرية منها والاستيطانية. وهذا ناهيك عن أنها تتوجّه الى القضية برمّتها كما لو أنها بدأت في حزيران 1967، وذلك خدمةً لهدفها طيّ الملفات الأقدم والأصعب، ملفات 1948، وأولها ملف اللاجئين.

 بين التسوية والمصالحة

 هناك شكلان للتسوية السياسية المقترحة لما يسمى بـ الصراع الفلسطيني-الاسرائيلي. (وهي بالمناسبة تسمية إشكالية في أحد أهمّ أوجهها، كونها تفترض وتفرض تكافؤًا من حيث القوّة بين طرفين، مع أن أحدهما هَجّر، احتلّ واستوطن، بينما الثاني تعرض لنتائج تلك الممارسات العنيفة). الشكل الأول هو اقامة دولتين مستقلتين، والثاني هو إقامة دولة مشتركة واحدة. هناك نقاشات مختلفة في هذا الشأن، بعضها يتّسم بالطابع الثنائي: "إمّا هذا أو ذاك"، والبعض الأخر يضع المسألة في سياق تاريخيّ، بمعنى وجوب انهاء الاحتلال في أراضي 1967 وإقامة دولة فلسطينية مستقلة، أوّلا، ومن ثمّ تحقيق مصالحة بين الشعبين (والمصالحة غير التسوية!) لربما تفضي الى العيش في دولة مشتركة مستقبلا. وبرأيي، مهما تعدّدت النقاشات في هذا الخصوص، فإن التمسّك بحقوق اللاجئين هو ما يضع جميع هذه النقاشات في نصابها، بل يساهم في التقدّم الى الأمام نحو توليفة أكثر وضوحًا وقابلية للتطبيق.

 بناء على ما سلف، من المهمّ التعاطي مع إشكالية عدم الوضوح في شكل التسوية الذي ينص على إقامة الدولتين. وهي إشكالية نشأت مع التغيّرات المستجدّة ضمن السيرورة السياسيّة-التاريخية. فقد رفضت المؤسسة الاسرائيلية هذه التسوية على الدوام حتى سنوات خلت، رغم أنها اشتقاق من الصيغة التي اتُّفق عليها دوليًا، متمثلة بقرار التقسيم. ولكن، حين اضطرّت لقبولها ولو دبلوماسيًا، فقد غيّرت مضمونها، بل قوّضته، حين حوّلت الأمر الى معادلة شكلية يغيب عنها المتغيّر الأساس: حقوق اللاجئين. وهنا، جاء التشابه في مفردات "حل الدولتين المستقلتين" على ألسنة أطراف مختلفة، لينتج حالة من عدم الوضوح حدّ البلبلة. لأن المتحدّثين المختلفين يقصدون معاني مختلفة. فمضمون " الدولتين" كما أعلنته منظمة التحرير الفلسطينية يختلف جوهريًا عما ترمي إليه أحزاب إسرائيل الصهيونية الكبرى. وقد أدى تجاهل هذا التفاوت الكبير في ما تقصده الأطراف المختلفة من صيغة التسوية، إلى اندلاع نقاشات كثيرًا ما اتّسمت بالشكلية، بين أصحاب القضية الواحدة ومناصريها. فبدلا من أن يتّسم الجدل بمحاولات تفكيرية وتطبيقيّة تهدف الى استيضاح الممكن في الواقع المعطى وتشييد رؤية سياسية بناءً عليه، ابتعد الجدل إلى هوامش نظريّة جدًا، إن لم نقل شبه مثالية، (مثالية بالمفهوم الفلسفي، أي مقابل المادّية، وليس بوصفها يوتوبيا)؛ وبدلا من رؤية الرابط الجدلي بين صيغتي التسوية ضمن منظور تاريخي يمكّن من "وضع المسائل على الأرض"، تمّت أدلجة الجدل في ثنائية شبه مطلقة تكاد تكون منزوعة من القراءة السياسية الواقعيّة الضرورية.

 عن زاوية الرؤية

 من المهم أن يُطرح السؤال: كيف يمكن تحقيق وتطبيق حقوق اللاجئين الفلسطينيين في الحالتين، أو في مرحلتيّ التسوية؟ لقد أصاب كثيرون عندما اعتبروا أن المرحلة الأولى يجب أن تكون الاعتراف الاسرائيلي بالقضية من حيث تحمُّل المؤسسة الاسرائيلية المسؤولية عن نشوئها، وبالتالي عن تبعاتها وعن واجبها في السماح والمساهمة في تحقيق حلّها. هناك من يعتقد بأن هذا "مستحيل" في اطار طرح الدولتين، وهنا يمكن القول إن رؤية هذه الاستحالة لربما تنبع من عدم ملاحظة الفرق النوعيّ الذي سيطرأ في حال وصلت المؤسسة الاسرائيلية مرحلة متقدمة من الرّشد السياسي عبر تحمّلها المسؤولية والاعتراف بها. إن جميع المشاريع السياسية قد تبدو حلمًا في مراحلها الأولى، وهذا ما طغى لعقود طويلة، مثلا، فيما يخصّ إقامة دولة فلسطينية مستقلة. لكن السيرورة التاريخية مركبة دائمًا، وبقدر ما تحمل من تعقيدات جديدة فإنها تفتح أفاقًا جديدة أيضًا. في جميع الأحوال، لا يوجد تناقض بين تحقيق حقوق اللاجئين وبين التسوية المتمثلة بدولتين، إلا بالمفهوم الاسرائيلي الرسمي الذي يصرّ على يهودية اسرائيل. أما تغيير زاوية الرؤية فمن شأنه التوضيح للمراقب بأن النضال لتغيير الهوية الايديولوجية لهذه الدولة يرتبط الى حد بعيد بفتح أفق حقيقي لحل قضية اللاجئين، وبالعكس. إنهما عمليتان مترابطتان. وينطبق هذا أيضًا بخصوص مرحلة محتملة قادمة من التسوية، أقصد العيش في دولة واحدة بعد تحقيق مصالحة أعمق من الاتفاقيات الرسمية. ويبقى السؤال: كيف سيكون التطبيق الفعلي لكلّ هذا؟ هذا هو دور وحاجة التفاوض السياسي. وهو تفاوض آن الأوان إخراجه من مربّعاته القديمة التي اتّسمت بالإرجاء واستبعاد الخوض في المناطق الخطرة. هنا تجدر الاشارة الى أن الادّعاء بأن " المؤسسة الإسرائيلية سترفض"، هو ادعاء إشكاليّ كونه يصادر الإرادة الفلسطينية مسبقًا، ويلغي معنى ومفهوم النضال! فلم يتحقق شيء في سياق قضية الشعب الفلسطيني سوى بالنضال، حتى حين كانت المؤسسة الاسرائيلية في أعلى درجات تعنّتها. لربما هناك حاجة في إعادة بلورة الحلم الفلسطيني الذي بات يعاني من كسور ورضّات. أخطرها الكسر الداخلي المتمثّل بحالة الانقسام.    

 من الشعار الى الأرض

 بنظري، إنّ التمسّك بحقوق اللاجئين مبدئيًا وفعليًا، على الرغم من شكليّ التسوية الخلافيين، من شأنه إعادة الأمور أقرب الى مكانها المطلوب، الى الواقع. إنزال قضية اللاجئين من مستوى الشعار الى الأرض، سيكون محفّزًا لصياغة حلول تطبيقيّة. لأن التمسّك بالحقوق عمومًا يحتاج الى بلورة تطبيقيّة، بمعنى الخوض فيما وراء الشعار أو المطلب. فالقضية الفلسطينية أكبر من تحجيمها ضمن محاولاتٍ لترسيم حدود جغرافية سياسية. لأن عدالتها ترتكز في الأساس الى كونها مشروعًا ثوريًا مناهضًا للمشروع الاستعماري كما أرادت الحركة الصهيونية فرضه. لقد قام المشروع الصهيوني، أصلا، على تطهير البلاد من أكثر ما يمكن من أهلها الفلسطينيين، ولن تتغيّر ممارساته الماديّة ما لم يتم الاعتراف الكامل بحقوق اللاجئين، سياسيًا، أخلاقيًا وفعليًا. في هذه الحالة، لن يظلّ الاختلاف في الطروحات المقترحة من اجل التسوية محشورًا في طابعه الرّاهن العقيم سياسيًا، بل سيتحوّل الى اختلاف مثرٍ في الاجتهادات.

 إن حلّ القضيّة الفلسطينية سيظلّ مستحيلا من دون تفكيك بنية العلاقات الاستعمارية التي تواصل المؤسسة الاسرائيلية فرضها. من هنا، فكل تسوية لا تشمل في مركزها إحقاق حقوق اللاجئين، وفقًا لإرادة وخيار وقرار كل لاجئ، ستظلّ تسوية شكلية خاضعة لبنية العلاقات الاستعمارية السائدة. ومن المهمّ هنا توضيح أن تفكيك هذه البنية الاستعمارية هو في صالح اليهود أيضًا، لأنه يحرّرهم، سياسيًا وأخلاقيًا، من لعب دور الاحتياطي البشري والمادي لتكريس مشروعٍ قوامه الهيمنة التي تنتج الحرب وسفك الدماء. إن تفكيك البنية الاستعمارية هو ما سيجعل وجود اليهود الاسرائيليين طبيعيًا في المشرق. فالقضيّة الفلسطينية هي قضيّة تحرّر، وليس للفلسطينيين وحدهم!

 أخيرًا، إن العقبات الماثلة أمام تحقيق حقوق اللاجئين لا تقتصر على طبيعة وممارسة المؤسسة الإسرائيلية بمرجعياتها الصهيونية، رغم أنها تظلّ أصل الدّاء. فهناك عقبات فلسطينية وعربية أيضًا. أولها غياب استراتيجية وطنية فلسطينية مشتركة تتجاوز سقف الاختلافات الايديولوجية، مهما احتدّت. كذلك، فإن التعاطي العربي الرسمي مع القضية الفلسطينية كعقبة يُراد التخلّص منها، وليس كقضية تحرر وطني عادلة، يزيد من مخاطر تقديم تنازلات جوهرية، يُخشى أن تحقق في نهاية المطاف انتصارًا للمشروع الصهيوني. وهو انتصار سيكون خطيرًا على الشعب الفلسطيني وعلى الشعب اليهودي أيضًا، لأن كلّ تسوية شكلية خاضعة للقوّة لن تكون أكثر من مدماك جديد لنشوء مأساة جديدة قادمة.

  ------------------------

*نشر المقال في مجلة مركز مدى الالكترونية "جدل"، ( ايار 2009)

هشام نفاع: صحفي فلسطيني، وناشط سياسي، يقيم في مدينة حيفا.