التمويــه والخديعــة خــلال حــرب العــام 1948

 جمعتني ندوة تاريخية بالسيدين أوري ملشتاين، مؤرخ حرب العام 1948 من وجهة نظر المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، والدكتور ايلان بابيه، المحاضر في جامعة حيفا. وكان كيبوتس حَنيتا، على الحد اللبناني، وإلى الشرق من رأس الناقورة،  مكان انعقاد الندوة التي حملت عنوان "الجليل الغربي في حرب العام 1948- نموذجاً للحرب العربية -الإسرائيلية". 

ولحرب العام 1948 عدة مصطلحات، تختلف باختلاف الجهة التي تطلق عليها، وهي تشمل "النكبة" كمصطلح أطلقه الفلسطينيون على هذه الحرب، أو حرب النكبة والصمود. فيما يطلق الاسرائيليون على هذا العام مصطلحات كـ "حرب الاستقلال" و "حرب التحرير". والجليل الغربي هو الجزء الواقع إلى الغرب من جبال الجليلين الأعلى والأسفل، وهو يشمل، إلى جانب المرتفعات الغربية لهذه الجبال، و التي لا يزيد ارتفاعها على 500 متر عن سطح البحر، السهل الساحلي الواقع بين رأس الناقورة شمالا و جبال الكرمل جنوباً. يشمل هذا الجزء من الجليل مدينتين : عكا وهي عاصمة القضاء وشفاعمرو وهي مدينة بحكم الاعتراف بها كمدينة منذ العام 1908. وفي هذه المنطقة عدد كبير من القرى والبلدات العربية إلى جانب عدد غير كبير من المستوطنات اليهودية التي غرست في فترة الثورة الفلسطينية الكبرى (1936- 1939)، والتي كان قد خطط لها ضمن مشروع "السور والبرج". فيما كانت نهاريا أكبر هذه المستوطنات، وقد أقيمت في أوائل ثلاثينيات القرن العشرين، إلى جانب مجموعة من القرى أسموها " هَكريوت"  أُقيمت إلى الشمال من حيفا على امتداد رمال خليج حيفا – عكا ، مثل كِريات بياليك، كِريات موتسكين وغيرهما.

 

ولا أهدف في هذه المقالة، الى دراسة العمليات العسكرية التي جرت في هذه المنطقة بين يوم إعلان مشروع التقسيم ( 29 تشرين الثاني 1947 ) وبين انسحاب القوات البريطانية من فلسطين منهية بذلك عملية الانتداب التي استمرت قرابة 30 عاما. أريد أن أسجل أمراُ، كانت له و لغيره من الأمور، آثار على نمط تفكيرنا كعرب هذه البلاد الذين صارعوا المجهول في تلك الفترة، ألا و هو قضية "التمويه والخديعة". 

والتمويه قضية عسكرية استعملتها الجيوش خلال القتال، ولكن التمويه جاء ليشطر المجتمع الفلسطيني، القروي منه والمدني، إلى مجموعتين من التفكير. الأولى، و هي الأغلبية، آمنت بالوعود التي اقترحها أصحاب هذا التمويه، و الثانية هي الأقلية المؤمنة بعدم صدق النوايا الصهيونية اليهودية. لقد آمنت الفئة الأولى بأن الذين يتحدثون إليهم من اليهود إنما هم ناس يريدون السلام ولا يريدون القتال، كما أنهم يودون الحياة المشتركة مع العرب في هذه البلاد. أما المجموعة الثانية فرأت في مثل هذه الوعود مجرد مراوغة هدفها إضعاف الروح المعنوية من المقاومين من جهة، و خلق البلبلة والشكوك بين السكان، الذين آمنوا والذين لم يؤمنوا بأقوالهم. 

وخلال حديثي عن العوامل التي أدت الى احتلال الجليل الغربي، في تلك الندوة، استشهدت بما حصل لقرية البصة، القرية القريبة من الحد اللبناني، وهي القرية الأكثر ثقافة وغنى بين قرى فلسطين، حيث طلب مخاتير المستوطنات القريبة من البصة ككيبوتس متسوبا وكيبوتس حنيتا وإيلون أن يتحدثوا إلى مخاتير هذه القرية وزعمائها. اجتمعوا بهم و طلبوا ان يحافظوا كجيران على اليهود إن قامت دولة فلسطين، ووعدوا بالمحافظة على سكان البصة والقرى العربية الأخرى المجاورة إن قامت دولة إسرائيل. 

كل المخاتير في هذه المستوطنات قد ألقيت على عاتقهم مسؤولية جمع المعلومات عن القرى المجاورة وعن القبائل النازلة بين هذه القرى ومستوطناتهم، فقد سجلوا في مذكراتهم التي حفظتها أرشيفاتهم التي زرتها في مستوطناتهم، كما بعثوا بنسخ من هذه المعلومات تبعاً إلى مركز الاستخبارات الإسرائيلي التابع لقوات الهجاناه.

أطلق على هؤلاء الموظفين مصطلح "رجال هَشاي" شاي تعني خدمات الاستخبارات، و التي تحولت كمؤسسة، بعد قيام دولة إسرائيل، إلى مؤسسة الاستخبارات العامة، وخاصة ما يٍُِعرب باسم "شين بيت" أي خدمات الأمن. وقد اطلعت على تقارير هؤلاء الرجال في أكثر من موقع، وقد شملت تقاريرهم العديد من النقاط كاسم القرية، تبعيتها للقضاء و الشرطة؛ طرق القرية؛ أودية القرية ومصادر مائها، بما فيها الآبار و العيون؛ الأراضي-مساحتها و توزيع أنواعها: المشاع منها و الملك و الميري؛ السكان- عددهم و تقسيمهم إلى طوائف؛ الحمائل-  زعماؤها وعدد أنفار كل حمولة، والانتماء السياسي لكل زعيم؛ مصادر الرزق في القرية أو المدينة – الحوانيت وأصحاب المهن، خصوصاً مصلحي السلاح؛ الموظفون في دوائر الحكومة المختلفة؛ والأوقاف- بما فيها المعابد، المساجد و الكنائس و الخلوات، و أسماء الأمة و الكهنة و المشايخ؛ وأيضا أسماء الذين شاركوا في الثورة الفلسطينية، وأسماء الذين قتلوا أو جرحوا في هذه الفترة؛ وأنواع الأسلحة التي صادرتها حكومة الانتداب البريطاني من السكان، وعدد الأسلحة التي يفترض أنها خبئت بعد انتهاء الثورة. يتضح مما سبق أن هذا الجهاز كان يعرف "كل" ما هو موجود في كل قرية و مدينة فلسطينية، ربما استعداداً للحرب التي دارت رحاها بين يوم مشروع التقسيم وحتى 20 أكتوبر 1948. 

في العودة الى الندوة سالفة الذكر. فعندما ذكرت أسماء المخاتير العرب واليهود الذين "تفاهموا" على الأساس الذي ذكرناه، قال لي زميلي المحاضر، السيد أوري ملشتاين : "كان ذلك "هسقاة" أي "تمويه". ومن المؤسف أن المجتمع الفلسطيني انجرّ وراء سراب هذه الوعود، وفترت روح القتال عند بعضهم، ودبّ الشقاق بين مصدق ومكذب لهذه الوعود. لقد سمعت الكثيرين من لاجئي الداخل، يتحدثون عن هذا التمويه، بألم و مرارة "اليوم".

أنهي الحديث عن الأمر بمقوله رددتها، وما زلت، على مسامع طلابي ومجتمعي: "لا تجعلوا حدود قراكم و مدنكم حدوداً للعالم فالعالم أوسع من هذه الحدود". و أضيف هنا ان على كل منا أن لا يرى قيم غيره و كأنها قيم مشابهة لقيمه التي تربى عليها في مجتمعه العربي. القيم بين المجتمعات تختلف. و علينا أن نفهم وندرس قيم الغير، لئلا تنطلي علينا نوايا قيمه وأهدافه التي تصب في مصالحه هو لا في مصالحنا .

__________________

د. شكري عراف هو جغرافي فلسطيني متخصص في تاريخ المدن الفلسطينية، له العديد من الأبحاث والدراسات حول القرى والمدن العربية.