في الوقت الذي يحيي فيه شعبنا الفلسطيني في الداخل والشتات الذكرى الحادية والستين للنكبة، لا تكاد تغيب قضية حق العودة عن أي فلسطيني في أصقاع الارض، قضية حملتها الاجيال جيلا بعد جيل، وارقت الالاف من ابناء شعبنا الذين شتتهم وشردهم الاحتلال الاسرائيلي حين اخرجهم عنوة من منازلهم وقراهم ومدنهم، ليقيم دولته على اطلال ذكرياتهم وحقهم وآمالهم، ليستبدل تلك الآمال بالآلام.

وبعد تلك السنين العجاف، بقي أمل العودة يراود الفلسطينيين الذين وجدوا انفسهم بين ليلة وضحاها لاجئين في مخيمات الشتات او داخل الوطن، مثلما بقي الانتظار بان يخرج  القرار 194 الى الحياة والى حيز التطبيق، والذي ينص بوضوح تام على حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم التي أجبروا على مغادرتها نتيجة للحرب التي ألمت بهم وبممتلكاتهم بالإضافة إلى منحهم تعويضات مالية عن الأضرار التي لحقت بهم وبها نتيجة للحرب  العدوانية ضدهم.

لكن البارز في السياق العام، منذ فترة من الزمن أن الأطراف المعنية، وهي تظهر اعترافها بالقرار 194 أساساً لحل قضية اللاجئين، لجأت إلى توليف تفسير آخر لهذا القرار خارج إطار تفسير الأمم المتحدة له، بشكل يخالف مبادئ القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان وحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، منحازة بذلك إلى جانب الموقف الإسرائيلي الداعي إلى حل يحفظ لإسرائيل هويتها كدولة يهودية. كما أن اللافت أن الأطراف المعنية وهي تتناول مسألتي العودة والتعويض تعطي لحق العودة تفسيراً بديلاً، هو عودة اللاجئين الى اراضي الدولة الفلسطينية المنشودة وليس الى الاراضي التي هجروا منها عام 1948، الأمر الذي يعني توطين اللاجئين في الضفة الغربية والقطاع.‏

ان أي مفاوضات او اتفاقات مستقبلية لا يمكن ان يكتب لها النجاح او التقدم ما لم تضمن حق العودة الذي هو حق فردي وجماعي لا يسقط بالتقادم، مثلما انه حق مطلق لا تملك أي جهة فردية كانت أم جماعية شعبية كانت أم رسمية الحق في التنازل عنه.

ان تهجير الشعب الفلسطيني تم عبر مخطط اعتمد أساليب الإرهاب والقتل والمجازر ما يشكل جريمة تطهير عرقي وجرائم ضد الإنسانية، وهو ما تتحمل مسؤوليته أيضا القوى الدولية التي أيدت وتؤيد المشروع الصهيوني وتقدم له كل أشكال الدعم والحماية.

لقد اسقط  شعبنا الفلسطيني بنضاله الطويل واصراره على نيل حقوقه تلك الاساطير الاسرائيلية، فالاجيال المتمسكة بحق العودة الذي توارثته عن آبائها واجدادها اثبت للاحتلال سقوط مقولته "الكبار سيموتون والصغار سينسون" مثلما عرت أكذوبة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" رغم أبشع المجازر الاسرائيلية التي بلغت ذروتها بمجزرة اغتصاب فلسطين وتشريد شعبها عام 48.‏

ان المشروع الصهيوني القائم على حساب الحقوق الوطنية الفلسطينية، بات ينتهج سياسة عنصرية متطرفة تتجلى صورها باستمرار سياسة التشريد والتهجير والتي لم تتوقف عند زمن معين او حدود معينة، فالمجازر والاغتيالات ونهب الاراضي واتساع الاستيطان وجدار الفصل العنصري وهدم المنازل في القدس والضفة الغربية وسحب هويات المقدسيين والحصار والتجويع، كلها محطات في رحلة التهجير وفرض سياسة ابعاد تبدو "طوعية" حينا، وقسرية أحيانا اخرى، وكذلك  إصدار القوانين الجائرة التي تحرم الفلسطينيين من حق الحياة وليس حق العودة فحسب، وسياسة محو الذاكرة الفلسطينية.

وبينما تمارس اسرائيل مؤامرة وخديعة كبرى معدة بإتقان، وقع العالم بصمته في شرك تلك الخديعة، عبر حديث بعض الاطراف عن التعويض بديلا للعودة، وهذا ما لا يجب التعاطي معه او القبول به، فالمهم أن يبقى هذا الحق كي لا يسقط الشعب والأرض والدولة، أي كي تبقى القضية الفلسطينية والمشروع الوطني الفلسطيني، وحتى لا نسمح لاسرائيل ان تحقق ما لم تستطع تحقيقه طول الستين عاما الماضية.‏

ان وجود اللاجئين الفلسطينيين في مخيمات الشتات هو وجود مؤقت، وان كل محاولات التوطين لشطب حق العودة ستتحطم على صخرة صمود هذا الشعب، رغم المعاناة الكبيرة والطويلة وسنوات الانتظار من قبل اللاجئين الذين يرقبون الوطن عن بعد بعيون تتطلع نحو الغد ونحو الامل ونحو تلك الديار التي خرجوا منها مكرهين تحت لهيب نيران الاحتلال وعصاباته التي اقترفت ابشع المجازر لحمل الفلسطينيين على ترك منازلهم.

ومهما يكن فان حق العودة ليس  مجرد مكون من مكونات القضية الوطنية الفلسطينية، بل هو لب القضية الفلسطينية وجوهرها، وهو المقياس الحقيقي لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، الأمر الذي لا يمكن التفاوض عليه، بل يمكن التفاوض على سبل تنفيذه.‏

ان الممارسات الصهيونية التي تستهدف المزيد من تهجير الفلسطينيين هي ممارسات إجرامية خطيرة يجب التصدي لها، لانها تهدف بالاساس الى تغيير هوية الأرض والإنسان.

وليس صدفة ان يجري الحديث مؤخرا عن يهودية الدولة العبرية، لان هذا الحديث يندرج في اطار مخطط إسرائيلي لاستكمال تهجير الفلسطينيين المقيمين بأرضهم المحتلة عام 1948 ومحاولة لإسقاط حق العودة، بل للحيلولة دون تنفيذ ذلك الحق، وتشريع العنصرية الإسرائيلية التي باتت منظومة مترامية الأطراف في أراضي فلسطين.

---------------------------

 د. مصطفى البرغوثي،  عضو المجلس التشريعي، الأمين العام للمبادرة الوطنية الفلسطينية.


--------------------------------------------------------------------------------