كنيســـة المجيــدل..أجـــراس العـــودة فلتقـــرع

  بقلم:    إيزابيــل همفريــز

 عندما ابتدأت عملية ترميم كنيسة القديس نيكولاس في قرية المجيدل تطلبت عمليات التخريب المتكررة التواجد في المكان على مدار الساعة من أجل حمايته. لقد تطوعت إحدى النساء الروسيات الإسرائيليات والتي تعيش في أحد أديرة الناصرة للتخييم هنالك إلى أن يصبح للكنيسة بابا ومفتاحا يقفلها. وخلال تقدم عملية الترميم وتشوق الجمهور لرؤية داخل الكنيسة تتطوع سيدة روسية أخرى لتأخذ الناس في جولة بالمكان.

 

 

تشكل التطورات الأخيرة التي شهدتها إحدى القرى الجليليّة المدمرة عاملا مشجعا لجميع أولئك الذين يستثمرون الجهود لدفع المجتمع المحلي لاتخاذ خطوات من شأنها حفظ بعض بقايا الماضي الفلسطيني على التضاريس الإسرائيلية. فبعد عقود من النضال يشهد هذا الشهر في الأراضي المقدسة المحيطة بكنيسة القديس نيكولاس التابعة للطائفة الأرثوذكسية مرة أخرى وهي محاطة بالجدار الحجري الأبيض التقليدي. ومن دواعي الحزن أن الكنيسة الآن تقع في قلب مستوطنة إسرائيلية تسمى "ميغدال هاعيميك"، إلا أنها تحتاج إلى المزيد من الحماية أكثر من أي وقت مضى. بقايا المجيدل تقع على بعد بضعة كيلومترات من الناصرة على الطريق إلى حيفا. فقبل الاستيلاء عليها من قبل المؤسسة الإسرائيلية كانت المجيدل قرية زراعية ناجحة تضم حوالي الألفي مواطن بمسجدهما وكنيستيهما ومبنى مجلسها القروي ومدرستها. وبسبب الاعتقاد أن الهجوم على الناصرة سيكون بريّا من اتجاه حيفا (سقطت مدينة الناصرة ثلاثة أشهر قبل ذلك) لقد قام الشبان بالحراسة من أعلى التلّة ولكن خطة القوات الإسرائيلية تقضي بهجوم بري مفاجئ على الناصرة من الشمال، أما قصف المجيدل الواقعة غربي الناصرة فقد أتى من الجو. لقد اضطر أهالي القرية إلى الرحيل إلى الناصرة جنبا إلى جنب مع الآلاف من اللاجئين الآخرين الذين قدموا من القرى المجاورة آملين في أن يشكلوا موقع المدينة العالمي الهام باعتبارها محجّا للمسيحيين سببا في حمايتها من الدمار.

 

لقد صدق القرويون فقد سلمت الناصرة ولكن المجيدل لم تسلم. فمنذ تموز 1948 لجأ أهالي المجيدل إلى بيوت أقاربهم وأصدقائهم وعلى مساطب أديرة الناصرة ومؤسساتها الدينية وحتى إلى دور السينما والقاعات العامة. وعندما حلت حقيقة الاحتلال المرّة، ولم يكن للناس عمل أو بيوت ولم يتوفر لهم الغذاء، حاول أكثر من نصف أهالي المجيدل أن يجدوا لهم حياة أكثر بعّدا حيث هربوا إلى لبنان وسوريا والضفة الغربية. لقد نجح بعضهم مع ذلك في البقاء في الناصرة وتلقوا لاحقا بطاقات هوية في الدولة الجديدة ولكنهم أبدا لم يفقدوا حلمهم بالعودة إلى المكان الذي يبعد بضع كيلومترات على طريق حيفا. بنيت ميغدال هاعيميك اليهودية سنة 1952 على أنقاض القرية. لقد دمرت تماما البيوت الأصلية والأماكن العامة ومن خلال ضغط  السلطات الكاثوليكية الرومية نجح الكهنة اللاتين بالاحتفاظ بقطعة أرض صغيرة حول كنيستهم، وهي قطعة الأرض الوحيدة التي بقيت خارج نطاق السيطرة الإسرائيلية.

 

كانت الكنيسة الأخرى في المجيدل تابعة للطائفة المسيحية الأرثوذكسية ذات الأصول الشرقية فبدون ظهر غربي مثل الفاتيكان، يقوم بالتأثير نيابة عنهم لم يتمكن حتى الكهنة من البقاء في المبنى وبهذا وقعت الكنيسة في حالة من الهجران والتداعي. لم يزر أحد الكنيسة وقد تعرضت للدمار ولكنها لم تنسى أبدا. ففي بداية سنة 1990 حاولت مجموعة من القرويين ترميم الكنيسة وقد دفعوا ثمن أرضية جديدة من أموالهم الخاصة. ولكن تذهب تلك الجهود سدى إذا لم يتوفر للكنيسة أي نوع من الحماية فقد كانت هدفا سهلا للمخربين كما ظهرت الكتابات الجدارية على جدرانها فيما تم تحطيم أرضيتها مرة أخرى.

 

وفي 1999 قام مجموعة من أهالي المجيدل من بين المسلمين والمسيحيين الذين يعيشون اليوم في الناصرة بتأسيس لجنة تم الاعتراف بها كمنظمة غير حكومية في ضوء القانون الإسرائيلي. وقد عنت مكانة المنظمة غير الحكومية أن المجلس البلدي لميغدال هاعيميك ووزارة الأديان ملزمين على الأقل باستقبال وفد من القرويين، حتى وإن لم يفعلوا أكثر من الاستماع إلى طلباتهم. لقد كان التقدم بطيئا. فقد اجتمع نمر الخطيب رئيس اللجنة بممثلين عن وزارة الأديان والبلدية في مناسبات عدة، ولكن لم يكن هنالك أي تقدم على طلبه بوضع سياج لحماية مقابر المجيدل. أما بالنسبة للمسجد فمن المحزن القول بأنه لم يبق منه ما يحمى ومكانه يجثم اليوم سوقا تجاريا.

 

لكن إتمام السور الجديد يثبت أن تقدما ما قد أحرز. ومقابل العمل والمواد الأولية التي تبرع بها المجتمع المحلي تم إعادة ترميم داخل كنيسة القديس نيكولاس بشكل كامل بحلول آب عام 2004. وبهذا أصبح أهالي القرية من الأرثوذكس قادرين مرة أخرى على أداء الصلوات في كنيستهم أيام الآحد. لقد أتت معظم النفقات على ترميم كنيستهم من تبرعات مجتمعهم المحلي لكن اللجنة تلقت دعما لمساعيها الهادفة إلى بناء جدار على شكل منحة من اللجنة المركزية للمانونايت (MCC).

 

"بـإمكان هذا المشروع أن يخفف من المظالم التي ارتكبت ضد الفلسطينيين الذين يعيشون في إسرائيل، وهو يتحداهم وجها لوجه" هكذا قال مدير المشروع باسم ثابت في مكتبه بالقدس موضحا الأسباب التي دعت اللجنة المركزية للمانونايت لأن يشعر بأن الاستثمار في هذا المشروع مجدي. " وبالإضافة إلى ذلك فإن المشروع يسند الجهود المبذولة تجاه صيانة ما تبقى من القرى الفلسطينية المدمرة وأخيرا فإنه يساند وجود الأقلية العربية في إسرائيل."

 

على القرى المحلية مثل المجيدل أن تنجز على أي مستوى تحتاجه الاعتراف الخارجي والمساندة، مثل التي تلقتها من اللجنة المركزية للمانونايت. ليس فقط لأسباب مالية ولكن أيضا لرفع مقدار وعي الأسرة الدولية بوجودهم وبحقوقهم على أرضهم.  إن مشكلة اللاجئين الداخليين هي أنه تم استثناؤهم بكل بساطة من الحوار الدولي الخاص بالمظالم التي ترتكب بحق الفلسطينيين. يجب على مبادرات المجتمع المحلي المختلفة مثل مشروع المجيدل أن يخدم هدف إبراز قضيتهم وإنقاذهم من حالة النسيان.

 

لقد أتى دعم ترميم كنيسة المجيدل من جهة تدعوا للمفاجأة، وهم المسيحيين الروس. فخلال العقدين الماضيين شهد فلسطينيي الجليل كما هو الحال في بقية أرجاء فلسطين التاريخية هجرة روسية كبيرة إلى إسرائيل. المستوطنة الإسرائيلية نتسيريت عيليت والتي استولت على العديد من دونمات الأراضي الزراعية، لكي تشكل قبضة خانقة على محيط الناصرة الفلسطينية، مسكونة في قسم كبير منها من قبل المهاجرين الروس. وبالرغم من توقهم لملء البلاد بغير العرب يسمح الإسرائيليون بهجرة العديد من الروس اليهود بالاسم فقط، أما من حيث الديانة فهم مسيحيون. هؤلاء المسيحيون ومجموعة أخرى من الروس الذين بدلوا ديانتهم بعد وصولهم إلى إسرائيل وجدوا أن الحياة في الدولة اليهودية لمن هم من غير اليهود ليست ليبرالية كما كانوا يتوقعون.

 

عندما ابتدأت عملية ترميم كنيسة القديس نيكولاس في المجيدل تطلبت عمليات التخريب المتكررة التواجد في المكان على مدار الساعة من أجل حمايته. لقد تطوعت إحدى النساء الروسيات الإسرائيليات والتي تعيش في أحد أديرة الناصرة للتخييم هنالك إلى أن يصبح للكنيسة بابا ومفتاحا يقفلها. وخلال تقدم عملية الترميم وتشوق الجمهور لرؤية داخل الكنيسة تتطوع سيدة روسية أخرى لتأخذ الناس في جولة بالمكان. ومن الجدير بالاهتمام بالرغم من أنهن لا يتحدثن لا العربية ولا الإنجليزية للتواصل مع الزائرين الأجانب، إلا أن أولئك المتطوعين الروس كانوا دائما يشيرون إلى صورة قديمة على جدار المجيدل الفلسطينية موضحين ما قد كان.

 

واليوم تقوم الكنيسة بخدمة المؤمنين من العرب والروس وتقوم بتأدية الشعائر بكلتا اللغتين. هنالك أيضا كاهنين أحدهما عربيا والآخر روسيّ يعملان من ذات الكنيسة، وأما الكاهن العربي فبإمكانه أيضا التواصل مع الروس بلغتهم الأم حيث أنه تلقى تعليمه في مدرسة دينية روسية. لقد شكلت المجيدل مصدرا مفاجئا لراحة أولئك المستثنيين من الثقافة الإسرائيلية الأحادية الصفة. يبقى واضحا أن ما يمكن تحقيقه في الكنيسة وفي المقبرة التابعة للمجيدل على المدى الطويل، استكمال الجدار والحصول على تصريح من البلدية اليهودية لإيصال المبنى بالتيار الكهربائي وشبكة المياه وهي المرحلة النهائية لعملية طويلة استغرق استتمامها سنوات. والأمر المؤكد هو أن هذا النموذج من النشاط المجتمعي المشترك، والتصميم لن يخدم فقط المهجرين من المجيدل ولكنه أيضا مصدر وحي لبقية تجمعات اللاجئين التي تناضل من أجل الحفاظ على رموز الماضي حية على التضاريس نقشا لافتا إلى جانب الرواية الصهيونية.

 

__________________

*إيزابيل همفريز هي باحثة تعنى بشؤون المهجرين واللاجئين الفلسطينيين، وهي مرشحة لنيل شهادة الدكتوراة من جامعة سوري في لندن حول موضوع المهجرون الفلسطينيون في الداخل.