سمات الكيان الاستيطاني الإحلالي وعناصر أزمته

 

يتداول الكثيرون مصطلح "الاحتلال الصهيوني"، وهذا غير دقيق، لأن أهم سمة للنشاط الاستيطاني في فلسطين منذ عام 1882 وحتى اليوم هي، الإحلالي. الإشارة إلى هذا الخطأ تضعنا أمام أزمة المصطلحات في الواقع العربي، ومنه الفلسطيني، وهي "إنتاجا واستعمالا، لا تقل خطورة عن بقية أزماته. فأزمة المصطلح عموما، وأزمة النظرية خصوصا، هي أم الأزمات، لأن تحديد المفاهيم والمصطلحات مسألة ضرورية لضبط العملية الفكرية وتنظيمها، وتحليل الفكر الاجتماعي وتأطيره في سياق منهجي بعيد عن الفوضى والشتات الذهني.."؛ هذا بالإضافة إلى ما للمصطلحات من أهمية في خلق حوار واضح وتكريس ممارسة قائمة على مفاهيم واضحة.      

                                              

إن أهم فرق بين مصطلحي الاحتلال والإحلال هو، أن الأول يعني السيطرة على الأرض والناس للسيطرة على الموارد الاقتصادية وبزل فائض قيمة، (بزل تعني أخد ومراكمة فائض القيمة)، بينما يعني الثاني، السيطرة على الأرض بدون الناس بنفيهم بالقتل، أو التهجير خارج أرضهم أو داخلها. لذلك جوهر العلاقة في ظل الاحتلال هو الاستغلال الاقتصادي الوطني، أما في ظل الإحلال فجوهره تناحري يقوم على نفي الآخر. إن أهم نتيجة للتحديد السابق هي، أن التناقضين في ظل الإحلال والاحتلال مختلفان من حيث حدتهما وطبيعتهما وأسس حلهما. يضاف إلى ذلك أن أهم سمة للاحتلال في القانون الدولي انه مؤقت؛ اي سيطرة مؤقتة على إقليم أو جزء من إقليم الغير، وقد ترتب على ذلك، بموجب السمة المؤقتة للاحتلال، عدم جواز اتخاذ إجراءات عملية أو قانونية يراد بها ادامته.  

في المراحل الأولى للاستيطان الإحلالي، الجزئي أو الكلي، يتبنى المستوطنون عقائد ترتكز على حملهم رسالة حضارية ثقافية، وربما إلهية، ويحاولون التقرب من السكان الوطنيين. غير أن الصورة تنقلب مع كل مقاومة يبديها الوطنيون لأهدافهم التوسعية الإحلالية. لقد تغزل المستوطنون الأوائل بالفلسطيني العربي الذي يركب حصانا جميلا ويتمنطق بخنجر. غير أن صورته تغيرت، فصار العربي الغبي الناكر للجميل الذي يرفض الرسالة الحضارية، وصار العربي القذر الذي يعيش في بيت قذر مع حيواناته. بالمقابل، المستوطن ذكي وحضاري ويقطن في بيت جميل تحيط به الزهور وروائحها، وكلبه أجمل وأنظف من كلب العربي.

يتبنى المستوطنون "ديموقراطية السيد" أو "ديموقراطية الشعب المختار" التي تقوم على حكمهم لأنفسهم حكما ديموقراطيا ليبراليا، بينما يفرضون على الآخر طغيانهم السياسي والاجتماعي والاقتصادي. وتبرز في الواقع الاستيطاني ظاهرة الثنائية الاقتصادية ( متقدمة ومتخلفة)، كما تبرز ظاهرة التبعية الاقتصادية للنظام الرأسمالي الغربي، ويلاحظ ارتفاع معدلات التنمية الاقتصادية، واتباع سياسة الاستزراع الاقتصادي الذي يقوم على نقل عناصر العلمية الاقتصادية إلى إقليم متخلف. هذا بالإضافة إلى شيوع الالتجاء إلى تبني نظم ومفاهيم اقتصاد الحرب، والتركيز على وجود خطر خارجي. كما يتسم البناء الطبقي في مجتمع الاستيطان بأولوية التناقض الخارجي، وأولوية الوعي الاستيطاني على الوعي الطبقي، واختلاط الوضع الطبقي بالوضع الإثني.

تشابه الإحلال الاستيطاني في فلسطين مع الإحلال الاستيطاني بشكل عام، في أنه  سعى إلى خلق توازن سكاني لصالحه، واعتمد على دعم دولة أو دول أوروبية، وتبنى نمطا اجتماعيا اقتصاديا وثقافيا غربيا، وتبنى بالتحديد، ديموقراطية "الشعب المختار"، وسعى إلى إقامة مستوطنات مستقلة عن السكان الأصليين، وإلى احتلال أوسع مساحة ممكنة من الأرض، وركز على الأراضي الزراعية الغنية، وسعى إلى تحقيق توازن دولي لصالحه. واختلف من حيث أنه لم يرتبط بدولة أم، فالإحلال، الجزئي والكلي،  الذي ارتبط بدولة أم انتهى بانتهاء الاحتلال ( الجزائر وأنغولا وكينيا). كما سعى، منذ البداية، إلى إحلال العمل والاستهلاك والحراسة العبرية، مما ساعد على خلق تنمية اجتماعية اقتصادية عسكرية صهرت المستوطنين المنحدرين من أصول اثنية مختلفة، في مجتمع واحد. وتبنى لغة خاصة، وحاول انتاج ثقافة جديدة ليساهم في " بعث الشعب اليهودي"

لقد سيطر المستوطنون اليهود على 6.6% من الأراضي الفلسطينية الانتدابية حتى العام 1947، والتي شكلت 19.6% من الأراضي الزراعية، وزادت نسبة المستوطنين من 7.2% سنة 1918 إلى 31.5% سنة 1948. وبالرغم من كون المستوطنين أقلية، إلا أنهم  كانوا أفضل تنظيما، وأوضاعهم الاقتصادية أكثر تطورا، وقدرتهم العسكرية أكبر بما لا يقارن بالفلسطينيين والعرب، وظلت الهجرة من الخارج أهم مصدر للزيادة السكانية. وهجّر، في المقابل، بالقوة والتهديد بها ما بين 750 ـ 900 ألف فلسطيني بين نهاية عام 1947 وبداية عام 1949. وفي عام 1967 احتل الكيان الاستيطاني بقية فلسطين وأراض عربية، مما أدى إلى تهجير 430 ألف فلسطيني منهم 193500 هجروا للمرة الثانية. لقد مارس الكيان الاستيطاني سياسة إحلالية واحتلالية في الأراضي المحتلة سنة 1967، نجم عن السياسة الإحلالية سيطرته على أكثر من نصف  هذه الأراضي وضم القدس العربية إلى كيانه، فإذا انطلقنا من حقيقة أنه صار دولة معترفا بها سنة 1948، وترتب على ذلك أنه صار دولة محتلة لأراضي الغير في زمن انتهى الاحتلال بالسيطرة المباشرة، وصار مطروحا على المستوى الدولي ضرورة إيجاد حل للقضية الفلسطينية التي تهدد استقرار منطقة مهمة في العالم، صار مهما أن نتساءل، إلى إي حد سيتخلى الكيان الاستيطاني الإحلالي عن طبيعته الإحلالية ويتراجع إلى حدوده المعترف بها؟وكيف سيواجه أزمة التوازن الديموغرافي ضمن هذه الحدود؟ وإذا كانت قضية اللاجئين، وحقهم في العودة واحدة من القضايا المطروحة للحل، فإن حلها جزئيا أو كليا يعني مفاقمة هذه الأزمة. فإذا أصر الكيان الاستيطاني على رفض حل الدولتين لشعبين، وحق العودة للاجئين الفلسطينيين، فإلى أي حد يستطيع مواجهة التطور العالمي القائم على إطفاء الحرائق المتفجرة المعيقة لعالم معولم يهيمن عليه المركز؟ وإذا كان خياره استمرار الوضع الراهن، والوضع الديموغرافي في ظله قارب على التوازن، فإلى أي حد سيواجه هذا الكيان أزمة بالمعنى الحقيقي؟ وماذا سيطرح في مواجهتها؟ هل يتحمل هذا الكيان بأن يصبح دولة جنوب أفريقيا في الشرق الأوسط؟ أم يقبل بحل الدولتين لتظل مشكلة الانفجار الديموغرافي في كيانه المعترف به دوليا قائمة؟

من يتابع انجازات الكيان الإحلالي في فلسطين على المستوى الاقتصادي والتقني والعسكري، حيث يحتل مرتبة متقدمة على صعيد التنمية البشرية، ويملك قطاعات صناعية متقدمة، وبالذات في المجال العسكري، ويصنف ضمن الدول العشرة الأقوى في العالم، قد يستهجن استنتاجنا، بأن هذا الكيان رغم كل ذلك، يعاني من أزمة وجود. فما هي عناصر هذه الأزمة؟ 

1ـ أزمة التوازن الديموغرافي. أمام الكيان الاستيطاني الإحلالي في فلسطين خياران كل منهما أصعب من الآخر، فهو إما أن يلتزم بالشرعية الدولية وينسحب إلى حدود عام 1948، أو يستمر في تحديه لها ويتمسك باحتلاله لكل الأراضي الفلسطينية. في ظل الخيار الأول سيضطر إلى التخلي عن أهم سمة للكيان الإحلالي الإستيطاني وهي، التوسع الاستيطاني واستجلاب مزيد من المهاجرين. فإذا حدث ذلك، (وهو حسب رأينا غير متوقع على المدى المنظور،) فإن انتهاء أو انخفاض وتيرة العداء الخارجي لهذا الكيان، ستضعه أمام مشاكل داخلية متعددة أهمها، التناقضات الإثنية والطبقية، ولأن هذا الحل غير ممكن إلا بعودة، ولو جزء من اللاجئين، سيواجه هذا الكيان مشكلة التوازن الديموغرافي المتصاعد لصالح السكان العرب، فهم يشكلون اليوم ( عام 2008) 17% من السكان ( بدون سكان القدس والجولان، فبضمهم تصبح النسبة حوالي 20%). أما إذا تبنى الخيار الثاني، واستمر في احتلال كل الأراضي الفلسطينية، فإن هذا التوازن سيصبح مشكلته الكبرى، إذ من المتوقع أن يتساوى عدد الفلسطينيين بالمستوطنين خلال العام 2010. هذا التوازن في ظل حتمية مقاومة الاحلال والردود الفاشية العنصرية ضد المقاومة سيغير صورة له حرص على تأكيدها، وهي صورة الجزيرة الديموقراطية وسط دكتاتوريات متخلفة. لقد أثبتت تجربة الانتفاضة الأولى عام 1987 بأن النضال الوطني ضد هذا الكيان يفقده الكثير من ميزات قوته.

المسألة الثانية المرتبطة بالتوازن الديموغرافي هي، مسألة اللاجئين الفلسطينيين الذين وصل عددهم إلى سبعة ملايين ( 2008)، فالموافقة على عودتهم حتى إلى المناطق المحتلة سنة 1967 تعني بداية النهاية لهذا الكيان، والتنكر لحقهم في العودة يعني بقاء المنطقة العربية في حالة غير مستقرة. علما بأن غالبية الأحزاب الصهيونية، ترفض حق العودة لكل اللاجئين حتى إلى المناطق المحتلة سنة 1967، والقانون الدولي ينص على حق عودة اللاجئين إلى المناطق التي هجروا منها.

2ـ أزمة العداء بمحيطه. على هذا الصعيد، استمرار الواقع القطري واستقراره، أو حدوث خلخلة فيه لمصلحة النزعة القومية العربية التي ما زالت قائمة، يشكلان أزمة مستمرة لهذا الكيان، رغم تحقيقه انجاز مهم بعقد اتفاقيات سلام مع قطرين عربيين هما مصر والأردن، ورغم تطبيع العلاقات مع أقطار عربية أخرى. فإصراره على استمرار احتلال الجولان يبقيه في حالة عداء مع سوريا، والتوازن والتطورات في الواقع اللبناني خلقت جبهة مواجهة جديدة نسبيا، وعدد اللاجئين الفلسطينيين في الأردن قنبلة موقوتة قابلة للانفجار، واللا استقرار في مصر يخيفة أكثر من أي شيء آخر. ولأن حل القضية الفلسطينية وفق تسوية الحد الأدنى يشكل له أزمة عميقة ككيان إحلالي، فإن أزمات هذا الكيان متعددة الأوجه. لقد أراحه تراجع المد القومي العربي، وهبوط المد اليساري، وهو الآن يواجه المد الإسلامي، عربيا وفلسطينيا ، فماذا سيحدث إذا تجذر الخط الوطني؟

3ـ أزمة القوة التقليدية في مواجهة المقاومة. إن نجاح الكيان الإحلالي في بناء قوة عسكرية تقليدية جبارة أثبت جدواه في مواجهة الجيوش العربية التقليدية، إلا أن حروبه مع المقاومة اللبنانية والفلسطينية،  أظهرت نقاط ضعف خطيرة لدى هذا الكيان. فالمقاومة العقائدية المحمية بالجماهير استطاعت وضع حد لعربدته وانتصاراته السريعة، وسببت له إحراجا عالميا لاضطراره إلى خوض حروب فاشية قمعية ضد المدنيين. ما طرحناه سابقا يظهر أن هذا الكيان يعيش أزمة بعدة وجوه وأبعاد.

4ـ التحولات في الواقع الدولي. لقد حدث في الواقع الدولي تحولات كبيرة خلال الأعوام العشرين الماضية، كان أهمها التحول الإنقلابي في دول الاتحاد السوفييتي سابقا، وانتهاء مرحلة المحافظين الجدد في الولايات المتحدة بأزمة كساد عظيم، واستمرار الفشل في خلق استقرار في  العراق وأفغانستان وفلسطين. وبسبب ذلك، نعتقد أن العالم على أبواب متغيرات أهمها : قيام عالم متعدد الأقطاب، وحدوث أزمات عميقة في عدد من دول العالم، وتغليب التوجه نحو محاولات أكثر جدية لإنهاء الصراعات المؤثرة على الاستقرار الدولي. فإذا حدث ذلك في ظل تعنت الكيان الاحلالي واستمرار نزعته اليمينية بالتجذر، وعدم قدرته على التأقلم مع هذه التحولات، وبالربط بين حتمية تصاعد النضال في مواجهته، واستعداده للقمع الفاشي في مواجهة المقاومة، يمكن التأكيد أن أزمة هذا الكيان سوف تتعمق.  

وفي كل الظروف والمعطيات، للقوى الفلسطينية أثرها المهم في تعميق هذه الأزمة أو التخفيف منها. ولأن مطالب الشعب الفلسطيني بحدها الأدنى عامل مهم في تفاقم أزمته، فإن التخلي عن مطلب الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة، أو اعتراف الفلسطينيين بيهودية الدولة، أو التنازل عن حق اللاجئين في العودة إلى وطنهم، قد يخفف من هذه الأزمة، ولكن لمرحلة قصيرة. فالتوازن في الواقع الفلسطيني سيتعرض للخلخلة في حالة حدوث تنازل عن واحد من الثوابت الوطنية الفلسطينية.  

إن أهم عامل في أزمة الكيان الإحلالي هو تمسك الشعب الفلسطيني بهويته وحفاظه على قضيته ووحدته واستمرار نضاله، والثقافة والقيم الوطنية هي العامل الأهم في انجاز ذلك.  

--------------------------------

احمد ابو غوش: باحث وكاتب فلسطيني، له العديد من المؤلفات، رئيس جمعية أهالي عمواس.


--------------------------------------------------------------------------------