إنطباع أول
 
مرّت اليوم بضعة سنوات منذ ذلك اليوم الشتويّ. لا أزال أذكره ملوّنًا بأطياف رمادية تقطعها مَشَحات داكنة وأخرى مضيئة كأنها دُهنت على التوالي بالرصاصيّ والفضيّ بفرشاة تركت حركاتُها الخاطفة أثرها على السماء.

كنّا نمشي في درب ضيق على سفح الكرمل وقد ملأت الجو رائحة ساعات ما بعد المطر الغزير. تخبّ أقدامنا في وحل خفيف داخل تلك البقع الترابيّة الطينيّة الصغيرة المتناثرة بين سطوح الحجارة المفلطحة التي ترصف الطريق الوعريّة، وجزر العشب القاسي الذي أفقدَه العيش حيث تسلك أقدام البشر طراوة العشب المعهودة. فلونه داكن أو على الأقل أعتمُ خضرةً من تلك الحشائش الناعمة اليانعة السعيدة الخفيفة على جانبي الطريق. لكنه، عشب الطرقات، لا يموت بل يربدّ ويكاد يسودّ كأنه يعبّئ ألمه، تحت وطأة السائرين عليه، حِقدًا مبرّرًا يظهرُ في وجهه قد ينفجر في كل لحظة؛ كالبشر تمامًا حين تقمعهم أقدام غريبة ثقيلة.
 

 
يمرّ الدرب في مقاطع كثيرة بين صفوف من الشجر التي تلفّه تاركة إياه، فيما لو نظرتَ الى الحالة من أعلى، كصدع حاد طويل يخترق بقعة من حياةِ طبيعة. وفي أحيان أخرى يظلله الشجر من جهة القمة فقط، بينما ينفتح المشهد تحته على منحدرات شجريّة تظلّ العينُ تتدحرج على ذرواتها المدبّبة حتى تسقط في لجّة البحر، فتنبسط سابحة معه وهي تتراقص على تردّد موجه الأبيض المُزبِد حتى خطّ الأفق، لتعود من هناك للارتفاع في لحظة خاطفة نحو سماء الغيم، وتروح تتسلّقها ببطء وهي تتذبذب فوق تبايناتها اللونيّة، وقد يلسعها بخفّة مشاكِسة فجأةً شعاعٌ شمسيّ ذهبيّ وحيد نجح في التسلّل للحظة بين طرفي غيمتين مندفعتين متدافعتين كثَوريْن من القطن الرقيق، قبل أن تعود عينك تسيرُ ببطء أمامك على الدرب الترابي الممتدّ بتوقيت اللانهاية.

تعلمتُ من والدي كثيرًا كيف أتمعّن في الشجر. خلال جولاتنا في أطراف القرية كنا نمشي بصمت يقطعه بإشارات بيده الى هذه النبتة وذلك العصفور وتلك الشجرة. يبدو الشجرُ لوعيي، الذي أنهكته كدمات المعرفة الضئيلة، لوهلة سريعة أنه متشابه: فروع تحمل خُضرة متنوعة الشدّة والخفة وما بينهما، مصطفة كالمتوثّبة الهادئة على هذه القطعة من امتداد العالم. لكنني مع الوقت رأيتُ وعرفتُ أن للشجر هويات. لكل شجرة حضور قد يذكّر الرائي، لو تمعّن فيها باهتمام يليق برهبة الحالة، بصورة أو شخص أو ذكرى، أو لربما حتى بامرأة أو رجل. بعضها صارخُ الوقفة يظهر عليه كأنه تبرّج اليوم فجرًا لاستقبال قادم غريب مُنتظَر، قد يأتي وقد يتأخّر، فمَن يدري؟ وبعضها يقطر منه الهدوء فتكاد ترى طرفي رزانته الغامضة على خديه اللذين سقط عليهما الرّمش ظلالاً بالكاد تُرى. ومنها ما يقف بخشوع راهبٍ لا تدري كيف تطلّ ابتسامته من قلبه ومع أنك بالكاد تتحقّق من ملامح وجهه المستتر في عُمق التأمّل. كذلك، فمن الشجر ما يوحي لك بقصر عمر البشر. هشّ الوقفة، قلِق الاهتزاز، نحيل الحضور ويبدو عليه مليّـًا أنه بدأ ينحني من نقطة أشمخ كان وصلها مرّة في كلّ منتصفٍ من سني حياته، لكنه الآن يطلّ عليك مقتربًا باضطّرادٍ بطيء نحو حفنة من تراب. نحو البداية والنهاية معًا.

لكن الشجر ليس بما يوحيه فقط، فهو قائم قبل المعاني التي قد تُسقَط عليه. هناك السّنديان وشقيقه المَلّ الرّاسخ بقوة جذعه الرماديّ الصّلب داخل أوراقه المسنّنة بالشوك الصغير الحاد الذي لا يخاف أحدًا ولا يعصى على شيء، اللهم سوى على أسنان المَعز الجبليّ الأسود النّهِم. وهناك القاتل، المتّهم بقتل أبيه فظلَّ الدم المسفوك يبقـّع جذعه وفروعه الملساء المنسابة الباردة حتى في ساعات القيظ الصيفي، كبرودة الموت القويّ الذي يُتّهم بارتكابه. وهناك البُطم الذي لا أدري لماذا أشعر بأن فيه نوعًا من الهوَج أو لنقُل شيئًا من قلّة الاستقرار النفسي. (ها أنذا أُسقِطُ المعاني ثانية، فلأتوقّفْ!). وهناك أيضًا الصّنوبر: طويلٌ، باسقٌ، عموده الفقريّ واضح مستقيم ومنه تتفرّع أذرع ضامرة تكسوها تلك الأوراق الإبريّة المسننة.

حين انعطفنا في الطريق خارجَين من فقرة فيه تلفّها الأشجار من طرفيها، انفتح المشهد مرة واحدة على انحدار السّفح. وخلف منبسطٍ عشبيّ ضيّق، لاح في طرفه البعيد سورٌ صخريّ وقد سقط بحدّة نحو انحدار ملأهُ حشد جديد من الشجر. لكنه كان شجرًا مهشّمًا.

كان الصنوبر فيه قد فقد العديدَ من أذرعه التي تدلّت من كل طرف ليفقدَ الشجر هيئته وتماسكه وشموخه فبدا أشبه بكائنات شبحيّة عصفَ بها مصيرٌ قاتم. يبدو أن لياليَ الأيام الأخيرة العاصفة فعلت فعلها في هذه الشجرات المسكينة التي ظلّت واقفة جريحة. فخلافًا للسنديان والمل والقاتل، وحتى البطم الأهوج، لم يستطعْ هذا الصنوبر الوقوف في وجه ريح عابرة، وإن كانت عاتية بعض الشيء.

لم يفارقني هذا المنظر المريع حتى الآن. لم يُسعف انطباعي، أيضًا، إدراكُ عبد الرحمن منيف أن "الأشجارَ تموت واقفة". يومها تمتمتُ قائلاً لنفسي بخفوت: هذه مجزرة.. هذه مجزرة الصنوبر.

أتيقّن لاحقًا: كان ذلك التداعي طبيعيًا لمن يعيش في بلاد يعجّ تقويمها بالمجازر؛ من دير ياسين وسوق الأتراك في حيفا وباب عيلبون وصولا الى كفر قاسم وحتى الخليل وجنين وشفاعمرو وغزة. وشاتيلا طبعًا.

آه يا بلادي، ويسمّونكِ أرضَ السّلام.

إنطباع آخر

بعد نحو أسبوعين، سيحلّ الربيع رسميًا بموجب التقويم. لا نزال الآن في أيام آذار الأولى. خمسة أصدقاء وصديقات وصلنا الى الكرمل للتوّ. لون الشجر فرِحٌ. هناك بريق شمسيّ يعلوه كأنه يشعّ من خضرته. الطريق المنحدرة نحو السفح مُحاطة بجميع زهور الموسم: الزقوقيا بصنفيها الأبيض والورديّ الذي كأنما دبّ فيه خجلٌ غير مفهوم، البرقوق الأحمر القاني، الصُّفّير بتويجاته الرقيقة، البصّيل ذو الاسم الذي لا يتفق كثيرًا مع عناقيد زهره البيضاء، زهر الميرميّة المتّشح بالليلكيّ عناقيدَ عناقيد، وأزاهير صغيرة عديدة الألوان والأشكال اطمأنّت لقدوم أيّام فصل الشمس الأولى. هناك فراشة صفراء تتطاير متباطئة من زهرة لأخرى، تحطّ بقربي غير عابئة لكي تذكّرني كم أنا غريبٌ عن هذا التمازج الطبيعي الكثيف العميق الذي لا يحتاج بشرًا ليكون ولا ليمارس جماله. طنين نحلات سريعة يُسمع هنا وهناك، مُكسبًا المشهد صوتًا يزيد الحياة عسلاً.

هذه القطعة من الكرمل احترقت قبل بضعة سنوات. أذكر المنظر الرماديّ القاتم المتفحّم الذي كان حينذاك يجرح العين. أشجار ترتدي السواد وقد جفّت عروق الحياة في جذوعها. بعضها مال وانحنى وبعضها ظلّ كمن أجفلته النيران فتجمّد واقفًا. مرّت سنوات وها هي الحياة تعود للأرض. نباتات وزهور المكان لا تملك وقتًا للحداد الطويل، فعادت لتملأ البقعة حياة بإيقاع طنين النحل.

شجيرات القاتل بطول قاماتنا تقريبًا، جذوعها تلمع متباهية بورقها الواسع المليء بالعافية. لكن في كل منها، من وسطها، يطلّ جذعٌ متيبّس أسود، كأنه يذكّر بتاريخ حزين تحمله كل شجرة، بل تحتضنه بين فروعها الجديدة الحية كإنسانٍ كريمٍ لا ينسى سابقيه ولو عصفت بهم مصائر قاسية. تمعّنتُ في أصل الجذع، وكانت الفروع الحيّة تحيط الجذع العتيق المتفحّم كأنها تريد تكليله بالحياة؛ أشبه بمنحه صفة النصب التذكاري الخالد، أو لربما رسم معنى معه لجدلية الموت والحياة الخارجَين من الجذر نفسه.

بجانبها كانت شجيرات البطم التي امتدّت فروعها كالعادة بشكل متثاقل فلم تشرئبّ للأعلى بل انتشرت واطئة بعض الشيء بنوع من التكاسل النباتي الذي يبدو أننا لن نفهمه. سيظلُّ هذا غير مهمّ طبعًا، طالما أنها استعادت حياتها بعد الحريق. سيكون إطلاق الأحكام على وضعيّة استلقاء فروعها ضربًا من الركاكة، لأنك الآن أمام شجر خرج حيًا من لهيب النار وأكوام الرماد؛ فانظرْ وتعلّم واصمتْ.

أما ما كان مثيرًا للأسى فعلا، فليس سوى ذلك الصنوبر: لا تزال جثثه الضخمة ملقاة على المنحدرات دون قبور تؤويها. أما ما نجح من فسائل صغيرة منه في استعادة الحياة، فيبدو مصفرّ الأوراق بفعل عدة أيام مشمسة لا غير. كم كنت أريد له أن ينافس القاتل بل حتى فجاجة البطم، فيعيش، لكنه يبدو عاجزًا. فلا يبدو أن هذه الفروع الهشة ستعيش طويلا، إنها تحتاج لعناية خاصة، ليد غريبة تسندها كي تعود كما كانت، هذا إن نجحت أصلاً. وهي تحتاجها كما كانت احتاجت في طفولتها المُقتلعة من مكان بعيد، والمستقدمة قسرًا، ليد بشرية تفرض حياتها فرضًا في هذه القطعة الطبيعية التي لا يأبه فراشها ونحلها ببشر ولا بحريق ولا بأيّ شيء. مسكين هذا الصنوبر، كم هو محدود الإرادة.

عن فعل التحريش

منذ فترة وأنا أفطن بالصنوبر. هذه الشجرة (باتت) تبدو غريبة عن محيطها هنا. مع أنها خضراء بخصوصيّة منعشة، ككل الشجر. لكنها في بلادنا شجرة تنثر على عينيك تداعيات حادّة لاسعة كرؤوس أوراقها الإبريّة. تطلّ عليك محمّلة بعبء ايديولوجيّ عدائيّ، يتوجّب عليّ الاستدرك بشأنه والقول إنه سيكون من الغُبن اتهامها هي به. فهي شجرة، أرقى من جميع الايديولوجيات وتفسيراتها، حتى التي أحملها بنفسي. لكنها المسكينة أسقيت بماء ايديولوجيّ آسن، حين استُقدمت لأغراض مريبة الى هذه الأرض، فزرعت في "الباقين" توجّسًا نحوها.

تتحدّث بعض الوثائق الاسرائيلية التي لا تشوّق القارئ عمومًا للاطلاع عليها، كيف أن هيئات رسمية درست وخططت وعملت على جلب الصنوبر بهدف "التحريش"، أي خلق أحراش جديدة في البلاد. ولنتوقّف هنا: هذه الكلمة هي ترجمة حرفية للإسم، حُرش، بوزن المصدر الفاعل، عن العبريّة (يِعُور، من يَعَر). ومن اللافت دخول كلمة تحريش الى اللغة. فالحرش، الغابة الصغيرة، الذي تدقّق المعاجم العربية لفظه وتسميه حُرجًا، ينمو وحده، ومن غير الطبيعي أن يشتق منه فعل التحريش- على وزن التفعيل. فمجرّد دخول هذا الوزن بغرابة على مفردة الحرش، يدلّ على القيام بفعل تكتنفه الغرابة في الطبيعة. لأن اللغة مرآة لتجربة الواقع أو التجريب فيه. وهكذا، بدلا من الحرش الذي تلتقي أشجاره وشجيراته ونباتاته وزهوره وطيوره وحيواناته وحشراته وعبقه ومنظره وشكله وانتظامه المنفلت وحدوده اللانهائيّة الحيّة وتواشيح لونه وحركيّة ظلاله المنسابة على وقع إيقاع موقع الشمس وأصوات تكسّر قطر المطر عليه وانتعاشه وأفوله الموسميّين الدوريّين المتتاليين المتعاقبين المندفعين المتغيّرين الباقيين – وهذا كله بقوّة علاقات الطبيعة الداخلية العفوية- بدلا من هذا كلّه، اقتحمت المشهد يدٌ غريبة لتهندس الحرش وتقرّر مصيره وشكله وتردّد نبضه، قسرًا. هنا كان لا بدّ من ابتكار انعكاس مرآتيّ لهذا الفعل الفظّ في اللغة، فجاء التعبير الفظّ "تحريش".

أشعر بنفور من تلك الكلمة. لسببٍ ما، ترتبط في ذهني بكلمة تحرّش. لا، بل أكثر. إنها تشبه معنى التحريض على التحرّش، وهذا أعنف. أشعر بالحرَج في أنني أشير الى علاقة جذرية بين الحُرش وبين الاعتداء المتمثّل بفعل التحرّش الانتهاكيّ. لم أقصد النبش في الأصول. لكن فعل التحريش الاسرائيلي، الذي أشكّ في أنه اقتحم لهجة عربيّة غير عربيّتنا، نحن الباقين في الوطن هنا، جعلنا نقيم علاقات مشوهة مع أشجار ترتوي من ماء سمائنا وأرضنا.

بالمناسبة هاكم ما يفيد به "لسان العرب" عن التحريش وعن الصنوبر:

التَّـحريش: إغراؤُكَ الإِنسانَ والأسد لـيقع بقِرْنِه. وحَرَّش بـينهم: أَفْسَد وأَغْرى بعضَهم بِبَعض. قال الـجوهري: التـحريش هو الإِغراء بـين القوم وكذلك بـين الكلاب. وفـي الـحديث: أَنه نهى عن التَّـحْريش بـين البهائم، هو الإِغراء وتهيـيج بعضها علـى بعض كما يُفْعل بـين الـجمال والكِباش والدُّيُوك وغيرها. ومنه الـحديث: إن الشيطان قد يَئِس أَن يُعْبَد فـي جزيرة العَرَب ولكن فـي التـحريش بـينهم أَي فـي حَمْلهم علـى الفِتَنِ والـحُروب.

صُنْبُور: فَرْد ضعيف ذلـيل لا أَهل له ولا عَقِب ولا ناصر// صُنَـيْبِـير أَي أَبْتَر لا عقب له ولا أَخ فإِذا مات انقطع ذِكْرُهُ.

"الخُضرة تقاوم"

في اللحظة التي قرّر فيها المهاجرون الاستعماريون (وليس جميعُ المهاجرين استعماريين طبعًا، بل مهجّريهم الى بلادنا المُهجّر معظم أهلها) جلبَ الصنوبر لخلق "مشهد طبيعي أوروبي"، كي يتسنى للايديولوجيا العثور على استطرادات مصطنعة لها في طبيعة مصطنعة، فقدَ هذا الحرش طبيعيّته في بلادنا وفقدنا نحن طبيعيّة العلاقة معه. كلانا ضحية لنفس اليد. وفوق هذا، نمرّ يوميًا قرب أحراش تخبّئ في داخلها جثّة لواحدة من قرانا المهجّرة المدمّرة. هنا، يقوم الصنوبر بفعل تستّر قسريّ على جريمة اقترفها من أجرموا بحقه نفسه حين حوّلوه الى شريك لاإرادي في جريمتهم.

حين نقول إن الجريمة لم تقتصر على البشر بل طالت النبت والشجر، لا نقصد قتل زيتوننا فحسب، بل إسقاط الصنوبر كعميل متواطئ مشارك في الجريمة.

يروي المؤرخ إيلان بابه في مقالة موضوعها "صهينة الفضاء في فلسطين"، عن الخطوات الرسميّة التي قام بها عدد من زعماء الصهيونية لتغيير المشهد الطبيعي للبلاد. الخيال لا يتّسع لفكرة أن هناك من جلس وناقش وشرب القهوة والشاي ودخّن وخرج الى الحمّام وربما تجبّد وتعب وتثاءب ونظر الى الساعة وقام لمهاتفة عائلته لأنه تأخر على العشاء معها، فيما هو يخطّط بقسوة وعنف لتغيير طبيعة مكان. يجب ضبط العقل بمواقيت نشاز كي يستوعب أنه كانت هناك قرارات حول نوع الشجر المطلوب جلبه لخلق مسخ البلاد الجديد، تبعتها اجراءات أدائية باردة وجافة مثل البحث عن مصدر للشجر، فحص سعره، إرسال وكلاء لشرائه، شحنه، استقباله في الموانئ، تخزينه ريثما توضع توزيعة له بعد تحديد المواقع المستهدفة، وكلّ هذا دون أدنى حسّ ووعي لبشاعة الفعل. ببساطة متناهية، لقد تفاعلت سيرورة صناعيّة اغترابيّة لإعادة صياغة بلد بأكمله في أصل أصله: في طبيعته.

ممّا يورده المؤرخ بابه: "الصندوق القومي اليهودي" هو المنظمة التي زرعت الغابات على امتداد السنين. أقيم الصندوق في العام 1901 وكان بمثابة أداة الصهيونية الرئيسية لاستعمار فلسطين. وكان الصندوق عبارة عن وكالة قامت الحركة الصيهونية من خلالها بشراء الأرض واستفادت من صفقات الأرض التي تم شراؤها. وتم تدشين الصندوق في المؤتمر الصهيوني الخامس، حيث كان بمثابة رأس الحربة في صهينة فلسطين خلال سنوات الانتداب. وقد أُريدَ لهذا الصندوق منذ الشروع في نشاطاته أن يصبح القيّم على الأرض في فلسطين باسم الشعب اليهودي، ومُنح هذه المهمة رسميًا. وهو لم يتوقف عن أداء هذا الدور بعد إقامة دولة إسرائيل، بل تمت إضافة مهمات أخرى إلى مهمته الأصلية تلك. استولت إسرائيل على 3.5 مليون دونم من فلسطين الريفية: يتضمن هذا التقدير منذ العام 1948 بيوت وحقول القرى المدمرة. كانت الوسيلة الرئيسية لتهويد القرى الفلسطينية السابقة إما عن طريق استيطان اليهود فيها أو عن طريق التحريش. فقد كان لوزارة الزراعة أيضًا قسم خاص بالتحريش. فاتُخذ قرار بغرس أشجار الصنوبر والسرو بدلاً من النباتات الطبيعية لهذه المنطقة. وكان ذلك، جزئيًا، محاولة لأورَبة المشهد الطبيعي. تم تحقيق مهمة التحريش عن طريق التخطيط لأشجار أوروبية على أنقاض وأراضي القرى. وبات عمليًا الحفاظ على البلاد يهودية وكذلك خضراء، هدفان متماثلان. في موقع الصندوق القومي اليهودي على الإنترنت هناك جدول لافت يعرض أصول الأشجار والنباتات المحلية الموجودة في الحدائق العامة التي أقامها الصندوق. عمومًا، تتضمن غابات البلاد 11% فقط من الأشجار الأصلية. لتوضيح المعطيات: تغطي المنحدرات الغربية لمدينة القدس غابة مستحدثة. في العام 1956 إنشغلت بلدية القدس الغربية بالتحرش لأن الهضاب الغربية للمدينة قاحلة، مع أنها كانت مأهولة بالقرى الفلسطينية قبل ثماني سنوات فقط من ذلك العام، قبل أن تُهدم. في العام 1967 قام الصندوق القومي اليهودي بغرس مليون شجرة مستوردة على مساحة 4,500 دونم. هكذا تُؤَرَب العواصم استعماريًا..

في مقالة نشرتها صحيفة اسرائيلية في آذار 2008، تحدث خبير أكاديمي كيف جرى على الدوام التخطيط لاعادة بلورة المشهد الطبيعي للبلاد، بهدف واضح هو "أوْرَبَته"، جعله أوروبيًا. هذه النقطة اللافتة شديدة العمق. فالمشروع السياسي الذي خُطّط له لينشأ في قلب المشرق العربي، في سويداء قلبه – فلسطين، لم يقتصر على فرض السلطة السياسية والوظائفيّة القابلة للتفكّر والتخيّل وربما التطبيق وحتى الاستيعاب لاحقًا بعد التسويات، (بكوننا بشر نأنس لواقعنا مهما اشتدّت قوة السخط عليه) بل عبر سلوك من الصعب وصف مدى استعلائه الغبيّ لاستحالته العمليّة، حيث جرت محاولة لاستجلاب المحيط الطبيعي المرغوب فيه له بواسطة التوهّم بخلق بقعة أوروبية تحت الشمس المتوسطيّة وفوق التربة البنيّة الساخنة التي لا يمكن انطلاء مشاريع السياسة عليها قسرًا. من المريع أن الغزاة قادرون على إخضاع البشر لفترات قد تطول وقد تقصر، ولكن من الممتع، تشفيًا وسخرية واستخفافًا بهم، رؤية كيف أن ما ينجحون في جعله يسري على الناس - ولو الى حينٍ لضعفهم الطبيعي تحت سطوة القوّة المؤقتة - لا يمكنه أن يسري على التراب. فالتراب غير ملزم بتوقيع هدنة ولا تسوية مع أحد. إنه ابن الطبيعة، تلك الشديدة القسوة والرقّة معًا بما يثير الذهول.

هنا بالضبط وقعت مأساة الصنوبر، فقد نما وعلا واستطال واشرأبّ وامتدّ، لكنه لم ينتبه للمناخ الذي لا يمكن تغييره حتى لو امتلك المتوهمون بها، كلّ القوّة المتاحة. فتراه المسكين يتهشّم أمام رياح قد تكون أقلّ بردًا بكثير من رياح أوروبا، لكنها هنا تهبّ على سجيّتها، فترى السنديان يتململ بأوراقه الشوكية، ربما انتعاشًا وربما انزعاجًا، لكنه لا يتقلقل، بينما الصنوبر يعجز عن توقّع حدّ سيوف الرياح التشرينيّة الهوجاء ولا الكانونيّة اللاسعة بدقّة النحل.

حين عاد مريد البرغوثي الى رام الله في تسعينيات القرن العشرين، كتب(في "رأيت رام الله").: "الخضرة شحّت لأن اسرائيل تسرق المياه منذ 1967. ورغم ذلك، "الخضرة تقاوم". فعلاً..

-----------------------------
هشام نفاع: صحفي فلسطيني، وناشط سياسي، يقيم في مدينة حيفا