حقوق الشعب الفلسطيني في ظل مسيرة أوسلو:تهميش مؤسسات القانون الدولي وحقوق الإنسان وزيادة وتيرة الانتهاكات

بقلم: سالم أبو هواش*
يدور الحديث في الآونة الأخيرة عن العودة بالملف الفلسطيني إلى منظمة الأمم المتحدة، تارة يجري الحديث عن الذهاب لمجلس الأمن، بشأن حدود الدولة الفلسطينية، أو بشأن الاستيطان الصهيوني، أو بشأن الاعتراف بالدولة الفلسطينية أو بحدودها. ومنذ بدء مسيرة أوسلو حتى الآن، جرى تحييد مؤسسات مهمة عن التعامل مع القضية الفلسطينية. في البداية جرى تهميش وتحييد دور منظمة التحرير الفلسطينية، ثم تم امتطائها لتحييد وتجنب التدخلات الإقليمية والدولية ذات العلاقة بالقانون الدولي وحقوق الإنسان، وجرى ذلك بحجة وجود مفاوضات بين الأطراف، ووجود مسيرة سلام ومفاوضات، ولا يجوز لأية جهة أو هيئة أن تتدخل وتؤثر على مساعي السلام الجارية. وظل الموقف الأمريكي – الإسرائيلي، طوال مسيرة التفاوض يستند الى تهميش دور أي أطراف دولية أخرى ترغب في العمل من أجل إحلال سلام حقيقي، أو حماية الشعب الفلسطيني، أو متابعة الانتهاكات الإسرائيلية الجسيمة المنتظمة لحقوق الإنسان الفلسطيني

قرارات الهيئات والمؤسسات الدولية: الإرادة السياسية والنصوص

ينبغي النظر إلى قرارات الأمم المتحدة بهيئاتها المختلفة، من خلال قراءة المغزى العملي لهذه القرارات، وهو أمر يحدده الوزن النسبي للأطراف الدولية المختلفة ومواقفها المتباينة من طرفي الصراع، مما يجعل أهمية النصوص وتواريخ الصدور، ووفقا لأية مادة أو فصل من ميثاق الأمم المتحدة، أمر قليل الأهمية. فهذه أصلا تكون نتيجة لمحصلة الأوزان النسبية لإرادات الدول الأعضاء وتحالفاتها، قبل تمرير القرارات، ومن ثم عند وضع آليات التطبيق أو متابعة التنفيذ. ومن الأمثلة الدالة على هذه البديهية في السياسة الدولية، هي خلفية قرار الجمعية العامة رقم 181 لعام 1947 الذي صدر بموجب المادة العاشرة من الميثاق، وقرار 242 الصادر عن مجلس عام 1967. فالأول، وبرغم أنه يعتبر توصية غير ملزمة، أحيط بزخم هائل واعتمدت عليه الحركة الصهيونية في إعلان قيام إسرائيل، دون أن تعترف به، أو بالحدود التي حددها. فيما قرار 242 الصادر عن مجلس الأمن بموجب الفصل السادس، ورغم غموض نصوصه، إلا أنه شكل مرتكزا للسياسة الأمريكية والإسرائيلية، وبات شرطا ضروريا وأساسا لكل الاتفاقيات التي حصلت بين إسرائيل وكل من مصر، م.ت.ف والأردن؛ فيما أهملت العديد من القرارات الأخرى، سواء صدرت عن مجلس الأمن مثل قرار 452 لعام 1979 الخاص بالاستيطان والقدس الشرقية، أو عن الجمعية العامة مثل قرار رقم 194 لعام 1948 الخاص بعودة اللاجئين. لم ترد مجرد إشارة لهذه القرارات في أية اتفاقية مع إسرائيل، فقط إشارات عمومية وغامضة إلى "الشرعية الدولية" وبدون أية معايير، وتعيد الدول ذات الوزن النسبي الكبير الأمور للقرارين 242 و338 وتفسرهما كما تريد.

مزيد من الاستخفاف الإسرائيلي بالمؤسسات والقرارات الدولية

ومن أمثلة المواقف والتصريحات الأمريكية والإسرائيلية وفي الدول الغربية بشأن تدخل مؤسسات الأمم المتحدة، مثل الجمعية العامة، وكالات وهيئات ولجان ومجالس الأمم المتحدة، بما فيها مجلس الأمن الدولي، فقد أصبحت في حقبة أوسلو مثل إسطوانة مشروخة، تردد "إن هذا التدخل يرسل رسالة سلبية للأطراف المتفاوضة"؛ "هذه المواقف لا تساعد على استئناف مسيرة المفاوضات المتعثرة"، "لا تخدم جهود صنع السلام"؛ "على الجميع أن يساعد الطرفين في جسر الفجوة بينهما"...الخ
ومن الأمثلة الكثيرة على التعليقات والردود الإسرائيلية والأمريكية على تقارير واستنتاجات الوكالات والهيئات المتخصصة في مجال القانون وحقوق الإنسان، سواء كانت تابعة للأمم المتحدة أو لمنظمات غير حكومية محترفة: "التقرير ينطوي على مبالغة"؛ "يحتوي التقرير على معلومات غير دقيقة"؛ "مبني على معلومات مشوشة أو مشوهة"، "ينطوي على تحريض على شرعية إسرائيل ونابع من معاداة للسامية" هذا التقرير "صادر عن مؤسسة مسيسة ولها مواقف متطرفة" ...الخ و"نشر مثل هذه المواقف قد ينطوي على تحريض على العنف"، "هذه المواقف لا تساعد الفلسطينيين في الجلوس الى طاولة المفاوضات كشريك"... الخ. وفي أحسن الأحوال "ستقوم لجنة خاصة بفحص هذه المزاعم"!!.
باختصار، لم يعد أي قرار أو تقرير دولي أو حقوقي يحتاج إلى أكثر من تصريح لوسائل الإعلام، أو القيام ببعض الإجراءات الإدارية لتحسين ولتجميل صورة إسرائيل لدى الرأي العام العالمي فقط. فالمفاوضات ومسيرة السلام تشكل ضمانة لإسرائيل من أية مخاطر أو عواقب، تترتب على تقارير ولجان التحقيق ومواقف المؤسسات الدولية المختلفة.

أسس لـ"العودة" لمنظمة الأمم المتحدة والهيئات والمؤسسات الدولية

هناك العديد من القرارات واللجان الدولية ذات العلاقة بالقضية الفلسطينية منذ نشأتها، ويوجد قرارات لمجلس الأمن والجمعية العامة، وفتوى محكمة العدل الدولية بشأن الجدار، كما يوجد تقرير بعثة "غولدستون"، وقرارات لمجلس الأمن لا تعترف بقانونية ضم القدس ولا بشرعية الإستيطان ...الخ، لكنها ظلت حتى الآن في أدراج الهيئات الدولية. ولذلك، فإن أية عودة لتفعيل دور المؤسسات والهيئات الدولية، الحكومية منها وغير الحكومية، تستلزم بحث خيارات استراتيجية مختلفة تماما عما جرى خلال العشرين سنة الماضية، هي عمر مسيرة أوسلو، التي باتت ربحا صافيا للمشروع الصهيوني على أرض فلسطين، وأصبح تعبير "أرخص احتلال في التاريخ" يتردد على كل لسان. فما تفسير ذلك؟ ومن الذي جعل هذا الاحتلال رخيصا، وربما رابحا جدا، أنلوم الاحتلال نفسه؟ أم نضع اللوم على طريقة التعامل معه من جانب الشعب الخاضع للاحتلال وقيادته.
إذا ما ذهبت القيادة الفلسطينية اليوم إلى مؤسسات الأمم المتحدة، مجلس الأمن – على سبيل المثال، على أية نصوص جديدة تراهن؟ وعلى أية مضامين أو آليات عملية؟ وإلى أي مدى يمكن أن يصل التدخل الدولي في الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي؟ وفي أي اتجاه؟ خاصة أن الوزن النسبي للقوى الحليفة للشعب الفلسطيني في هذه القرارت أصبحت هامشية، ولا يرقى وزنها حاليا إلى مستوى إلزام الحكومات الغربية القوية لاتخاذ مواقف لحماية الشعب الفلسطيني، أو فرض قواعد القانون الدولي على الجميع بمن فيهم إسرائيل. ولذلك نأمل أن لا تتم المراهنة على هذا الخيار بأكثر من العمل الدبلوماسي وتعزيز العلاقات العامة، وبخاصة مع الأوساط الشعبية والمجتمع المدني العالمي. أما المطالبات بالاعتراف بالدولة و"حدودهـ"ـا وسيل الترحيب بهذه الإعلانات، فهذه المسألة تنطوي على خداع كبير، إذ ينبغي على أية جهة أو طرف يريد أن يقدم الدعم لكفاح الشعب الفلسطيني من أجل العودة وتقرير المصير والإستقلال الوطني، أن يمهر هذه الإعلانات بقوانين في برلمانته وهيئاته التشريعية، وأن يكون الاعتراف والدعم للشعب الفلسطيني وحقوقه، بعد تعريفها وتحديدها، وفقا لحقائق التاريخ ووفقا لمعايير وأحكام القوانين الدولية؛ أي مواقف يتم ترسيمها بقوانين وممارسات عملية أيضا تجاه دولة إسرائيل بمؤسساتها المختلفة، وتجاه الجهات التي تدعم نظامها الاستعماري العنصري بصورة مباشرة أو غير مباشرة. وبدون ذلك يكون أي إعلان هو مجرد لعبة علاقات عامة لبعض الحكومات يمكن أن تقايضه في أية لحظة بالمصالح السياسية والاقتصادية المتغيرة، أو دعما لصيغة سياسية بعينها وليس لحقوق الشعب الفلسطيني بغض النظر عن النظام السياسي.
أما استعادة دور المنظمات والهيئات الدولية لتكون فاعلة، فهي تحتاج أولا إلى استعادة دور م.ت.ف، عبر استعادة علاقتها بكافة أبناء الشعب الفلسطيني أينما تواجدوا، وتفيعل كل مؤسسات الشعب الفلسطيني، من النقابات وحتى رياض الأطفال، فمجرد الحديث عن بناء مؤسسات الدولة بدون أي مضمون واضح مرتبط بحقوق الشعب الفلسطيني وبآفاق تحقيقها، فإنه قد لا يصب في مصلحة استعادة الحقوق الفلسطينية، أو في مصلحة تحقيق سلام حقيقي، فالمؤسسات لها أهداف ووظيفة، والبناء ليس من أجل البناء نفسه، والسلطة يجب أن لا تكون في خدمة السلطة نفسها.
والخطوة الثانية التحضيرية لاستعادة دور المؤسسات والهيئات الدولية تتمثل في اتخاذ قرار باعتماد المنهج القائم على أساس الحقوق والقانون في جميع المجالات والمؤسسات، بدءا من حق العودة للاجئين، مرورا بكل الحقوق السياسية والمدنية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والتنموية ... مرورا بحقوق الطفل إلى الحق في الحماية من التمييز... الخ. إن اعتماد هذا المنهج سيساعد الشعب الفلسطيني بمؤسساته المختلفة على إرسال رسالة موحدة للعالم، وللإسرائيلين، بأن الحقوق والقانون لم يعودا يخضعان بعد الآن للعبة المقايضة على طاولة المفاوضات، وسيسهم ذلك في ارسال رسالة واضحة بأن أية مفاوضات لصنع السلام يجب أن تكون مرجعيتها الحقوق والقانون الدولي وقيم العدالة والمساواة للجميع.
ولا تتمثل الخطوة الثالثة في إعلان فشل أسلو وتشييعه رسميا فقط، بل في قبول ما أعلنته وزيرة الخارجية الأمريكية من أن "وقف الإستيطان لا يمثل أرضية مناسبة لاستئناف المفاوضات"، (يعني أمريكا تريد مزيدا من الإستيطان)، وهو موقف صحيح يتفق مع واقع مسيرة أوسلو ومضمونها بالنسبة لأمريكا وإسرائيل؛ لكنه يستلزم استكماله بأن فكرة أو إطار الحل القائم على "خيار الدولتين" قد ماتت، ولم يعد لها مكان في أرض الواقع الماثلة للعيان، ويجب التخلص من هذا الوهم فلسطينيا ومن ثم دوليا، والبدء رسميا بالعودة إلى جذور الصراع في فلسطين ما قبل عام 1948، والبحث عن إطار مفاهيم جديدة لإرساء السلام بعيدا عن المفاهيم والأيديولوجيا العنصرية، وذلك في إطار دولة واحدة عصرية يحكمها القانون والمساواة للجميع، وقد لا يكون النموذج الجنوب - أفريقي هو المثال الوحيد لمثل هذا الحل.

وينبغي أن تشتمل هذه المرحلة على إعادة وصف وتعريف الواقع كما هو بالفعل، وليس كما يتم "تخيله" أو تسميته، وأول ما يجب تعريفه هو توصيف السلطة الفلسطينية بإسمها بحسب اتفاقية أوسلو، "سلطة الحكومة الذاتية الفلسطينية"، كحكم إداري، يعنى بالحياة اليومية للفلسطينيين في الأماكن التي تسمح فيها سلطات الإحتلال لهذه السلطة بالقيام بدور فيها. والأهم من ذلك، هو التوصيف الشامل وليس الجزئي، وهو أن إسرائيل هي المسؤولة عن هذه السلطة. ومن ثم تقوم م.ت.ف بدعوة أنصارها وكوادرها الموجودين أو العاملين في هذه السلطة بإتباع المنهج القائم على أساس الحقوق في الدفاع عن حقوق السكان في جميع المجالات. وهذا يستدعي افتراق واضح في مسألة تمثيل منظمة التحرير الفلسطينية لكافة أبناء الشعب الفلسطيني أينما تواجدوا. وأن الشؤون السياسية العامة والوطنية والسيادية تخص المنظمة نفسها. ومغزى ذلك أن السلطة تعمل كما هي بالفعل كسلطة حكم إداري بحكم الأمر الواقع الذي تفرضه إسرائيل. ومن الناحية السياسية والقانونية، تحاول إسرائيل من جانبها أن توظف السلطة في خدمتها وليس في خدمة السكان. لكن السلطة المُشكلة من أبناء الشعب الفلسطيني ومن أجل خدمتهم، لديها طموح وبرنامج وأهداف لتكون ذراعا لمنظمة التحرير الفلسطينية، تستند إلى نفس منهج الحقوق والقانون من أجل إحقاق حقوق السكان الفلسطينيين أنفسهم. من هنا، فإن إسرائيل هي التي قد تسعى لإنهاء السلطة كلما تطور أدائها نحو مضمون الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، وهذه الإزدواجية ستتطور في النهاية لصالح المشروع الوطني، الذي سيصطدم بكل مكونات الاستعمار والاحتلال الإسرائيلي. وهذه الصيغة لها تبعات في العلاقات الدولية والمحلية على كافة المستويات، ويجب أن تجري ضمن خطة وإجراءات واضحة، وليس بصورة عشوائية أو تخضع للتنافس والاختلافات السياسية الداخلية.
أما الخيارات الموجودة أمام الشعب الفلسطيني فهي عديدة ومفتوحة، ولا يمكن التحدث عنها بالتفصيل هنا، وهي ملائمة تماما للقيادة الفلسطينية الحالية للبدء بتحرك وعمل داخلي بموازاة التحركات على الساحة الدولية، مع ضرورة تجنب الذهاب لإستصدار قرارات جديدة من مجلس الأمن أو الجمعية العامة، بل العمل على أساس مبادئ القانون الدولي، والعمل على إحياء مقررات سابقة ومتابعتها من خلال هذه الهيئات، وقد يكون أهمها "فتوى" محكمة العدل الدولية، وقرارات الجمعية الخاصة بحقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف. وإذا ما قامت المنظمة بتفعيل دورها وإعادة علاقاتها مع قاعدتها الجماهيرية والمؤسساتية، فستكتشف القيادة الفلسطينية، وربما تفاجأ مرة أخرى، بحجم مخزون القوة والاستعداد الكفاحي الموجود لدى القاعدة الشعبية، التي ظلت كامنة وتتراكم خلال العقدين الماضيين ولم يستفد منها بعد.
في النهاية مطلوب استراتيجية وأساليب جديدة ورسالة واضحة وموحدة، وتحضير محترف من أجل الإستفادة من دور المؤسسات الدولية، مع التأكيد على أن العامل الحاسم في نهاية المطاف، هو العامل الفلسطيني الداخلي وتحالفاته، والاعتماد على الذات، وفي مدى قدرة القيادة على الإستفادة من الطاقات الفلسطينية لتصب في الوزن النسبي للمؤسسات السياسية والدبلوماسية الفلسطينية على الساحة الدولية، وبالتالي تصبح ذات جدوى في لعبة الأمم القوية. وفي هذه الحالة قد تلجأ المجموعة الدولية للتدخل أسرع وبفعالية، حينها تكون كل الشروط والأسس اللازمة لنجاح هذا التدخل موجودة على أرض الواقع وفي أطار مفاهيمي ملائم، ويصبح هذا التدخل حاسما لتوفير المزيد من الضمانات لجميع الأطراف بحماية حقوقها المتساوية وفقا للقانون الدولي ومبادئ حقوق الإنسان والأمم المتحدة. حذار من التجريب، أو الهروب من الأزمة الحالية إلى المؤسسات الدولية على طريقة رد الفعل المعتادة فلسطينيا وعربيا.
---------
*سالم ابو هواش: باحث وكاتب فلسطيني، ناشط في حركة العودة، رئيس سابق لمجلس ادارة مركز بديل.