في الوقت الذي تسن إسرائيل التشريعات، وترسم السياسات وتنفذ المشاريع التي تحكم من خلالها سيطرتها على المنطقة (ج)، وتدفع بسكانها الفلسطينيين إلى معازل أوسلو؛ أي ما صار يعرف بالمنطقتين (أ) و (ب)، نجد القوى السياسية، والسلطة الفلسطينية، والمجتمع المدني لا يملكون أكثر من رؤية ما يجري- وفي أحسن الأحوال يتباهون بمبادرات فردية متناثرة هنا وهناك، اقل من دفاعية، تفتقر لأبسط أسس النضال المنهجي القابل للمراكمة. ليس هذا جلدا للذات كما يحلو للبعض أن يسميه، ولا عماءً، أو دفنا للرأس في الرمل بحجة موازين القوى، والحالة العربية المتردية وهيمنة قوى الاستعمار...الخ من حقائق، بل هو محاولة للوقوف- ان لم يكن في وجه المستعمِر، فاقله للوقوف مع الذات.

ماذا لدينا، ليس لإنهاء استعمار فلسطين كي نوصف بالحالمين المتطرفين، بل حول المنطقة (ج) والتي من المفترض أنها الموضوع الأساس للتفاوض من وجهة نظر أنصار حل الدوليتين في حدود عام 1967- وباعتبارها ستشكل أكثر من 60% من الدولة العتيدة؟

طبعا، سنجد كثيرا من الإحصاءات حول المساحات المصادرة، والإنشاءات الاستيطانية والعسكرية، والمستعمرين المتزايدين، والفلسطينيين المهجرين، والحقوق والحريات المنتهكة... لكننا، لا زلنا في المربع صفر! نفاوض بلا مرجعية، نأمل في صحوة ضمير الاستعمار العالمي، نراهن على دورات الانتخابات الأمريكية والإسرائيلية، ننتظر قيام ساعة السند العربي، واتساع حركة تضامن شعوب العالم، ندين ما يجري، نوثقه ونرفعه في تقارير، ونهدد ما بين تارة وأخرى بالانسحاب، ولا ندري لاين. وعليه يبقى السؤال، هل هناك إستراتيجية فلسطينية لمقاومة التهجير والاستيطان أم كالعادة ما زلنا نركن إلى منطق قوة الحق بانتظار الفرج؟

التوصيف القانوني لجريمة نقل السكان سواء كجريمة حرب أو جريمة ضد الإنسانية غاية في الوضوح في وثائق القانون والقضاء الدوليين واجتهادات الفقهاء. فهي جريمة دولية سواء تمثلت في تهجير السكان قسرا من ديارهم، أو بغرس سكان من المستعمرين/المستوطنين في الأرض المحتلة، وطالما ارتكبت منهجيا أو كجزء من سياسة منهجية بهدف تغيير التركيبة الديمغرافية للإقليم، أو لجزء منه. ولا يشترط لاكتمال أركان الجريمة أن يكون النقل بفعل قسري مباشر، إذ يكفي أن تمتنع السلطة الفعلية القائمة عن منع التهجير أو الاستيطان، وهو ما قد يشكل إهمالا أو تواطؤا. وقد يكون الفعل بالتدخل الايجابي للسلطة الفعلية عبر سن التشريعات، توجيه القضاء أو التأثير فيه، وضع الخطط، توفير الدعم المالي، توظيف الإعلام لتشجيع استعمار المستوطنين للأرض المحتلة، أو رحيل السكان، حماية المستعمرين عسكريا وسياسيا، تجريد السكان من سبل العيش الكريم...الخ فالوسائل والإجراءات والأدوات، لا حصر لها.  

رغم أن الحالة الفلسطينية لم تكن مصدر الإلهام للمشرع الدولي او الفقه القانوني، إذ أن الجريمة وتوصيفها الأساسي قد سبقت نشوء القضية الفلسطينية، إلا أن انطباق الجريمة اسطع ما يكون في الواقع الفلسطيني. نقول اسطع ما يكون على المستوى العالمي لأربعة أسباب جلية:

الأول:ان جريمة نقل السكان في فلسطين تجمع ما بين الشكلين المتصورين في آن واحد؛ أي تهجير السكان وتوطين المستعمرين.

الثاني:أن الجريمة مستمرة منذ أكثر من ستة عقود،  فهي لم تقع وتتوقف في لحظة تاريخية محددة، إنما لا زالت تجري منهجيا - منذ النكبة على الأقل.

الثالث:أن نية ارتكاب الجريمة ليست ضمنية مستوحاة من الأفعال المرتكبة؛ بل معلن عنها بوضوح في تشريعات، وبرامج حكومية ووثائق رسمية يروج لها ويدافع عنها أصحابها بلا مواربة.

الرابع:أن وسائل وأدوات ارتكاب الجريمة بشكليها – التهجير والتوطين- فاقت ما قدمه القانون الدولي من أمثلة بحيث يمكن اعتبار الحالة الفلسطينية نموذجا يستدعي تطوير التشريعات الدولية بهذا الشأن.

لا يصعب تتبع منهجية التهجير وتوطين المستعمرين في التشريعات والسياسات والممارسات الإسرائيلية، كما لا يصعب الكشف عن السند الفكري- الأيدلوجي العنصري لمشروع استعمار فلسطين لجعلها وطنا قوميا لليهود. في المقابل، لا يصعب تأكيد اتفاق الفلسطينيين -على الأقل- على أن التهجير والتوطين الاحلالي مستمرين بلا انقطاع منذ النكبة. لكن المفارقة تبدو غريبة ومحبطة للغاية، ولا منطقية عند قراءة موقف وسلوك الضدين: الصهيوني – الإسرائيلي من جهة والفلسطيني من جهة ثانية. فبعد أكثر من ستة عقود من التهجير والاستعمار، والحرمان...الخ نرى المحتل المستعمر يملك إستراتيجية فعالة لتطبيق مشروعه الاستعماري اللاقانوني واللاخلاقي وللدفاع عنه بكل شراسة، في حين يقف صاحب الحق/الحقوق ليس مذهولا، عاجزا، مستسلما وحسب، بل وغير عارف لما عليه أن يفعل!

إذا كان لا بد من التفاوض في ظل موازين قوى مختلة بوضوح لمصلحة إسرائيل تحقيقا لأهداف براغماتية اضطرارية أو آنية، إذ انه من السخف الافتراض أن المعطيات ستقود إلى اتفاق يضمن الحقوق الوطنية تقرير المصير، العودة إلى الديار الأصلية، وإقامة الدولة المستقلة ذات السيادة الكاملة، فانه محض انتحار مواصلة نهج تجنب المواجهة. والمواجهة، ليس بالضرورة ان تكون مواجهة مسلحة. فقد تكون مثلا بتحدي نظام تصاريح البناء واستصلاح الأرضية المفروضة من قبل إسرائيل، بإبداع قوانين وخطط وبرامج فلسطينية – حتى وان ناقضت اوسلو- تشجع على التوجه للاستقرار في المنطقة (ج) او الاستثمار فيها. إن المضي في انتظار تصاريح الاحتلال يعني ببساطة انتظار الإذن منه لمقاومته. وغني عن القول أن هكذا نهج لا يقبل الهزيمة وحسب، بل يسعى لتعميمها؛ ربما ليقنع نفسه بان لا بديل، أو أملا بان يجد في التاريخ القادم من يبرر له فعله.

مما لا شك فيه أن سلام المستعمِر مع المستعمَر أو حتى انهزام الأخير هو في المحصلة نتاج موازين القوى، ولكن حتى الهزيمة أو الانكفاء - في نضالات الشعوب التحررية- لا بد أن تكون بكرامة، أو قل على الأقل لا تكون بمنح المنتصر- المستعمِر شرعية ممارسة التطهير العرقي للمنهزم.

هيئة التحرير