الخطاب الفلسطيني خلال وبعد الحرب على غزّة

بقلم: صلاح صلاح*

الحرب على قطاع غزة هذا العام 2014 ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، لكنها تختلف عن الحربين السابقتين بمجرياتها ونتائجها؛ هي ببساطة فاجأت الكيان الصهيوني بعناصر قوة جديدة تمتلكها قوى مقاومة اكتسبت خبرة وتكتيكات أرهقت العدو، ووحدة ميدانية بين جميع الفصائل المقاتلة، وجماهير حاضنة رغم ان الخسائر البشرية والمادية تؤلمها وتؤذيها الا انها تتحملها بصبر وثبات، تنعشها النشوة في مواجهة العدو والقدرة على تحدًيه. لم تكن حسابات العدو كالحربين السابقتين، إذ كان يرتكب جرائمه ضد أبناء غزة الراضخين لجبروته، ولم يكن أمامهم غير الصراخ ولملمة الجراح وتأبين الشهداء، وطلب النجدة من الجار الأقرب ليلعب دور الوسيط الذي ينقل الشروط الإسرائيلية للتوقيع. في الحرب الأخيرة الأمر اختلف، نُضرب ونَضرب، يرهبون أطفالنا ونساءنا فنرهبم، يضعون شروطهم والفلسطينيون أيضاً لهم شروطهم.

كل مراقب ومحلل واقعي وموضوعي يُدرك بأن العدوان على قطاع غزة قد أظهر ميزان قوة جديد فرض معادلة "الردع" في جنوب فلسطين كما هي في جنوب لبنان. نعرف أن العدو الإسرائيلي لن يقبل باستمرار الواقع المستجد، بالنسبة له، وسيعمل على تجريد الفلسطينيين من أوراق قوتهم، وتحديداً:

- الوحدة الفلسطينية؛ المتمثلة في الميدان، والوفد الموحد للمفاوضات في القاهرة، والمصالحة بين فتح وحماس.

- منذ اليوم الأول لوقف إطلاق النار استنفر العدو كل عملائه ونشًط أجهزة مخابراته لاكتشاف مخازن الأسلحة ومصانعها، لاختيار اللحظة المناسبة لقصفها وتدميرها، (إن نجح باكتشافها).

- يعرف العدو بأن أحد عناصر القوة الأساسية للمقاومة هو الشعب الحاضن والحامي والداعم، ولهذا كان استهدافه المباشر للمدنيين بلا تمييز؛ من تابع الإحداث اليومية لعمليات العدو لاحظ بوضوح أنها كانت حرب ضد المدنيين في منازلهم وأماكن لجوئهم وبيوت عبادتهم ومستشفياتهم، لا قيمة للحصانة الدولية ولا روادع أخلاقية وإنسانية.

بعد هذه الشهادة عن الحرب على قطاع غزة أسجل – بقوة – أنها الأعلى والأعنف والأكثر إيلاماً والأوضح إنجازاً وصموداً، لكنها امتداد لمواجهات سابقة مع العدو في القدس والخليل ومدن أخرى في الضفة، ومناطق 48، وفيها قدر له اعتباره من البطولة والتضحية والعنفوان. صدامات مع القوات والمستوطنين الصهاينة تحمل مؤشرات جدية لانتفاضة ثالثة، سقط فيها شهداء (حوالي عشرين) ونُسفت بيوت ناشطين، وأعتقل ما يزيد عن 1500 مناضل، مما يجيز الاعتقاد بأن أحد الأسباب التي سرًعت بالحرب على القطاع هو إجهاض إمكانية قيام انتفاضة ثالثة تشمل منطقة 48، وهذا هو الأخطر.

إن الربط بين الأحداث في هذه المواقع المختلفة بما فيها أماكن اللجوء (العراق، سوريا، لبنان) له قيمة كبيرة ويجب التأكيد عليه وإبراز قيمته، لعدة أسباب: 

  •  لدحض المقولة التي يروج لها دعاة الحل السياسي بأن الشعب الفلسطيني هو مواطنو السلطة (غزة، والضفة فقط)، فلسطينيو 48 هم إسرائيليون، واللاجئون تجري معالجة أمرهم في إطار "حل متفق عليه" ليس بالتمسك بحق العودة ولا الإصرار على تنفيذ القرار 194. 
  •  لرفض تكريس حالة الانقسام السياسي (فتح/حماس) التي تتحول إلى انقسام شعبي على أساس جغرافي (غزة / الضفة).
  • للإقرار بالأشكال المختلفة للمقاومة في مواجهة العدو الإسرائيلي والتي تتناسب مع ظروف وواقع كل تجمع فلسطيني؛  فرفض التهويد الذي يجري في القدس مقاومة، والحراك  الجماهيري والسياسي الذي يدلل على فشل مشروع الأسرلة  في الأراضي المحتلة عام  48 هو أيضاً مقاومة، والمظاهرات والاضطرابات والمواجهات بالألعاب النارية والمقاليع في الضفة الغربية مقاومة. لذلك، يجب رؤية التكامل بين أشكال المقاومة وليس الأخذ بشكل واحد وتقليل أهمية ما عداه. 


لم تظهر النظرة الشمولية في الخطاب السياسي للقيادات الفلسطينية التي تؤكد على وحدة الشعب الفلسطيني، وتتفهم الأساليب والأشكال المختلفة للمقاومة التي يمارسها كل تجمع فلسطيني يتوافق مع واقعه وظروفه المتباينة من مكان إلى آخر. ان كل اشكال المقاومة، ككل ابنءا العشب الفلسطيني في مختلف مواقعه، تتكامل وتستحق بالتالي القدر ذاته من الثناء والتبجيل والتقدير والوفاء الذي يستحقه الشعب الفلسطيني في قطاع غزة على صموده وتضحياته ومقاومته. إن مخزون البطولة والتضحية والفداء ظهرت مفاعيله في مناسبات لا تنسى للشعب الفلسطيني في اللجوء (الثورة) وللشعب الفلسطيني في الضفة الغربية (الانتفاضة). الانتماء مفخرة وعز وشرف لهذا الشعب بكل مكوناته وليس لجزء منه فقط.

أشير بحماس وتركيز حول هذه النقطة مدفوعاً بعاملين:

الأول: ما قرأته عن وسمعته من أصدقاء عزيزين يوجهون نقداً حاداً لغياب أو لضعف الحراك الشعبي أو فتح جبهات مقاومة ولو بحدها الأدنى، خاصة في الضفة الغربية. هذا النقد، في تقديري، ينقصه الأخذ بعين الاعتبار ثلاث نقاط:

  1. يجب ألا يعتمد المباهاة والمقارنة بينهم بما يمثلون من رمزية بطولية رائعة وغيرهم "المتخاذل" المستسلم لمصيره.  
  2.  نهج الاحتواء والتدجين التي تتبعه السلطة في الضفة الغربية، وصولاً إلى القمع على يد الاجهزة الامنية اذا لزم الامر. 
  3.  عدم وجود احتكاك يومي مباشر مع قوات العدو الإسرائيلي؛ وعندما يلحظ (العدو) أن المضايقات التي يقوم بها على الحواجز أو التدخلات للاعتقال أو مطاردة  مطلوبين قد تصل إلى لحظة انفجار فإنه يتراجع بشكل مؤقت.


الثاني:  تصريحات بعض القيادات الفلسطينية التي بالغت في حجم النتائج التي تحققت بفضل صمود شعبنا في غزة التي أفشلت العدو في تحقيق أهدافه في الحرب على القطاع. علق جليسي في الإستماع إلى خطاب أحد القيادات البارزين "إذن حرب تحرير فلسطين أصبحت على الأبواب"، وهذا يتناقض مع ما أشار له هذا القائد نفسه في أكثر من مناسبة حول قبوله بفكرة الدولة الفلسطينية على حدود 67، فإذا كنا على "طريق التحرير والعودة"، فلماذا إذن نقبل "من الناحية الشرعية مفاوضة  الاحتلال"؟

لذلك، يتوجب على القيادات التي تطرح نفسها مرجعية للشعب الفلسطيني أن تعطي القدر نفسه من الإجماع والتقدير لمكونات المجتمع الفلسطيني، ودور وتأثير وفعل كل منها في حرب التحرير بدون المبالغة في أهمية أحدهم وتجاهل الآخر. ان ما يجري ومنذ زمن في القدس كانت قد تداولته وسائل إعلام العدو وبعض قياداته على أنه انتفاضة ثالثة وإن كانت حدودها حتى الآن في شرق القدس والمنطقة المغتصبة عام 48، ولهذا يجهد لإنهائها بالقوة إن أستطاع، عن طريق إرسال الآلاف من رجال الشرطة وحرس الحدود إلى القدس الشرقية وإنشاء قيادة خاصة لمكافحة التظاهرات، ودائرة إدعاء وتحقيق من أجل إصدار أحكام قاسية وبسرعة ضد الناشطين والتهديد بسحب الجنسية ممن سيشاركون في الانتفاضة من مناطق 48. في المقابل هنالك من القيادات الفلسطينية التي تبخًس بنضالات الشعب وتدين تضحياته ومواقفه البطولية وعملياته الجريئة والشجاعة في غزة كما في القدس.

إن المجتمع الشعبي والمدني في القدس والضفة وأراضي 48 يعبًر عن نفسه بالممارسة، ويعكس موقفه بالفعل الميداني من خلال المواجهة المباشرة مع العدو، على طريقته وبالوسائط التي يمتلكها. فهو يقاوم بأعز وأثمن ما يملك، ويأخذ مبادرات تتجاوز قياداته. 

أصدرت القوى الوطنية والإسلامية الفلسطينية قبل حوالي أسبوعين من وقوع عملية المدرسة الدينية بياناً دعت فيه إلى "تنظيم الجهود وتوحيدها، والعمل وفق خطة وطنية محددة لمواجهة ما تتعرض له القدس المحتلة والمسجد الأقصى من عدوان وتهويد متواصلين."، كما وطالبت "بمواجهة شاملة للاستيطان المتسارع في كل أنحاء الضفة، وتشكيل اللجان الوطنية والشعبية في كل موقع يتعرض للاستيطان بهدف الدفاع عن الأرض." إن هذا الإطار الوحدوي الجامع للقوى الوطنية والإسلامية أمامه فرصة تاريخية بأن يجعل التطورات والأحداث الجارية في القدس مجالاً لإثبات قوة وأهمية العمل المشترك، ووضع ثقل جماعي في تعزيز ودعم المقاومة بأشكالها وأدواتها المتبعة من قبل المبادرات الشابة في القدس. وليكن هذا اللقاء للقوى الوطنية والإسلامية غطاءً لإطار موازٍ في القدس يقود العمل الميداني (كما حصل في غزة)، ويضمن إستمراريتها ويمكنها من وضع شروطها للحد من سياسة تهويد القدس والاعتداء على المقدسات الإسلامية والمسيحية ومحاولة تقسيم المسجد الأقصى زمانياً ومكانياً. ولا مانع من أن تستفيد هذه القيادة الوطنية والإسلامية الموحدة من تفاعلات الحرب على غزة، وما يجري الآن في القدس لتحريك الشارع الفلسطيني وتفعيل القوى الناشطة واللجان الشعبية في الضفة الغربية للتصدي للمستوطنين وقوات الاحتلال والدفاع عن الأرض، بهذا يحدث التكامل بين مكونات الشعب الفلسطيني وأشكال المقاومة التي يمارسها في كل موقع.

الإجماع على أهمية الوحدة الميدانية بين قوى المقاومة الفلسطينية في مواجهة العدو الإسرائيلي نتج عنه تشكيل الوفد الفلسطيني الموحد للمفاوضات غير المباشرة في القاهرة للتوصل إلى وقف إطلاق النار، معطوفاً هذا على المصالحة التي كانت قد تمت بين فتح وحماس وأدت إلى تشكيل حكومة الوفاق الوطني،  الأمر الذي عزز ثقة الجماهير وزاد من عمق ارتباطها بالمقاومة واحتضانها لها، على أمل أن تتوسع هذه الصيغة التي فرضتها الحرب لتشمل بعدها كل الفصائل والقوى الأخرى لتعلن قيام وحدة وطنية على أرضية برنامج مشترك. لكن الأمور سارت باتجاهات معاكسة تماماً، فما أن انتهت الحرب على قطاع غزة حتى بدأت تظهر التباينات والخلافات من الخطب والبيانات والممارسات لبعض القيادات الفلسطينية، والتي يمكن أن أوجزها في ثلاثة اتجاهات:

الإتجاه الأول: إنفراد حماس بإقامة الاحتفالات والمسيرات إحتفاءً "بالنصر" من ناحية، والمبالغة في الحديث عما حققته المقاومة من جهة، والاحتضان الشعبي الواسع الذي حظيت به من جهة ثانية، والآمال الواثقة بإعادة الإعمار والتعويض عن كل شيء من ناحية ثالثة. تناوب إسماعيل هنية وخالد مشعل على الخطابات وكلاهما يتحدث بنفس الوتيرة المتفائلة "بالتحرير الشامل" "ليس للقدس فقط بل لفلسطين والقدس". صحيح هذا سيتم حتماً، لكن متى؟  وما هي أداة التحرير؟ إن الجواب على هذا التساؤل بسيط حيث أن "التحرير والعودة " لن تتم بالسرعة التي توهمنا بها الخطابات، وهذه ليست مهمة أي فصيل منفرداً مهما تعاظمت قوته، وكما أثبتت تجربة الثورات الفلسطينية فإنه من الواجب وضع إستراتيجية عربية متكاملة يلعب فيها الفلسطينيون الدور الطليعي.

على هذا النهج ان يعرف الفرق بين الرغبة والقدرة على تنفيذ الخطابات، ان الجزم "وقد بدأنا الإعمار والإيواء، وسنعوضكم عن كل ما فقدتم" هذه رغبة مطلوبة بإلحاح ومقدًرة من كل متضرر بل من كل فلسطيني، لكن هل يمكن تحقيقها؟ هل الـ 4،5 مليارات دولار التي تبرعت بها الدول المانحة في القاهرة لإعادة إعمار غزة سيتم صرفها؟ إن تجارب الحروب السابقة على غزة ولبنان والوعود المشابهة التي أعطيت وبقيت "حبراً على ورق" تجعل من المشكوك به تنفيذ القرار الدولي، إضافة إلى الشروط العديدة التي وضعتها أطراف عدة والتي تربط شرط إدخال مواد الأعمار بوضع آلية للرقابة على المواد من مكان خروجها حتى تسليمها للجهة المستفيدة، مع ضمان عدم استخدام المواد لغير إعادة الأعمار للبيوت والمؤسسات او كما يقال "لأعادة إعمار غزة فوق الأرض وليس تحتها". الأهم هو ما تطرحه بعض الدول المانحة، خاصة الولايات المتحدة الأميركية، بمطالبتها ضمانات ألا تتكرر الحرب ويهدم ما أعيد بناؤه وهذا يعني دعوة لإعادة المفاوضات.

قرأت لبعض المحللين تقديرهم بأن العدو الإسرائيلي له مصلحة بإعادة الأعمار، لكن تقديري أن هذا يستوجب معركة- ليست حماس وحدها - بل معركة تتضافر فيها كل الجهود لفرض الأعمار. من الواضح من خلال خطابات قادة حماس وسلوكهم بأنهم لم يستخلصوا الدرس الهام "الوحدة والعمل المشترك"، ويصرون على استمرار نهجهم بالتفرد والسيطرة على القطاع، والتصدي لمهمات تفوق قدراتهم مهما بلغت، وبذلك يساهمون بتكريس الانقسام.

الاتجاه الثاني: عُبًر عنه من خلال الخطابات والمقابلات مع قيادة الجبهة الشعبية أبو أحمد فؤاد/ ماهر الطاهر/ جميل مزهر) وقيادة الجهاد الإسلامي (رمضان شلح / زياد نخالة) الذين قدموا طروحات أكثر تواضعاً وموضوعية في قراءة الحرب على غزة ونتائجها. يُشهد للتنظيمين بأن أجنحتهما العسكرية كانت قد ساهمت بفاعلية في مواجهة العدوان الإسرائيلي ودحره وإفشال مخططه، ويرون أن المقاومة بجميع أجنحتها ساهمت في تحقيق "إنجاز" حقيقي أثبت أن "الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة هي الرقم الصعب والمركزي في هذه المنطقة" حسب قول شلًح، وخشي، بحق، "أن لا يستوعب المشروع الوطني أو يهضم إنجازات أو إيجابيات المعركة، ومواجهة تحديات ما بعدها".

يدين قادة الجبهة إعادة أجواء الانقسام وتراشق الاتهامات بين فتح وحماس ويدعون إلى ضرورة الإسراع لعقد اجتماع للقيادة المؤقتة لمنظمة التحرير الفلسطينية لمواجهة مهمات المرحلة الجديدة التي ولدتها الحرب على الصعيدين الفلسطيني والعربي. ويتقاطع مع هذا الإتجاه مروان برغوثي في الكلمة التي وجهها من سجنه، بالذكرى العاشرة لاستشهاد ياسر عرفات؛ وفيها تأكيد على الوحدة الوطنية، إعادة الاعتبار لخيار المقاومة، إعادة النظر في وظائف السلطة ومهماتها؛ الوقف الفوري للتنسيق الأمني، الالتحاق بمحكمة الجنايات الدولية، إجراء حوار إستراتيجي لبلورة رؤيا إستراتيجية فلسطينية موحدة تمهيداً لإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية لعضوية المجلس الوطني الفلسطيني.

الأتجاه الثالث؛ وهو الاتجاه الذي يمثله الرئيس أبو مازن ويترك الكثير من اللبس والتساؤل، والذي ظهر في التلكؤ في التحرك حول ما يجري في غزة، وعندما قرر القيام بعمل ما، أخذ بالمبادرة المصرية التي رفضتها جميع الفصائل، ما اضطره إلى إحداث توازن في حركته السياسية الى مصر وتركيا والبحرين وإجراء لقاءات مع قادة حماس والجهاد. وألقى خطاباً مع القيادة الفلسطينية في 22/7/2014 يؤكد فيه على الوحدة الوطنية، ملاحقة كل مرتكبي الجرائم ضد شعبنا،  وأن لا سلام إلا بعد أن ينعم أطفالنا بالسلام. يحاول اللقاء مع مطالب القيادة في غزة ورديفها الوفد الموحد في القاهرة،  لكن حركة التوازن هذه لم تدم فظهر تناقض حاد في مواقف أبو مازن، أبرزها:

خطابه في الأمم المتحدة؛ حيث طرح وصفاً في غاية الدقة والوضوح لسياسة إسرائيل من حيث "ممارسة التطهير العرقي بحق المواطنين الفلسطينيين" وهي " تصب في المحصلة في إضعاف السلطة الوطنية الفلسطينية وإفشالها للقيام بمهامها ووظائفها وتنفيذ التزاماتها وهو ما يهدد بتقويض وجودها وبانهيارها." ويضيف "قراءة واحدة لما يجري تقود إلى نتيجة واحدة هي أن الحكومة الإسرائيلية ترفض حل الدولتين". ويستكمل "وقد شهدت السنوات الأخيرة تسارعاً وتكثيفاً ممنهجاً للخطوات الإسرائيلية الهادفة لتفريغ اتفاق أوسلو من محتواه ولبناء وقائع على الأرض الفلسطينية المحتلة تجعل من تنفيذه أمراً بالغ الصعوبة إن لم يكن مستحيلاً"، وأن الخارطة النهائية "معازل فلسطينية صغيرة محاصرة بالكتل الاستيطانية الضخمة وبالجدران والحواجز والمناطق الأمنية الواسعة والطرق المخصصة للمستوطنين، وستكون بالتالي خاضعة للهيمنة الكاملة لاحتلال عسكري استيطاني يُعاد إنتاجه بمسميات جديدة كالخطة أحادية الجانب لإقامة ما يسمى الدولة ذات الحدود المؤقتة." ويجزم أبو مازن في خطابه أمام كل العالم "أن إسرائيل ترفض إنهاء الاحتلال، وترفض أن يحصل الشعب الفلسطيني على حريته واستقلاله، وترفض قيام دولة فلسطينية".

خطاب  ما كان ممكناً أن يقدم أعتى المعارضين أدق منه في تشخيص ووصف السياسة الإسرائيلية تجاه فلسطين وشعبها، مما يستوجب مواجهتها بنهج جديد ورؤية إستراتيجية جديدة، لكن الرئيس، ورغم كل ما قاله أعلاه وأكثر يصر على المراوحة في نفس المكان والرهان على الحل السياسي "رغم الغضب، وبدون تردد، إننا متمسكون بهدف السلام وبالشرعية الدولية وبمواثيقها وقراراتها قدر تمسكنا بحقوقنا الوطنية الثابتة، ومتمسكون بنبذ العنف ورفض الإرهاب بجميع أشكاله خاصة إرهاب الدولة." ورغم كل الحقائق التي ذكرها، لا زال مقتنعاً أن "صنع السلام يتم عبر المفاوضات بين منظمة التحرير وإسرائيل." أثار الخطاب ردود فعل من قبل الفصائل الفلسطينية، حيث أشارت حماس في بيان لها على الجزيرة نت إلى "تناقض خطير بين المقدمات العاطفية التي قدمها عباس لتشخيص المأساة الفلسطينية والتي نالت تعاطف العالم وبين النتائج التي خلص إليها." ودعت إلى "وضع إستراتيجية وطنية فلسطينية قائمة على نزع الشرعية عن الكيان الصهيوني، ومقاومة الاحتلال وتحرير الأرض وعودة اللاجئين وتقرير المصير."

وقد إنتقد الجهاد الإسلامي بلسان زياد نخاله الخطاب ووصفه بأنه "عاطفي بامتياز" واثقاً أن "المستقبل للشعب الفلسطيني؛ لأنه صاحب الحق ولا يمكن أن يتنازل عنه رغم كل الحرارة التي قوبل بها عباس." وقد إعتبرت الجبهة الشعبية هذا الخطاب بأنه "خطوة نحو مرحلة جديدة"، وطالبت الرئيس عباس باتخاذ "خطوة إنعطافية نحو مرحلة سياسية جديدة تقوم على مراجعة جذرية لمسيرة أوسلو ومغادرة نهج المفاوضات والحلول الثنائية بالمرجعية الانفرادية الأميركية، والعودة بملف القضية الوطنية برمتها إلى الشرعية الدولية – إطاراً ومرجعية وقرارات – كجزء من إستراتيجية كفاحية اجتماعية جديدة".

إن ما طرحه الرئيس أبو مازن من مواقف في أكثر من مناسبة بالتقليل من أهمية الإنجاز الذي حققته المقاومة الفلسطينية وصمود الشعب الفلسطيني في القطاع كان قد عكر صفو المصالحة وأعاد تبادل التهم بين فتح وحماس، وقد عبر الرئيس أبو مازن في مقابلته مع احد المحطات الفضائية بعد وقف إطلاق النار أن "المأساة التي وقعنا بها ووقع فيها أهل غزة أن نقول هذه شروطنا، وكان لازم منذ البداية أن تتم الموافقة على المبادرة المصرية، لم يختلف ما تم التوصل إليه مع ما سبق وطلبناه من مصر ولا يوجد أي فرق سوى أننا خسرنا ما خسرناه، وتعذبنا ما تعذبناه." 

وكان قبل ذلك، في مقابلة مع الإعلامي ناصر اللحام، وفي أوج شعور الناس بالاعتزاز بقدرتهم على الصمود والتحدي غير مبالين بخسائرهم، توجه الرئيس بخطاب مُحبط بقوله: "لا يهمني من أطلق الشرارة، اتصالاتنا لوقف النار أولاً. لا يهمني من يربح ومن يخسر... موازين القوى العسكرية مش معنا". ويضيف: "خليهم هم يظلوا يعتدوا ونحن فقط ندافع عن أنفسنا بالقانون الدولي لا أكثر ولا أقل". ويكرر موقفه المعروف "ما في حل غير الحل السياسي." وهنا أُستعين بقول لأبي مازن للرد على إبي مازن بفقرة مختصرة قالعا في نفس اللقاء: "تقول أميركا أن الأستيطان غير شرعي، و 12 قرار من الأمم المتحدة أن الاستيطان غير شرعي، وبعدين؟". فعلا وبعدين؟! 

إرتفعت وتيرة التوتر عند النائب يحيى العبادسة من حماس ليطالب "بإسقاط الرئيس عباس وهذه أولوية كبرى لإنقاذ المشروع الوطني الفلسطيني." ويرد عليه عساف/ فتح "بأنها (حماس) هي التي فقدت شرعيتها" كلاهما يخرج عن جوهر المشكلة؛ ليست مشكلة فرد بعينه ولا تنظيم محدد، هي مشكلة  بنيوية وسياسية تطال جميع الفصائل والفعاليات الفلسطينية، وتمس جوهر المشروع الوطني، وهذه لن تُحل إلا بالحوار الشامل، وبمشاركة جميع الأطراف المكوًنة لحركة التحرر الفلسطينية، حوار يبدأ بمراجعة موضوعية ومسؤولة لمسيرة المقاومة منذ تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية – على الأقل – وينتهي بوضع رؤية إستراتيجية جديدة للصراع مع الكيان الصهيوني، آخذة بالاعتبار كل المراحل والتطورات والمستجدات.  

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 
* صلاح صلاح: لاجئ فلسطيني من قرية غوير ابو شوشة قضاء طبريا، رئيس لجنة اللاجئين في عضو المجلس الوطني الفلسطيني.