اللاجئون الفلسطينيون في سوريا: الواقع والتحولات والاحتمالات

بقلم: معتصم حمادة*

انعكست الأزمة السورية على الحالة الفلسطينية داخل سوريا، بتجليات مختلفة سياسية واجتماعية واقتصادية وإنسانية وثقافية. ما زالت تداعيات الازمة، تفعل في الجسم الفلسطيني، في تطور، يؤكد يوماً بعد يوم، مدى التشابك بين الحالتين الفلسطينية والسورية، وصعوبة معالجة الحالة الفلسطينية في سوريا، وإخراجها من دائرة التأثر بالأزمة السورية، إلا عند الوصول إلى حل دائم لهذه الأزمة، أو لبعض عناصرها، في هذه المنطقة أو تلك.

على الصعيد السياسي، برزت هشاشة الحالة السياسية الفلسطينية في سوريا، وافتقارها إلى موقف موحد، يمكنها من إدارة سياسة تساعد في تخفيف أعباء الأزمة وتداعياتها عن كاهل الحالة الشعبية الفلسطينية. لقد انقسمت الحالة السياسية، ممثلة في الفصائل إلى ثلاثة إتجاهات: 

الاتجاه الأول، مثلته فصائل التحالف الوطني الفلسطيني، بدعوتها إلى الانخراط في القتال إلى جانب الدولة السورية، ضد معارضيها، بما في ذلك تجنيد الشبان والمتطوعين الفلسطينيين داخل المخيمات، وتشكيل ما يسمى باللجان الشعبية تحت شعار الدفاع عن المخيمات ضد مسلحي المعارضة. تم ذلك بالتنسيق التام مع الأجهزة الأمنية المعنية، ومباركتها، فبدا وكأن هذه الفصائل، تولت، عبر أعداد قليلة من المسلحين، وبأسلحة فردية وخفيفة، تغطية مناطق المخيمات على التماس مع مناطق المسلحين، كما هو الحال في مخيمات اليرموك، وسبينة، وتجمع حجيرة، وخان دنون، وخان الشيح.

الاتجاه الثاني، مثلته حركة حماس، التي أعلنت انحيازها إلى جانب حلفائها في حركة الإخوان المسلمين. تمثل ذلك في مغادرة قيادة الحركة لدمشق نحو عواصم عربية أخرى، وانخراط عناصر من حماس في المعارك المسلحة ضد الجيش السوري واللجان الشعبية، وصولاً إلى بناء تشكيلات عسكرية معارضة من الفلسطينيين، على غرار “أكناف بيت المقدس” في مخيم اليرموك لاحقاً، والتي تولى قيادتها كوادر من حركة حماس بشكل مكشوف ومعلن.

الاتجاه الثالث، مثلته فصائل م.ت.ف في تبنيها سياسة تحييد الحالة الفلسطينية، والمخيمات في سوريا، والحفاظ عليها خالية من السلاح والمسلحين، ومناطق أمن وأمان لسكانها، وللنازحين إليها من مناطق الجوار، وحمايتهم، وتأمين مستلزماتهم الإغاثية، في تأكيد على الروح القومية التي يتحلى بها الشعب الفلسطيني، واعترافه بالعرفان والجميل لما قدمه له الشعب السوري، دون تمييز بين اتجاه معارض أو موالي للنظام والدولة. 

هنا نفتح مزدوجين لنقول أن فصائل م.ت.ف تأخرت، للأسف، إلى حين بلورت سياسة موحدة إزاء مسألة السلاح والمسلحين، ولا نذيع سراً في أن البعض تردد في حسم موقفه، في محاولة لبناء موقف وسطي، كالقول: "السلاح في المخيمات لضبط أمنها الداخلي". خاصة في ظل انهيار المنظومة الأمنية لمخافر الشرطة، وشل قدرتها على أداء وظائفها. هذا التردد استمر إلى أن حصلت نكبة مخيم اليرموك، في 17 كانون الأوّل 2012. وقد أوضحت، لمن أراد التوضيح, مدى خطورة الزج بالحالة الفلسطينية في الأزمة السورية، وأكدت مدى فداحة الخسارة التي تكبدها الفلسطينيون ثمناً لمثل هذه السياسة المتهورة.

لا بد من التأكيد هنا أيضاً، أن الخط الثالث، إذا جاز التعبير، الذي يمثل الدعوة إلى تحييد المخيمات والحالة الفلسطينية في سوريا، وجد صعوبة في شق طريقه في ظل قعقعة السلاح في سوريا، وفي ظل الرهانات المتسرعة على احتمال انهيار وشيك للنظام والدولة في سوريا، وما أحدثته هذه الرهانات من أجواء في صفوف الفلسطينيين، وصلت إلى حد تبرير الموقف بسلسلة من التحليلات السياسية. بعضها يدعو إلى دعم الدولة وفاء من الشعب الفلسطيني لما قدمته له من خدمات وحسن ضيافة على مدى سنوات اللجوء، وباعتبارها عنصراً رئيساً في محور "المقاومة والممانعة". والبعض الآخر يدعو إلى دعم المعارضة المسلحة وفاء منه للشعب السوري، الذي احتضن الشعب الفلسطيني، ومن موقع الانحياز للربيع العربي وللحراك الشعبي في نضاله من أجل حقوقه في الديمقراطية والكرامة الوطنية. 

ولعل الحالة الفلسطينية لم تحسم أمرها في سوريا حتى الآن، وما يؤكد ذلك ما شهدته من فوضى سياسية في مطلع شهر نيسان 2015 عند دخول داعش إلى اليرموك.

أصيبت مخيمات أخرى بنكبات مماثلة قبل نكبة اليرموك، منها مثلاً مخيم درعا، الذي غادره سكانه بشكل نهائي بعدما تعرض للقصف بمختلف صنوف الأسلحة في ظل المعارك التي دارت في المدينة، والمناطق المجاورة. وكذلك مخيم سبينة قرب دمشق الذي استولى عليه المسلحون، ثم استعادته الدولة السورية، ومازال حتى الآن خالياً من السكان تماماً، لوقوعه في منطقة عسكرية مغلقة من قبل الدولة. ومخيم الرمل، في اللاذقية، الذي شهد اشتباكات ساخنة خلال فترة معنية ألحقت به أضراراَ جسيمة. والشيء نفسه ينطبق على مخيم خان الشيح، الذي غادره معظم سكانه لوقوعه في منطقة ساخنة. وما زال مخيم خان دنون جنوبي دمشق معرضاً للرحيل إذا ما امتدت إليه نيران الاقتتال. كذلك، لا يمكن أن نتجاهل آلاف اللاجئين الفلسطينيين الذين هجروا من منازلهم في مدن جوبر، دوما، حرستا، المليحة، حجيرة، داريا، الحجر الأسود، والقدم. أما في الشمال، فقد شهد مخيم حندرات نزوحاً كاملاً من السكان، لوقوعه في مناطق اشتباكات، بينما الخطر ما زال يحيط بمخيم النيرب في ظل الوضع العام في حلب عاصمة الشمال؛ مع التذكير بالنكبات التي لحقت بآلاف الفلسطينيين من سكان المدينة.

هذه النكبات مجتمعة، لم تترك أثراً في الجسم الفلسطيني بالقدر الذي فعلته نكبة اليرموك. ففي ظل الاستقرار (النسبي) الذي عاشه اليرموك، توفرت القدرة السياسية والمادية على إغاثة اللاجئين الفلسطينيين النازحين من مناطق الاشتباكات والقتال. إذ بقي اليرموك ملجأ للجميع، وكذلك مخيم حماة وحمص في وسط سوريا. لذلك شهد اليرموك، في الأيام الأخيرة، قبل نزوحه، كثافة سكانية غير معهودة، وشهدت مدارسه ومساجده ومستودعاته وحدائقه اكتظاظاً بالنازحين، الذين لم تتوفر لهم مساكن لدى أقاربهم أو معارفهم. تدفق إليه اللاجئون من كل مكان، خاصة وقد نشطت فيه مجموعات المتطوعين لتوفير الإغاثة للمحتاجين. 

يمكن القول بأن نكبة اليرموك شكّلت مفصلاً في مسار الحالة الفلسطينية في سوريا. 

اليرموك، كما هو معروف، ليس مجرد مخيم، بل هو كذلك القلب النابض للوجود الفلسطيني في سوريا.(دون أن يقلل هذا من قيمة وفعالية باقي المخيمات). فيه كانت تتمركز مراكز النشاط والفعل السياسي والاجتماعي والثقافي الفلسطيني. وفيه كانت تتمركز النخب من الفئات الوسطى من أطباء ومهندسين ومقاولين ورجال أعمال وصيادلة وصاغة ومثقفين وأكاديميين. كما كان اليرموك يشكل نقطة مركزية لامتداداته المجاورة من الفلسطينيين في الحجر الأسود، وحي التضامن، وبلدات ببيلا ويلدا، ودف الشوك والزاهرة وحي الميدان. وبالتالي كان يتجاوز حدوده كمخيم للاجئين ليشكل محوراً مركزياً في حياة الوجود الفلسطيني في سوريا. لذلك، لا غرابة أن يؤرخ للوجود الفلسطيني في سوريا، في هذه الفترة (ما بعد 17 كانون الأوّل 2012) بأنها مرحلة جديدة في حياة الفلسطينيين، تختلف عما سبقها من مراحل، فيها أصاب التشرد والنزوح حوالي 60% من اللاجئين (ما لا يقل عن 300 ألف لاجىء) فقدوا منازلهم ومآويهم، ومصادر رزقهم وأملاكهم، وكثيرون فقدوا رأسمالهم ومدخراتهم كاملة، ويقلقهم كثيراً سؤال المستقبل إلى جانب سؤال الحاضر، خاصة في ظل ضبابية ترخي بظلالها على الوضع ولا تؤشر لحلول قريبة، بل لا تؤشر حتى لحلول آنية حتى للقضايا اليومية المباشرة، فيما يخص الاحتياجات المعيشية للاجئين النازحين المشردين عن مخيماتهم وأماكن سكناهم. 

كشفت نكبة اليرموك هشاشة المجتمع المدني الفلسطيني، وتبين أنه مجتمع عارٍ من عناصر الصمود والثبات الاجتماعي. 

فالاتحادات الشعبية الفلسطينية، كاتحاد العمال، والمرأة، والمعلمين، والأطباء، والصيادلة، والمحاميين، وغيرهم، تبين أنها مجرد واجهات سياسية، لا تملك أطراً أو هيئات منظمة، غابت عن الوجود، وعن أي فعل للحد من تأثير النكبة على الحالة الفلسطينية. لم تتميز هذه الهيئات والأطر عن الحالة الشعبية العامة، لا في تماسكها، ولا في قدرتها على الفعل للحد من المأساة. 

كذلك تبين أن الحالة الفلسطينية في سوريا، تفتقر إلى المؤسسات الأهلية، في ميادين العمل الاجتماعي المختلفة، الإغاثي والطبي، والتربوي والاجتماعي، وغيرها. ولهذا الأمر أسبابه، تتمثل أولاً في طبيعة النظام السياسي في سوريا، الذي لا يتيح بناء مثل هذه المؤسسات، لا على الصعيد السوري، (ما عدا الاتحادات الوطنية السورية كالعمال والمرأة والطلاب وغيرها) ولا على الصعيد الفلسطيني. فما ينطبق على السوري ينطبق بالضرورة على الفلسطيني، وقد لعبت الدولة السورية بمؤسساتها دوراً في تغييب الحاجة إلى مثل هذه المؤسسات، من خلال الخدمات التي كانت توفرها للحالة الشعبية، السورية والفلسطينية على السواء. 

لذلك يمكن القول أن انتفاء المنظمات الأهلية الفلسطينية في سوريا، يتعدى الجانب القانوني، في ظل عدم الإحساس بالحاجة إلى مثل هذه المؤسسات. فالتعليم للفلسطينيين مجاني، منذ سنواته الأولى، وحتى مراحله العليا. وهذا ينطبق على العلاج والاستشفاء، اذ يتمتع اللاجئ الفلسطيني بذات الحقوق الاجتماعية والمدنية التي يتمتع بها المواطن السوري، بما في ذلك حق الوظيفة في المؤسسات الرسمية، وحق العمل، والتملك، ما عدا الجانب السياسي، كالترشح والانتخاب. نكبة المخيم، وانهيار المؤسسات الخدمية السورية، كشف هشاشة المجتمع المدني، وهشاشة قدرته على النهوض مرة أخرى بالاعتماد على الذات. 

لذلك تحول النزوح خارج سوريا، إلى الحل “الأمثل” لمواجهة النكبة. ففي الجنوب جرت الهجرة إلى الأردن، وفي الشمال إلى تركيا، وفي الوسط والغرب إلى لبنان، كمحطة انتقالية للهجرة إلى أوروبا وإلى الخارج عموماً. لذلك، يمكن الحديث عن أكثر من 300 ألف نازح فلسطيني من سوريا، داخل البلاد وخارجها. منهم ما لا يقل عن 45 ألفاً في لبنان، وما لا يقل عن 75 ألفاً في الخارج (أوروبا ـ مصر ـ الجزائر ـ غزة ـ الخ...). ولعل ما شجع اللاجئين الفلسطينيين على النزوح إلى لبنان، تلك الوفرة من المؤسسات الاجتماعية، التي أغدقت على النازحين بالمساعدات العينية والمالية. ولولا الإجراءات الرسمية اللبنانية التي حدت من حركة النزوح الفلسطيني إلى لبنان، لارتفع عدد النازحين في هذا البلد الصغير أضعافاً مضاعفة.

وحدها وكالة الغوث (الانروا) لعبت دوراً ملموساً ومهماً في إغاثة النازحين من اللاجئين الفلسطينيين، دون أن يعفينا ذلك من القول أن هذه المساعدات الإغاثية، على أهميتها، لم تشكل حلاً كافياً لمسألة النزوح وافتقاد المأوى ومصدر الرزق والأملاك. فالوكالة، وتحت سقف دعم المانحين، تقدم للاجئين في سوريا (دون استثناء ودون تمييز بين نازح ومستقر) مساعدات دورية، عينية (مواد غذائية) ومالية. وهي مثابرة على ذلك، ويمكن القول إن مساعدات الوكالة تشكل القسم الأهم مما يتلقاه اللاجئون من إغاثة. 

أمّا م.ت.ف، فلم تقدم للاجئين، خلال أربع سنوات من الأزمة السورية سوى مساعدة لمرة واحدة لم تتجاوز العشرة دولارات للشخص الواحد، وهي مساعدة هزيلة، ومثيرة للخيبة، أثارت سخط اللاجئين، وحفرت هوة بينهم وبين المنظمة وفصائلها. 

في الأول من نيسان 2015، اجتاح مسلحو داعش مخيم اليرموك بالتواطؤ مع مقاتلي جبهة النصرة. ودارت اشتباكات بينهم وبين “أكناف بيت المقدس”، قبل أيام قليلة من لقاء كان سيعقد بين “الأكناف”، والدولة السورية، وممثلين عن م.ت.ف للوصول إلى اتفاق هدنة، يمكن من خلاله إحداث انفراجة في أوضاع المخيم الذي ما زال يسكنه حوالي 18 ألف لاجئ (من أصل حوالي 160 ألفاً). وقد اعتبرت هجمة داعش محاولة لإحباط الاتفاق، حتى لا تحاصر داعش في الحجر الأسود، معقلها الرئيس. 

في ظل الهجمة إنفرط عقد “الأكناف”، بعضهم فرّ مع عائلته إلى المناطق المجاورة، وبعضهم الآخر التحق بداعش، والبعض الثالث التحق باللجان الشعبية المشكلة من أطراف التحالف الفلسطيني المتواجدة عند مدخل المخيم (القيادة العامة، الصاعقة، الانتفاضة، النضال (عبد المجيد)..). وبالتالي انقسم المخيم، تحت سيطرة ثلاثة أطراف هي جبهة النصرة، داعش، واللجان الشعبية، وشهد اشتباكات، وعمليات قصف جوي، أدت إلى إلحاق المزيد من الإضرار به، وهو الذي تعرضت منازله، على مدار الأشهر الماضية إلى نهب شامل لمحتوياتها على أيدي المسلحين، وانهارت بنايات كاملة بفعل الأعمال الحربية، حتى أن أحياء كاملة، كحي الفدائيين في المخيم (وهو أساس المخيم القديم) قد دمر كاملاً، بفعل الاشتباكات التي دارت فيه. 

حادثة اجتياح المخيم من قبل داعش، كشفت مرة أخرى هشاشة الحالة السياسية الفلسطينية، وافتقار الفلسطينيين في سوريا إلى مرجعية سياسية تدير شؤونهم وتتخذ القرارات الصائبة. 

بعض الأطراف سارع إلى الدعوة إلى ما أسماه “فتح ممر أمن” لإخراج السكان من المخيم، متعامياً عن خطورة ذلك، لأن من يخرج لا يعود، فضلاً عن أن مخيماً بلا سكان، هو العنوان الأكثر ملاءمة لتدميره عن بكرة أبيه. وبدلاً من الحديث عن إنسحاب المسلحين، وعودة اللاجئين، صار الحديث يدور عن إخراج السكان. المفارقة أن السكان رفضوا هذا الحل، وتمسكوا بمنازلهم، ولم يغادر المخيم أكثر من 50 شخصاً، في أحسن الأحوال، هم عائلات لعناصر في “الأكناف”، التحقت باللجان الشعبية. 

زيارة أحمد مجدلاني إلى سوريا، ممثلاً عن القيادة الفلسطينية أثارت هي الأخرى “عاصفة من الفوضى والتخبط”. فقد سارع إلى الإعلان عن وقف الحوار مع المسلحين، ووقف إجراءات المصالحة، ودعا إلى تحضير القوى العسكرية لاستعادة المخيم من داعش. وهو ما أثار هيجان لدى التيارات الفلسطينية الداعية للانخراط في القتال، كما صدرت عن بعض قيادات في فصائل م.ت.ف تصريحات مماثلة رأت في الحل العسكري، السبيل الوحيد لاستعادة المخيم، ودعت إلى إخراج السكان من المخيم (بذريعة “فترة مؤقتة”)، لتطهير المخيم من المسلحين ثم بعدها يعود سكانه إليه. 

أطراف أخرى رفضت مثل هذه السياسة لإدراكها أن الأمور لا يتم تقريرها في الاجتماعات الفلسطينية بل في غرفة عمليات الجيش السوري، المسؤول عن إدارة المعارك في البلد. فضلاً عن ذلك فإن الفصائل الفلسطينية الناشطة في سوريا لا تملك بنية قتالية (لأسباب موضوعية)، إضافة إلى أن هذه الخطوة ستفتح الباب للزج بالحالة الفلسطينية في أتون الأزمة السورية، ليس في اليرموك وحده، بل على كل جبهات القتال. 

بقي الجدل محتدماً في صفوف الفصائل الفلسطينية إلى أن صدر بيان اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية الذي أعاد التأكيد على تحييد الحالة الفلسطينية في سوريا، وعدم الزج بها في الأزمة، ودعوة المسلحين للانسحاب من المخيمات، ومنها مخيم اليرموك، وعودة سكانها إليها. 

النكبة الفلسطينية في سوريا، لم تتوقف بآثارها عند حدود ما وقع حتى الآن. فما زالت هناك نتائج وتداعيات لم يتم تظهيرها، للانشغال بالقضايا الأكثر أهمية والمتمثلة في توفير الإيواء والمساعدات والإغاثة للنازحين، والبحث عن المفقودين، وتوفير الخدمات الضرورية للتجمعات الجديدة من اللاجئين الفلسطينيين الذين انتشروا في القرى والبلدات السورية، كالكسوة، وقادسيا، وضاحيتها، ودمر، وخربة الشياب، وجديدة الفضل، والدحاديل، وجرمانا، وكفرسوسة، والزاهرة، وغيرها. 

من الآثار الخطيرة التي لحقت بالمجتمع الفلسطيني في سوريا، حركة الهجرة الواسعة من بين أبنائه، وقد طالت بشكل بارز الفئات الوسطى، من مهنيين على اختلاف مهنهم، وهي الفئات الناشطة اجتماعياً وثقافياً واقتصادياً في المجتمع الفلسطيني، ومغادرتها نحو الهجرة الدائمة إلى الخارج، والبحث عن أسباب الاستقرار في دول جديدة، من شأنه أن يمزق النسيج الاجتماعي الفلسطيني في سوريا، وأن يضعفه، وأن يشوهه ويفقده العديد من عناصر قوته وحيويته السياسية والاجتماعية والثقافية. يسود الاعتقاد إن إمكانية عودة هؤلاء إلى سوريا، ستبقى رهناً، ليس فقط بعودة السلام إلى هذا البلد الجريح، بل وكذلك استعادته لعافيته، وهذه المسألة، في الحسابات المعروفة، معقدة وشديدة الصعوبة، مما يدعو للاعتقاد أن الهجرة التي تلت النكبة الفلسطينية في سوريا، سوف تطول ولربما شهدت نمو جيل أو أكثر، في بلدان المهجر، بما في ذلك من انعكاسات سلبية على بناء الشخصية الوطنية الفلسطينية وتطورها.

كما طالت الهجرة، بشكل واسع عنصر الشباب من أبناء الشعب الفلسطيني، العنصر الفتي، الذي على أكتافه يتم بناء الجيل اللاحق. 

لقد باتت ظاهرة عادية أن تنقسم العائلات الفلسطينية في سوريا، بين كهول ما زالوا حتى الآن يكابدون صعوبة العيش في ظل الأزمة القائمة، وبين أجيال الشباب الذين هاجروا لأسباب أمنية واقتصادية، واجتماعية، يصعب زوالها خلال السنوات القليلة القادمة، ما ينبئ بأن هجرة هؤلاء الشباب سوف تدوم طويلاً، ما يعني خللاً في البنيان العمري والسكاني للاجئين الفلسطينيين في سوريا. ولهذا الأمر انعكاساته الاجتماعية والاقتصادية، والديمغرافية، بما في ذلك انعكاسه على حركة الزواج، في ظل اختلاف واسع لعدد الفتيات في العائلات الفلسطينية مقارنة مع عدد الشبان. ولقد شهدنا مثل هذه الظاهرة سابقاً في مخيم الرشيدية في جنوب لبنان، في أعقاب الاجتياح الإسرائيلي، والحرب على المخيمات طوال الثمانينات من القرن الماضي، حين، وبفعل الهجرة إلى الدول الاسكندنافية، بشكل خاص، هرباً من الحصار والمضايقات، اختلال الميزان لصالح الفتيات، بحيث أًصبحت 7 فتيات مقابل شاب واحد. لذا، يمكن لأي دارس اجتماعي أن يلاحظ بسهولة ظاهرة العنوسة تغزو العديد من العائلات الفلسطينية في مخيم الرشيدية وفي غيره من مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، مما أسهم في تعزيز الانزياحات الفكرية في المجتمع الفلسطيني لصالح الفكر الغيبي والتيارات الإسلامية، تعويضاً عن حالة الحرمان الاجتماعي التي تمثلها العنوسة، خاصة في الأوساط ذات الجذور الريفية من بين اللاجئين الفلسطينيين. 

كذلك من تداعيات النكبة على اللاجئين في سوريا، وفي ظل الأزمة التي عصفت بالبلاد، أن الدولة السورية علقت بعض القوانين التي كانت لصالح الفلسطينيين، منها، على سبيل المثال، وقف توظيف الفلسطينيين في الوظائف العامة، وحصرها بالمواطنين السوريين. وكذلك وقف بعض الخدمات الاجتماعية الأخرى، كالعلاج في بعض مؤسسات الهلال الأحمر السوري. ولأن الدولة السورية، كعادتها لا تفصح عن أسباب قراراتها، فإن سيل الشائعات بات هو البديل في تفسير هذه الإجراءات. ولعل أكثر الإشاعات خطورة هي القائلة بأن الإجراءات الرسمية السورية، هي رد فعل على مواقف حركة حماس من الأزمة السورية، وانحيازها لصالح معارضي النظام والمسلحين في حركة الإخوان المسلمين. ولا يحتاج الأمر إلى شرح كثير لنصور رد الفعل السلبي لدى فئات واسعة من مؤيدي النظام ضد خطوات حماس، طالت المواطن الفلسطيني العادي، ما يؤكد حصول شرخ في العلاقات المجتمعية الفلسطينية-السورية. لكن، يمكن القول إن هذا الشرخ ضاق كثيراً بعد التحاق آلاف الشبان الفلسطينيين، في وقت لاحق، باللجان الشعبية وقوات الدفاع الوطني، إلى جانب الجيش السوري، بعد بروز داعش، وخطرها على الجميع، وبعد أن تولدت قناعة، ومزاج شبه طاغٍ أن الدولة هي الملاذ الوحيد، القادر على حماية المواطنين من خطر الفوضى وخطر الإرهاب الداعشي وغيره. 

ولعل من الأمور المثيرة للقلق، لدى اللاجئين الفلسطينيين في سورية، هو سؤال المستقبل. وهو سؤال من شقين: 

الأول، ربطاً بمصير البلد نفسه وما سوف ترسو عليه الحلول السياسية للأزمة؛ وطبيعة النظام الذي سوف ينشأ فيه، وطبيعة العلاقة مع الحالة الفلسطينية، في ظل المستجد. لذلك لا غرابة أمام الغموض الذي يسود الأجواء، وعدم القدرة على توفير إجابات واضحة، أن يسود مزاج لدى الصف الغالب من الفلسطينيين، لا يرغب في تغيير النظام واستبداله بنظام جديد، تحسباً لما يمكن أن يحمل هذا الأمر في طياته من سلبيات. لذلك، في السياق نفسه، تجد مقالات “المعارضين الفلسطينيين” المقيمين في الخارج، في نقد النظام السوري، استياء لدى غالبية الفلسطينيين، ولا نبالغ اذا ما قلنا إن السياسة التي تتبعها السلطة الفلسطينية في إصرارها على تحييد الحالة الفلسطينية، تجد ارتياحاً في صفوف الفلسطينيين، كذلك تجد ارتياحاً مماثلاً في سياسات الفصائل الفلسطينية التي اعتمدت سياسة التحييد وما زالت تتمسك بها رغم كل التطورات.

الثاني، يتعلق بإعادة اعمار ما دمرته الحرب في سوريا. دمار لحق بمخيم اليرموك، بشكل خاص، وباقي المخيمات بشكل عام، وكذلك بأملاك الفلسطينيين في البلدات والأحياء السورية (دوما، جوبر، زملكا، عربين، حرستا...) وفي ظل الأزمة المالية التي تعانيها السلطة، وتعثر اعمار مخيم نهر البارد، وتعثر اعمار قطاع غزة (بما في ذلك ما دمر عام 2008)، يسود اعتقاد واسع أن المخيمات لن يعاد بناؤها مرة أخرى، وأن إعادة البناء، إن هي حصلت، لن تستعيد الأوضاع كما كانت عليه سابقاً من ازدهار واستقرار وطمأنينة أمنية واقتصادية واجتماعية، لذا، لا غرابة أن تكون الهجرة هي السبيل الوحيد المتوفر أمام صف واسع من اللاجئين في سوريا، لحل مشاكلهم الاجتماعية والاقتصادية، والشروع من جديد في بناء مستقبل آخر، بعدما باتت آفاق المستقبل في سوريا، وفق تقديرهم، شبه مغلقة.

نفترض بأن القيادة السياسية الفلسطينية عليها أن تتعامل مع قضية اللاجئين في سوريا باعتبارها واحدة من القضايا الوطنية الكبرى، توضع على نفس السوية مع قضية القدس، وإعادة اعمار قطاع غزة، وغيرها من القضايا المهمة واليومية التي يفترض ألا تغيب عن جدول أعمال الهيئات المعنية في م.ت.ف، وبناء عليه نقترح: 

ضرورة تشكيل هيئة وطنية عليا من أعضاء في اللجنة التنفيذية، تكون لها امتداداتها في سوريا من ممثلي الفصائل، والناشطين في المجتمع المحلي لبحث الملفات الناشئة عن النكبة، ووضع خطط عمل لها، ومتابعة كل ملف بالاتجاهات المطلوبة. 
تأسيس صندوق وطني خاص بالحالة الفلسطينية في سوريا، تموله الدول العربية والجهات المانحة، تديره هيئة وطنية ولجان اختصاص، من أصحاب الكفاءة والشخصيات المعروفة بنزاهتها ونظافة كفها، بعيداً عن أية محاباة أو زبائنية، وبعيداً عن أية عصبوية فئوية أو جهوية أو حزبية أو تنظيمية. 
الضغط على وكالة الغوث (الأونروا) لتحويل مساعداتها المتقطعة إلى مساعدات شهرية وثابتة بحيث تؤمن دخلاً شهرياً للحالات المعوزة ولمن فقدوا مصادر رزقهم.
إعادة رسم خارطة توزيع مراكز الوكالة بما ينسجم مع إعادة انتشار اللاجئين النازحين عن مخيماتهم وأماكن سكنهم. 
توفير آلية قانونية لبحث قضايا الموقوفين لدى الدولة، وإحالتهم إلى القضاء والبت بأوضاعهم بالسرعة الممكنة وإطلاق سراح الأبرياء منهم. 
توفير آلية معينة تتيح للنازحين العودة إلى المخيمات التي باتت تحت سيطرة الدولة وإدارتها، كمخيم سبينة على سبيل المثال. 
إيجاد آلية مثابرة للبحث في حل سلمي لمخيم اليرموك، يقود إلى إخلائه من المسلحين، ورجوع سكانه إليه واستعادته للأمن والأمان، وضمان تحييده، كتحييد باقي المخيمات، وفتح ملفات إعادة الاعمار والتعويض على المتضررين. 
اعتماد ضحايا الحرب شهداء في الدوائر المعنية في م.ت.ف، واعتماد الجرحى والمعوقين والبحث في حلول بعيدة الأجل لقضية هؤلاء. 

مما لا شك فيه أن التطورات التي شهدتها الحالة الفلسطينية في سوريا، (وفي قطاع غزة)، وما تلاها من موجات هجرة، إلى الخارج، ونزوح داخلي، في ظل الدمار الشامل الذي لحق بالمتضررين، من شأنها أن تضع حركة اللاجئين، والنخب السياسية والمجتمعية المعنية بقضايا اللاجئين وحق العودة، أمام واقع جديد، يتطلب تطويراً ملموساً في الرؤية وفي التوجهات وفي آليات التحرك في الميادين المختلفة. 

لقد بات حراك اللاجئين، إن على المستوى الشعبي العام، أم على مستوى النخب، ممثلة بمنظمات المجتمع المدني ومؤسساته الأهلية، أمام مهام من ذات طبيعة مركبة. 

فما زالت مهمة الدفاع عن حق العودة، ضد المشاريع البديلة، تقف على رأس المهمات، خاصة في ظل الحراك السياسي الذي تشهده الحالة الفلسطينية. المشروع العربي ـــ الفلسطيني، الذي قدم إلى مجلس الأمن الدولي، نهاية العام المنصرم، وفيه تلويح واضح بالتنازل عن حق العودة إلى الديار والممتلكات لصالح حل آخر “متفق عليه” مع اسرائيل، صاغت إطاره العام مبادرة السلام العربية، التي كانت تجاهلت في نصوصها، أي ذكر لحق العودة. مع التذكير بأن فكرة “الحل المتفق عليه”، هي بالأساس واحدة من بنات أفكار الرئيس الإسرائيلي السابق شمعون بيريس، سربها في كتابه الشهير “زمن السلام” باللغة الفرنسية، يوم كان وزيراً لخارجية الكيان، في حكومة أسحق رابين، وفي ظل موجة الوهم التي اجتاحت بعض الأوساط الفلسطينية، بقرب الوصول إلى تسوية للصراع. وردت فكرة “الحل العادل والمتفق عليه” في كتاب بيريس، كحل بديل لحق العودة للاجئين إلى الديار والممتلكات. الخطير في الموضوع أن الجامعة العربية في قمة بيروت (2002) تبنت المشروع الإسرائيلي، كما صاغه بيريس، والأكثر خطورة أن المفاوض الفلسطيني تبنى، هو الأخر، هذا المشروع الإسرائيلي، ويحاول أن يقدمه باعتباره مظلة سياسية عربية للتخلي عن حق العودة. 

لذا، نعتقد في هذا السياق، أن الدفاع عن حق العودة، والتصدي للمشاريع البديلة، سيبقى على جدول أعمال حركة اللاجئين. في الإطار ذاته، ننبه إلى ان المشروع الفرنسي، المدعوم أميركياً، والذي يجري التحضير لإعادة تقديمه إلى مجلس الأمن، في ظل غطاء عربي وفلسطيني، سيكرر هو الأخر، الدعوة إلى حل قضية اللاجئين تحت سقف “الحل العادل المتفق عليه” وتحت سقف “مبادرة السلام العربية”. إن انشغال حركة اللاجئين بالشأن الاجتماعي الناتج عن الأوضاع المستجدة في الدول العربية بأثارها السلبية على الوجود الشعبي الفلسطيني، يجب ألا يلهينا إطلاقاً عن التنبه لخطورة التحركات السياسية الهادفة إلى استغلال الأوضاع الشعبية الفلسطينية المنكوبة اجتماعياً، لتمرر مشاريعها على حساب حق العودة للاجئين.

إلى جانب ذلك، طغت على الاهتمامات القضايا المعيشية اليومية، خاصة في ظل تدهور الأوضاع العربية التي طالت أكثر من تجمع فلسطيني (سوريا، اليمن، العراق، ليبيا...) بتداعياتها المعقدة. وهو أمر أعاد انتشار اللاجئين الفلسطينيين بطريقة أخرى. فقد زادت أعدادهم في لبنان (حيث لجأ إليه حوالي 45 ألف لاجئ فلسطيني)، وكذلك في أوروبا، خاصة البلدان الاسكندنافية، ومصر، والجزائر. وهي تطورات، بإحداثها تغيرات في خارطة الانتشار الفلسطيني اللاجئ، تملي على حركة اللاجئين، وخاصة النخب الناشطة في ميدان الدفاع عن حق العودة، واجبات جديدة، تفترض تعديلاً في الاهتمامات. 

لم يعد يكفي الوقوف أمام القضايا المبدئية، كالتمسك بحق العودة، بل بتنا أمام واقع يتطلب سياسات جديدة، تعتمد الإغاثة للمنكوبين، بشكل رئيس، وتوفير أدوات حراك سياسي اجتماعي، في صفوف اللاجئين إلى دول المهجر في أوروبا. 

هؤلاء الذي لجأوا إلى أوروبا، يحملون في ذاكرتهم كوابيس، تحتاج زمناً لتخف وطأتها، فضلاً عما سيلاقونه من صعوبات في الاندماج، وما يضعهم في الوقت نفسه أمام خطر الابتعاد عن الانخراط بالحراك الوطني، خاصة وأن دول اللجوء، تشجع على مثل هذا الحراك، مما يدعونا لأن نفكر معاً بتعديل آليات عملنا وخططها، وتعديل وجهات اهتماماتنا السياسية والاجتماعية. 

الواجبات الملقاة على عاتق السلطة السياسية الفلسطينية، مهمة بل شديدة الأهمية، لكن تفعيل المجتمع المدني الفلسطيني، والعمل على ترميم انهياراته هنا وهناك، وتعزيز مفاصل عناصره، لا يقل أهمية عن الحراك الرسمي.


 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 
*معتصم حمادة: المنسق العام لمجموعة 194 في سوريا، دمشق.