القضية الفلسطينية في ذكراها السابعة والستين: ضياع وشرذمة ويأس واغتراب
بقلم: أحمد مفلح*
-
هل من جهة رسمية ومسؤولة فلسطينية (م.ت.ف – السلطة الفلسطينية – الفصائل – اللجان الشعبية – هيئات المجتمع المدني ...) تحمي اللاجئين الفلسطينيين وترعاهم؟
-
هل الأونروا مؤهلة قانونيًا ومن واجبها أن تكون هذه المرجعية؟
-
هل حكومات الدول المستضيفة تقوم بهذا الدور وتتعامل مع الفلسطينيين ببعد إنساني ووطني وقومي وتقدم هذه الرعاية الاجتماعية والسياسية؟
-
هل من منظمة دولية أو مدنية – إنسانية ذات طابع دولي تحمي الفلسطينيين موضوعياً في مخيمات الداخل والخارج؟
-
هل الفلسطينيون انفسهم يحمون بعضهم بعضاً بعد حال الانقسامات الوطنية والعقائدية والطبقية والمكانية التي يعيشونها؟
-
هل ثورات الربيع العربي وادعاء الحرية والديمقراطية أنعشت حال الفلسطيني بعد معاناته مع القمع الرسمي في هذه البلدان؟
-
تطول لائحة التساؤلات، والجواب واحد "لا"، فلمن يترك الأحد عشر مليون فلسطيني إذًا؟ طبعاً لم نعد نسأل أين فلسطين وواسطة عقد الوطن العربي وأولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين وكنيسة القيامة، بل أين هؤلاء الناس المرميون دون قيادة أو مرجعية وهم من علّم العرب معنى الثورة والتضحية والفداء؟ فهل هذا معقول؟ ومسؤولية من؟
تعالوا نتناقش معاً بهدوء،
وهذا غريب وليس من شيمنا، تعالوا يا أوصياء المنظمة والسلطة والفصائل
ومؤسسات المجتمع المدني ويا عقلاء هذا الشعب ونخبه ومثقفيه، لمن
سيُترك هؤلاء الناس؟ فالدول العربية سحبت يدها التي كانت ممدودة خجلًا
وببعد إنساني وليس وطني أو مقاوم، وسدّت منافذها أمام هؤلاء الناس
وكأنهم حشرات أو عدوى مرضية، لا دولة عربية تسمح بدخول لاجئ فلسطيني
إلا بشق الروح. ودول الاستضافة قدّمت أقصى ما عندها من دروب العنصرية
والقتل والقمع السياسي والاجتماعي والمعيشي للتخلص منهم، ولم تقصر
ثورات الربيع العربي في تنفيذ تصورات هذه الأنظمة وسياساتها من دون
وجل تاريخي وسياسي كان يعرقل ربما أو يُبطئ هجمة الأنظمة التي "ثاروا"
على قمعها! ونحن أيضاً لم نقصّر بحق بعضنا ذبحاً وتقتيلاً حيث وجدنا
مدخلاً لذلك باسم الوطنية والمقاومة والحقوق وفلسطين، فذبحنا بعضناً
بعضاً من شدة شوقنا لفلسطين وإخلاصاً لعدالة قضيتها، طبعا ليس من أجل
المصالح الشخصية ومكاسب الكراسي والمناصب، العياذة بالله.
على أبواب السنة السابعة والستين للنكبة، لا نسأل أين أصبحت فلسطين،
بل ماذا حل بالفلسطينيين. فلسطين ضاعت في مؤامرات العرب قبل الغرب،
وفي جهل قادة الفلسطينيين ونخبهم مع عدوانية الصهيونية، فلا نحن
حافظنا على تضحيات أهلها ودمائهم، ولا أتقنا فن التفاوض أو علومه
ومعرفة ماذا نريد، فاوضنا على فتات وسلّمنا الأساس، فاوضنا على حبات
تراب منثورة ونسينا البشر والإنسان.
من نهر البارد إلى اليرموك
إن عدّدنا مآسي اللاجئين الفلسطينيين في مخيمات اللجوء فلا يتسع
المجال، من الأردن وأيلولها الأسود، إلى لبنان وحروبه الأهلية،
والعراق وخرابه، وليبيا وجنون قائدها ... وسوريا ونهايتها. فهل تعلمنا
درسًا في ألا نتدخل في ما لا يعنينا؟ أو ألا يتدخل مستولو المرجعية
عندنا (حيث لم يختر فلسطيني قيادته وقادته طوعًا وقناعة وديمقراطية)
في ما لا يعنيهم على حساب حياة شعبهم وقضيتهم، ويكون الثمن من رصيد
عدالة القضية وأرواح جماهيرنا وتأكيد عدم أهلية هذه القيادة في
القيادة وحل أبسط مشكلة في مخيم؟ فما بالكم بحل قضية من أعقد القضايا
السياسية والتاريخية والثقافية والدينية والاقتصادية والوجودية في
التاريخ الحديث والمعاصر؟
من المعروف أن مخيم نهر البارد دُمّر بعد انتهاء المعركة والقضاء على
فتح الإسلام التي كان أفرادها يتموقعون خارج المخيم الأساسي أو
القديم، وبغض النظر عما جرى في المخيم ومن كان وراء هذه العصابة ومن
أتى بها إلى المخيم، لكن السؤال والإشكالية الأساس هي كيف احتلت هذه
العصابات المخيم؟ وأين مرجعية المخيم والفلسطينيين التي كان عليها أن
تتحرك قبل تمركز هؤلاء في المخيم، وتحمي هذه المرجعية المفترضة أهلها
في المخيم وتحول دون وقوع هذه المجزرة السياسية والنفسية والتنموية
والمعيشية لأكثر من ثلاثين ألف نسمة يقيمون في المخيم. ولنفترض أنها
وقعت، أين هذه المرجعية المسؤولة التي كان عليها أن تقف في وجهة
الأعمال الانتقامية وتدمير المخيم وحرقه وجرفه؟! ولنفترض أيضًا أن
النقمة العنصرية من المخيم وأهله وقعت، أين المرجعية المسؤولة عن
إعادة إعماره وإعادة الاستقرار والأمن والكرامة لسكانه؟ فبعد أكثر من
سبع سنوات على دماره لم يعمّر نصفه اليوم، ولا يزال أكثر من نصف أهله
مشردين وحقوقهم مهدورة ومسروقة ومتروكة للعصابات والفاسدين، ولا من
يسأل من القيادة الفلسطينية.
الشيء نفسه يقال عما يجري في مخيم اليرموك، حفنة من "المهووسين" في
المخيم أرادوا تحرير سوريا من القمع، وحفنة أخرى أرادوا الدفاع عن
سوريا ونظامها، واختزل هذان الطرفان عشرات آلاف الفلسطينيين،
والمرجعية الرسمية غائبة، كما روح المسؤولية غائبة، والنتيجة دمار
المخيم وتشريد أهله، لكن هذه المرة إلى البلدان البعيدة، إلى
أوروبا.
لا شك في أن حال اليرموك لن يكون أفضل حالاً من حال نهر البارد، لا بل
ربما لن يعمر اليرموك أو حتى نصفه كما جرى في مخيم نهر البارد، لأن
صوت الفلسطيني في تراجع وانهيار دراماتيكي سريع، وربما لن تنهي معركة
سوريا، بغض النظر عن المنتصر، ستكون المرجعية الفلسطينية بوجوهها كلها
قد غابت نهائياً.
توقفنا عند هذين المخيمين (نهر البارد واليرموك) لنبرهن أن هذه
القيادة والمرجعية غير قادرة على الدفاع عن مخيمين يقطنهما عشرات
الآلاف من الفلسطينيين، فكيف بها في حمل القضية وحال ملايين
الفلسطينيين؟
والنتيجة
نسيان فلسطين وقضيتها ولمّا تزل في عز عنفوانها وعنفوان أهلها وتعلقهم
بها، فما معنى سبعة وستين سنة في حياة شعب وتاريخ ومستقبل أمة؟
التنازل عن المشروع الوطني الفلسطيني والحركة الوطنية التي كان من
المفترض أن تكون في وجه الحركة الصهيونية.
خسارة الانجاز الذي تحقق بدماء الفلسطينيين وتضحياتهم، منظمة التحرير
الفلسطينية التي يجب ومفترض أن تكون المرجع الأساس للفلسطينيين.
التمسك بسلطة كسيحة على عُشر أرض فلسطين (بعد استقلال غزة) غير قادرة
على تأمين الحد الأدنى من متطلبات المعيشة والأمن للفلسطينيين
الواقعين تحت رحمتها، فهذه السلطة غير قادرة على تأمين ما يحتاج إليه
المواطن الفلسطيني من كمية المياه التي حددتها له الأمم المتحدة!
تشرذم الفلسطينيين وضياعهم هائمين على وجوههم في البلدان المضيفة وفي
فيافي الدول الأوروبية.
فقدان الاندفاع الجماهيري نحو ثورته وحركته الوطنية، إن لم نقل عدم
احترام الفلسطينيين لهذه الحركة وفصائلها، ولمرجعيتهم المفروضة
والمفترضة.
فقدان المشاريع والأحلام والمستقبل عند الشباب، الأمر الذي ضرب العلم
والثقافة وترك الساحة للأفكار الهذيانية والخزعبلات والميتافيزيقية
والأصولية والسلفية... وصولاً إلى داعش وأخواتها.
ضياع الشباب وفقدانهم حياتهم غرقاً في بحار التشرد والهروب والبحث عن
حياة تحفظ إنسانيتهم وتؤمن لهم الحد الأدنى من متطلبات العيش.
والخطورة هنا ليس في بشاعة هذا الوضع فحسب، بل في ضياع القضية بابتعاد
أصحابها وكفرهم بها، فحال الهروب إلى البلدان البعيدة عن فلسطين، وهذا
ما عملت عليه الأدوات الصهيونية والغربية، وسهلته الأنظمة العربية،
وتغابت عنه القيادة الفلسطينية بلا مسؤوليتها وجهلها وغياب البرامج
التعبوية والتثقيفية عندها، فشاخت القضية في مقتبل عمرها، شاخت قبل
اكتمال الجيل الثاني من أبنائها، في مقابل تقدم العدو الذي كان مشتتاً
أصلاً ولا تجمعه إلا دعاية غيبية/دينية حيث لا لغة ولا ثقافة ولا أرض
ولا تاريخ ولا هوية له.
من المسؤول؟
جميعنا مسؤولون، والمسؤولية تقع على الشعب أو القاعدة الشعبية قبل
القيادة، لأنه كما تكونوا يولّى عليكم، فهذه القاعدة سكتت على هذه
النخبة وتساهلت مع تراجعها وفسادها وجهلها، صدقنا في لحظة من لحظات
التجلي والنشوة الكاذبة والخادعة وانسقنا وراءهم، هتفنا مثل باقي
أبناء هذه الأمة العربية المبلية بقادتها أننا سنفدي القائد بروحنا
ودمنا، يموت الشعب ليبقى هو، وهكذا صار، تركنا القضية بيد غير أمينة
ولا مؤتمنة، تماهينا به حتى العبادة، وكانت رمزيته أفيوناً لم نفق منه
إلا وضاعت التضحيات والعزة والكرامة... والقضية وفلسطين، والثمن سجادة
حمراء بالية وكرسي نخره سوس الفساد والتخاذل والتخبط وعدم التخطيط
والجهل ركائزه، شاخت هذه القيادة وبالت على نفسها وقاعدتها وتاريخها
ومستقبلها... والشعب بين التيهان وفقدان الأمل والصدمة واليأس.
فصائل عاجزة، وهيئات مدنية فاسدة، ومراكز ثقافية مرتهنة للأجنبي
وأمواله وتطلعاته ومشاريعه، وشباب طائش وجاهل أقصى آماله تأشيرة
هروب... فقدنا سلاحنا كله: المشاريع والأحلام والوطنية والفداء وعدالة
القضية وتأييد الشعوب العربية والثورية والتقدمية في العالم، فقدنا
سلاح العلم والديموغرافيا، مناهجنا غابت عنها فلسطين لأنها بتوجيهات
وكالة الأونروا والبعثات الدولية، والثورة صدقنا أنها صارت إرهاباً،
وصدقنا أن أصول السلام هو الاستسلام، مزّقنا ميثاقنا الوطني كرمى
أوسلو، استبدلنا فلسطين بأقل من ربعها، فضاعت ولم نحصل على هذا الربع
المسيّج إلا مما يتحنن به عدونا، حلمنا أننا دولة وصحونا على أقل مربع
لا معابر له ولا فضاء ولا نبع ماء ولا حتى مجرور للمياه الآسنة.
استبدلنا نصرنا في فترة تاريخية بهزائم خططنا لها وعملنا عليها،
والتعاطف بعداوة اخترناها وحسبناها سياسة وتكتيكاً واستراتيجيا، دخلنا
مع الأنظمة العربية على شعوبها، وقاصصنا من أيدنا، زججنا أنفسنا في
مزالق الأنظمة وتركنا قضيتنا، رحنا نبحث عن حرية للشعوب العربية
ونسينا شعبنا.
هذه حال قضية فلسطين في السنة السابعة والستين من عمرها، قضية متروكة
بلا مراجع ولا مرجعية، قضية تفاوض على بئر ماء هنا ومجرور هناك ورفع
حاجز وتصريح مرور... قضية عُشر فلسطين وجزء من أهلها وصراع داخلي
وأجهزة أمن على بعضنا بعضاً ... وقضية ملايين تائهين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*أحمد مفلح: كاتب وباحث فلسطيني مقيم في لبنان