المنظمات الشعبية ومؤسسات المجتمع المدني في فلسطين: الواقع والدور والتحديات

بقلم: نصار إبراهيم

بدايةً يجب التنويه إلى الملاحظات المفتاحية التالية:

  • ضرورة التمييز بين المفاهيم التالية: المنظمات والاتحادات الشعبية - النقابات - منظّمات المجتمع الأهلي أو المدني – المنظمات غير الحكومية.
  • نشوء المنظّمات الأهلية أو منظمات المجتمع المدني: مفهوم المجتمع المدني – إشكالية المفهوم (دور الدولة – البنى الإجتماعية العضوية ومنظمات المجتمع المدني - التناقضات الاجتماعية).
  • عادة ما يبدأ النقاش بصورة معكوسة وخاطئة؛ حيث يبدأ بنقاش طبيعة ودور المنظمات الأهلية، بينما الصحيح هو البدء بتحديد الواقع الاجتماعي من حيث التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ودور الدولة/السلطة، والتناقضات والتحديات وبالتالي المهام التي تواجه المنظمات الأهلية.
  • في الواقع الفلسطيني: النتائج التي ترتبت على الإحتلال الكولونيالي الإسرائيلي طويل المدى: الاقتلاع والتشريد – إنشاء المعازل – الاستيلاء على الأرض والمصادر الطبيعية – التبعية والسيطرة الاقتصادية. هذا الواقع يفرض: تشابك مهام التحرر الوطني مع مهام البناء الديمقراطي والصمود الاجتماعي.

 

الاتحادات والمنظمات الشعبية والنقابات:

ارتبط تبلور ونشوء الاتحادات والمنظمات الشعبية والنقابات وأيضاً القوى السياسية في فلسطين بخصوصية الواقع الفلسطيني، وبالتالي فإن التحديات والأسئلة التي واجهتها - ولا تزال تواجهها -  تختلف نوعياً عن التحديات والأسئلة التي تواجه أي منظمات شعبية نشأت في سياق التطور الطبيعي لأي مجتمع.

بعد نكبه الشعب الفلسطيني عام 1948 وتشريد ملايين الفلسطينيين كلاجئين، وقيام دولة "إسرائيل"، ثم الاستعمار الكامل لفلسطين إثر حرب حزيران 1967، وجدت الحركة الشعبية والمنظمات الجماهيرية [الطلاب، العمال، المرأة، الكتّاب، الفلاحين، المعلمين، الصحافيين] نفسها أمام مهام سياسية كبرى، تركّزت على حماية الهويّة الوطنية الفلسطينية والنضال من أجل إنهاء هذا الاستعمار وإقامة الدولة الوطنية المستقلة. هذه الحقيقة جعلت من تلك المنظمات الشعبية بمثابة حاضنة ولدت من رحمها القوى والأحزاب السياسية [فتح، الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، الحزب الشيوعي الفلسطيني وغيرها ...].

من هنا تمحورت المهمة الأساسية لتلك المنظمات الشعبية حول النضال السياسي ووضعته في أعلى سلم أولوياتها، أما البُعد الاجتماعي فكان يأتي ثانياً أو حتى عاشراً. في هذا السياق، أصبحت تلك المنظمات ميدان تنافس وصراع سياسي حاد بين القوى والأحزاب السياسية الفلسطينية؛ لأن نفوذ تلك القوى ومدى تأثيرها - وبالتالي وزنها الوطني - كان يقاس بمدى قدرتها على الإنتشار والسيطرة في المنظمات الشعبية والحركة النقابية مما ترتب عليه جملة من المظاهر منها:

  • أولاً: انزياح تاريخي في دور الحركة الشعبية والمنظمات الجماهيرية، تمثّل بالتّركيز على البعد السياسي دون البعد والمهام الاجتماعية
  • ثانياً: قيام الأحزاب السياسية الفلسطينية بتشكيل نقاباتها ومنظماتها الجماهيرية الخاصة، الأمر الذي أدى إلى حالة من التبعثر والتشتت
  •  ثالثاً: اتّساع سلوك الهيمنة والتفرد، الأمر الذي أدّى إلى مصادرة استقلالية المنظمات الشعبية وضرب جوهر خصوصيتها ودورها الاجتماعي من قبل القوى السياسية المهيمنة عليها وعلى قيادتها.

ضاعفت سياسات الاستعمار الإسرائيلي من عمق هذه المظاهر، والتي قامت على مدار عقود متواصلة بتغذية الاختلال في بنية المجتمع الفلسطيني، وتبعاً لذلك تشويه واقع حركته الشعبية. المقصود بذلك حالة القمع والقهر السياسي التي جسدها سلوك الاستعمار اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً، والتي تجلّت على شكل محاولة مستمرة لتغذية روح الإنتهازية عند المنظمات الشعبية في محاولة لجذبها بعيداً عن محور النضال السياسي ودفعها باستمرار لزاوية الأدوار الاجتماعية الهامشية، وفي ذات الوقت إتّباع سياسة قمعية فاشية ضد القوى والتنظيمات السياسية الفلسطينية. غير أن هذه السياسات جاءت بنتائج معاكسة، والتي يمكن إرجاعها إلى قوة ودينامية التحديات والتناقضات الموضوعية التي تحكم الحالة الاستعمارية في فلسطين. لهذا وبقدر ما كانت القوى والتنظيمات السياسية تجد نفسها أمام المزيد من القمع الاستعماري، كانت تعزز دورها وحضورها في المنظمات الجماهيرية والنقابات كنوع من عملية الحماية والتكيّف إلى جانب الدور الجماهيري النضالي، الأمر الذي أدى أكثر فأكثر إلى هيمنة الدور السياسي على الدور الاجتماعي لتلك النقابات والمنظمات.

إنّ المنظمات الجماهيرية الفلسطينية بقدر ما كانت الحاضنة لولادة ونشوء التنظيمات السياسية، فإنها في ذات الوقت قامت بفرض هيمنتها السياسية والفكرية على تلك المنظمات الشعبية والنقابات.

 

الاستخدام السياسي للمنظمات الشعبية من قبل القوى والأحزاب السياسية:

عندما كانت تشعر القوى السياسية بأن دورها ومكانتها مهددة، أو عندما تشعر القيادة السياسية بأنها تتعرض للضغوط، فإنها تستحضر المنظمات الشعبية والنقابات وتقوم بتحريكها لتخفيف ذلك الضغط؛ إذ تجلى ذلك في الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987 والانتفاضة الثانية عام 2000. هكذا نلاحظ أن الحركة الشعبية والمنظمات الجماهيرية والنقابات يجري استخدامها بما يشبه ورقة الاحتياط من قبل السلطة والقوى السياسية عند الضرورة، وبعد انتهاء عملية الاستخدام يجري دفعها من جديد إلى الزاوية وضبط إيقاعها.

إن الأخطر من ذلك هو أن يتم توظيف المنظمات الجماهيرية والنقابات لحل التناقضات الداخلية واستخدامها كوقود لحركة هذه التناقضات، وأبرز نموذج على ذلك التناقض الراهن بين حركة حماس وحركة فتح، حيث يقوم كل طرفٍ بدفع جماهيره ومنظماته الشعبية إلى الشارع بما يشبه عرض القوة، غير أن هذا السلوك السياسي يدفع بالحركة الشعبية إلى مزيد من التمزق والتشاؤم، ويدفع بجهودها وطاقاتها بعيداً عن أولوياتها ومصالحها السياسية والاجتماعية، أي النضال ضد الاستعمار وتحسين ظروف وواقع حياتها الاجتماعي والاقتصادي.

الحركة الشعبية الفلسطينية والمنظمات والنقابات الجماهيرية حركة واسعة وتملك خبرة عميقة، وتملك شروط حقيقية للفعل والتأثير، لكنها في ذات الوقت تحتاج إلى حركة سياسية تمتلك من الحيوية والاستعداد للنقد وتجديد البرامج والرؤية ما يمكنها من التأثير في تلك المنظمات الشعبية والتفاعل العضوي معها بصورة جدلية بما يستجيب لشروط الواقع الاجتماعي والسياسي الفلسطيني.

فمهام التحرر الوطني ومهام البناء الاجتماعي تفرض بالضرورة التشارك والتكامل ما بين بنى السلطة / الدولة والمنظمات الأهلية. (ما قبل أوسلو – ما بعد أوسلو). هذا يشترط أن يعي كل طرف بدوره جيداً، بحيث لا تبتلع القوى السياسية وبنى السلطة المنظمات الشعبية وتفقدها استقلاليتها وخصوصيتها ودفاعها عن مصالح القطاعات التي تمثلها.

 

مؤسسات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية والمسألة الديمقراطية:

يكمن جذر مشكلة تناول مفهوم المجتمع المدني الفلسطيني في قفز العديد من الساسة والمثقفين عن الخصوصيات السياسية والاجتماعية التي تشكلت بالمعنى التاريخي في الواقع الفلسطيني. فـ"المجتمع المدني" مفهوم اجتماعي تاريخي يرتبط بتطور المجتمع، وبصورة أكثر تحديداً، إنه يعود إلى تشكل الأمة الحديثة والدولة الحديثة؛ إذ تشكلت الدولة القومية الحديثة كاستجابة موضوعية وذاتية للتحولات والتناقضات الاقتصادية والاجتماعية التي حملتها الثورة البرجوازية الديمقراطية في أوروبا، والتي يكمن جوهرها في انتصار البرجوازية وسيطرتها على الدولة كأداة سيطرة طبقية.

وضع هذا التحول المجتمعات الأوروبية والقوى السياسية والاجتماعية أمام أسئلة وتناقضات جديدة تفاعلت معها بعمق في محاولة لإدارة التناقضات وضبطها، الأمر الذي شكل البيئة الموضوعية لقيام وتطور مؤسسات المجتمع المدني كبنى وسيطة بين البنى الاجتماعية الطبيعية أو العضوية {الأسرة، العشيرة، الطائفة...} وبين الدولة كأداة سيطرة شمولية، وذلك بهدف الحد من الإجحاف والظلم الذي تلحقه الدولة ببعض الفئات والقطاعات الاجتماعية. وكنتيجة لذلك، وجدت تلك الفئات نفسها أمام ضرورة الانتظام في بنى ومؤسسات على أساس الدفاع عن المصالح المشتركة لها بغض النظر عن انتماءاتها الطبيعية.

إذن، إن الشرط الموضوعي لبناء مؤسسات المجتمع المدني يتجلى في وجود الدولة القومية أو الوطنية وسيادة النظام الديمقراطي، أي قبول جميع الأطراف بأسس وقوانين اللعبة الديمقراطية في إطار هذه المعادلة التي تتشكّل تاريخياً واجتماعياً في سياق التطور الإجتماعي.

انطلاقاً من هذا الفهم وبالعودة إلى الواقع الفلسطيني، نجد أنفسنا أمام معضلات عميقة تبدأ بنقاش فرضية وجود المجتمع الفلسطيني بشكل عام والمجتمع المدني بشكل خاص، حيث التمزق والتشتت وتشكّل مجتمعات فلسطينية في سياقات اجتماعية وسياسية واقتصادية متباينة {الشعب الفلسطيني في الضفة، ثم في قطاع غزة، فلسطينيو 48، ثم الشتات الفلسطيني الخاضع لتجارب وأنظمة وبيئات إجتماعية وسياسية مختلفة}.

وكي لا يذهب النقاش إلى متاهات معقدة، فإننا سنتوقف أمام المجتمع الفلسطيني في الضفة والقطاع، وذلك بحكم خضوعه لذات السياقات والشروط السياسية/الاجتماعية/والاقتصادية. هذا الجزء من الشعب الفلسطيني يواجه خصوصية أساسية تتمثل في الإحتلال الاستعماري الذي يهيمن ويسيطر على كل مقدرات الضفة والقطاع، إضافة إلى غياب الدولة الفلسطينية، أي أن هذا الواقع الموضوعي يشكل شرطاً لقراءة واستيعاب تجارب الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع، وبكلمات أخرى، لقد تشكّلت ما تسمى بمؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني كبنى سياسية/ اجتماعية، هدفها الأساسي مقاومة الاستعمار. ولم تتشكّل بالأساس للدفاع عن مصالح الفئات أو القطاعات الاجتماعية لمواجهة قهر جهاز الدولة الوطنية.

 

في ضوء هذا الواقع، نجد أن مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني تتحرك تحت تأثير ديناميات ضاغطة ومتداخلة:

الأولى: التحديات التي يفرضها الاستعمار على كل الأصعدة، فتشكّل مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني جاء كاستجابة لشروط مقاومة الاستعمار، ولهذا فإن معظم تلك المؤسسات تشكلت بمبادرة من قبل أحزاب وتنظيمات الحركة الوطنية الفلسطينية، الأمر الذي جعل بناها وبرامجها وعلاقاتها أقرب لبنى تلك الأحزاب السياسية، هذا من جانب. ومن جانب آخر وفي ظل حدة التنافس بين القوى السياسية للسيطرة على الشارع الفلسطيني، فقد بقيت تلك المؤسسات والمنظمات الشعبية والنقابية تعاني من الانقسام وتشكيل الاتحادات النقابية والمنظمات الديمقراطية الموازية، كما هو واقع الحال بالنسبة لاتحاد العمال والمنظمات النسوية والعديد من النقابات المهنية، الأمر الذي أفقدها إمكانية التوحد على برنامج اجتماعي ديمقراطي وتوجيه النضال الاجتماعي لتحقيق هذا البرنامج.

الثانية: في ضوء الدينامية السابقة، فإن معظم المؤسسات والمنظمات الشعبية تموضعت على أطراف القوى السياسية، الأمر الذي أفقدها دور الفاعل والمؤثر في مواجهة هيمنة القوى السياسية، وحولها إلى قوة احتياط تستدعى عند الحاجة.

الثالثة: هذا الواقع والسمات والأدوار التي تحددت لمؤسسات المجتمع المدني والمنظمات الشعبية، أي هيمنة الوظيفة السياسية على دورها الاجتماعي حولها إلى هدف مباشر من قبل الاحتلال الاستعماري الإسرائيلي ومؤسسات التمويل الغربية، وذلك من أجل السيطرة عليها وعلى برامجها، واستخدامها بهدف الهبوط بدورها السياسي ودفعها نحو دائرة التناقض مع الحركة الوطنية وبرنامجها التحرري.

تفسّر هذه الدينامية حالة الانتقال والتحول التي شهدتها المنظمات الشعبية والاجتماعية الفلسطينية منذ الثمانينات ثم التسعينات من القرن الماضي وحتى اللحظة، حيث نلاحظ أنها تراجعت لتخلي المجال للمنظمات غير الحكومية. وهكذا أصبحنا أمام ظاهرة جديدة تتمثل بانتشار مئات أو آلاف المنظمات والمؤسسات غير الحكومية ذات الطابع النخبوي، مقابل تراجع وزن ودورالمنظمات والحركات الشعبية القاعدية، الأمرالذي انعكس على شكل تراجع في جماهيرية الأحزاب والتنظيمات السياسية.

الرابعة: تفاعل وتداخل الديناميات الاجتماعية والسياسية السابقة - في ظل غياب الحرية السياسية والبيئة والتجربة الديمقراطية - جعل تجربة ولادة مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني تشبه العملية القيصرية، ولهذا فهي محكومة في بنيتها وممارستها للمركزية، الأمر الذي جعلها محدودة في قدرتها على جذب القطاعات والفئات الاجتماعية صاحبة المصلحة، وهذا أثر بعمق على دورها الديمقراطي وعلى حيويتها وسرعة المبادرة لديها في مواجهة التطورات والتحديات السياسية والاجتماعية.

 في ضوء ما تقدم، يمكن تقييم أداء مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني من حيث كونه تقييماً ملتبساً إلى أبعد الحدود، وذلك بحكم سياسات وإجراءات الاستعمار من جانب، والتداخل العميق بين الدور الاجتماعي والدور السياسي لتلك المؤسسات من جانب آخر. ففي ظل غياب الدولة الوطنية تركّز نشاط تلك المؤسسات بالأساس في النضال ضد الاستعمار.

هذا الواقع الذي تشكّل سياسياً واجتماعياً في سياق تاريخي، وضع مؤسسات المجتمع المدني في حالة تناقض وصلت إلى حد الأزمة بعد توقيع اتفاقيات أوسلو وقيام السلطة الفلسطينية. حيث لم تتمكن تلك المؤسسات من إعادة بناء ذاتها وبرامجها بما يستجيب لهذا التطور النوعي، ولهذا نجد أنها فشلت في مواجهة انحرافات السلطة وما رافق تجربتها من فساد وإفساد وتعدي على حقوق المواطنين. ويبرز أكبر دليل على هذا الإخفاق في فشل مؤسسات المجتمع المدني والحركات الشعبية في التدخل الحاسم لوقف انحدار حركتي فتح وحماس نحو هاوية الاقتتال الداخلي.

هذه الحقيقة، تثير علامة استفهام كبرى على مدى تأثير وتجذّر هذه المؤسسات والحركات في الواقع الاجتماعي الفلسطيني، كما ويثير علامة استفهام حاسمة حول طبيعة وجوهر العملية الديمقراطية في التجربة الفلسطينية. فمؤسسات المجتمع المدني - كما نوهنا في بداية هذه المقالة - مرتبطة بالمعادلة التي تحكم العلاقة بين: الفرد- البنى الاجتماعية الطبيعية أو العضوية (العائلة، العشيرة – الطائفة) - مؤسسات المجتمع المدني- الدولة – الديمقراطية (كقيم ونظام وسلوك وثقافة)، ففي حين أن الإنسان يكون فرداً في البنى الطبيعية، فإنه أمام الدولة يصبح مواطناً يعبّر عن شروط مواطنته بخياره الديمقراطي وبحقه في التعبير عن آرائه، وبالانتظام لتشكيل وتحريك قوى الضغط  لحماية مواطنته وحقوقه من تجاوزات جهاز الدولة.

 وبما أن العملية الديمقراطية في المجتمع الفلسطيني محكومة بسقف الوظيفة السياسية، التي تعود في مرجعيتها إلى الالتزام بمشاريع وشروط التسوية، فقد تم اختصارها إلى مجرد عملية انتخابية يجري الاستقطاب في إطارها أولاً وعاشراً بين القوى السياسية وخياراتها المتقاطعة أو المتناقضة، في حين بقيت البنى المدنية والاجتماعية والحركات الشعبية محصورة في زاوية الاستخدام التي تحددها تلك القوى لها.

لهذا نجد أنه عند اشتداد التناقض السياسي في ظل حالة الاستقطاب المروعة بين حركتي فتح وحماس على سبيل المثال، فإن المنظمات الشعبية والاجتماعية والمدنية الفلسطينية عانت من حالة استقطاب مماثلة الأمر الذي أفقدها دورها ووظيفتها كقوة توازن وضبط للتناقضات، في حين بقيت المؤسسات غير المنحازة لفصيل أو تنظيم سياسي محدد عاجزة عن الفعل والمبادرة.

هذه الإشكالية تعود بجذورها إلى اشكالية التأسيس الأولى، حيث تشكلت تلك المؤسسات، كما أسلفنا، بمبادرة القوى السياسية وبقيت خاضعة لهيمنتها ومرجعيتها، ولم تتشكل كإستجابة موضوعية وذاتية لحالة الانتظام الاجتماعي وكخيار حرّ لحماية مصالح الفئات والقطاعات والشرائح الاجتماعية في مواجهة تعسّف جهاز الدولة أو السلطة أو في مواجهة هيمنة الحزب السياسي، الأمر الذي يشكل شرطاً حيوياً لتأكيد إستقلالية وديمقراطية أي مؤسسة أو حركة إجتماعية مدنية تعكس حرية الإنتماء والإرادة من قبل الأعضاء المنتمين إليها.

إذن، لكي نتحدّث عن مؤسسات مجتمع مدني فلسطيني، وحتى نثق بقدرتها على حماية العملية الديمقراطية، يجب أن يُعاد تصحيح وعي تلك المؤسسات الاجتماعية أو الشعبية لذاتها وأدوارها، لكي تتأسس هي أولاً وتتطور بصورة ديمقراطية، وأن يكون انتظامها وممارستها ملتزماً بثلاثة ضوابط أو شروط حاسمة:

  • الانتظام الحرّ على أساس الدفاع عن مصالح فئة أو شريحة اجتماعية أو للدفاع عن المطالب والحقوق الاجتماعية أو الإنسانية كحماية البيئة أو الحملات في مواجهة العنف الاجتماعي أو ضد الأطفال أو داخل الأسرة
  • ربط وظيفتها الاجتماعية بمهام التحرّر الوطني كشرط ناظم في ظل الحالة الفلسطينية
  • أن تُبنى على أساس ديمقراطي سواء في بناها الداخلية أو علاقتها مع محيطها الاجتماعي

من خلال ذلك فقط يمكن الحديث جدياًّ عن مؤسسات مجتمع مدني وحركات اجتماعية فاعلة ومؤثرة يكون بمقدورها ترسيخ وحماية العملية الديمقراطية في المجتمع الفلسطيني، وحماية نتائجها حتى تعود تلك العملية لتضاعف قوة مؤسسات المجتمع المدني وترتقي بها بصورة حيوية ارتباطاً بتطور حركة الواقع وما يطرحه من مهام اجتماعية وسياسية.

 

مخاطر تهدد دور المنظمات غير الحكومية والأهلية:

  • شروط التمويل وخاصة المباشرة والمضمرة وبعيدة المدى، التي تفرض التكيّف البطيء على عمل المنظمات الأهلية الأمرالذي يضعها في حالة تناقض مع المهام المطلوبة منها في الواقع إلى الدرجة التي بتنا معها وكأننا مجتمع بكامله مؤسسة حكومية
  • التغير في أجندات الممولين الدوليين
  • الجرأة على طرح احتياجات الشعب الفلسطيني أو بعض قطاعاته
  • التناقض بين الأهداف البعيدة والراهنة والانشداد للبرامج قصيرة المدى
  • الفساد
  • جذب الكادر السياسي والنقابي وإلحاقه بالمنظمات غير الحكومية
  • التطبيع
  • غياب الممول المحلي
  • ضرب فكرة التكافل الاجتماعي والعمل التطوعي

 

خلاصة القول إننا لا نستطيع أن نتحدث أو نقيّم واقع المنظمات الشعبية الفلسطينية والنقابية ومؤسسات المجتمع المدني إلا ضمن منظور تاريخي وشمولي مرتبط بخصوصية الواقع، وفي ذات الوقت ضمن التحديات والصعوبات التي يفرضها الاستعمار وأدواته. ومع ذلك فإن  تلك الحركة وتلك القوى السياسية قد شكلت - ولا تزال - قوة أساسية في التجربة النضالية الفلسطينية، وهي بكلمة تمثل الحامل الاجتماعي والسياسي للقضية الفلسطينية. وبهذا المعنى فإنها قادرة على الاستمرار والتطور، غير أن ذلك مشروط بإعادة قراءة التجربة ورؤية تناقضاتها ونقاط ضعفها، وهذا مرهون بقدرة القوى السياسية الفلسطينية على فهم وإدراك دورها وتطور رؤيتها وبرامجها وأدائها لخلق حالة التوازن في المجتمع الفلسطيني، والتصدي لمظاهر الاختلال في الواقع الفلسطيني.

وحتى تنجح في لعب هذا الدور، عليها أن تحل التناقض والاختلال المزمن في العلاقة مابين المهام التحرّرية السياسية والمهام الاجتماعية والديمقراطية، والتخلص من عقلية الاستخدام الانتهازي للمنظمات الشعبية والنقابات، وتطوير أدائها وتعزيز استقلاليتها ودورها بما يستجيب لوظيفتها الموضوعية في المجتمع الفلسطيني.

 


*نصار إبراهيم: كاتب فلسطيني، ومدير مركز المعلومات البديلة في فلسطين.